لقد راعت الشريعة الإسلامية الكثير من الضوابط والشروط في من يكون له حق التكلم في الشأن الديني ويتصدر للحديث عن الدين والشريعة؛ لما يترتب على ذلك من مسئوليات كبيرة ومخاطر جسيمة، يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾ [النحل: 116] ويقول الحق تعالى شأنه: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36] فنهت الشريعة عن التصدر بغير علم وتأهل، وحرمت ذلك حسمًا للفوضى الدينية وما يترتب عليها من مفاسد عظيمة تهلك المجتمعات والأمم، كما تتعاظم تلك المسئوليات خاصة في العصر الحاضر مع ما فيه من تقدم للوسائل التكنولوجية، ووسائل الاتصالات المرئية والمسموعة والمقروءة؛ مما يسهل إشاعة الأخبار الخاطئة والآراء الفاسدة والترويج لها كما يحدث على وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية وغيرها من الوسائل التي يستغلها أصحاب الأهواء والتيارات المتشددة لتصدير أفكارهم وبث سمومهم عبرها، ولقد رأينا خطر ذلك وكيف أنه قد تحول إلى عنف وإراقة للدماء ونشر للكراهية وتشويه للخطاب الديني بنشر الفتاوى الشاذة والمتشددة التي لا تعبر عن الإسلام وشريعته وروحه وسماحته وتقبله للآخر.
ولذلك وغيره فقد حذر الإسلام من التصدر للإفتاء والحديث في الدين بغير علم، وبيَّن لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ من علامات فساد الزمان أن يكثر عدد الذين يفتون ويتصدرون باسم الدين بغير علم؛ ففي (الصحيحين) عن سيدنا عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلُوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» كما أخرج أبو داود وابن ماجه في سننيهما، عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من أُفتِي بغير علم كان إثمه على من أفتاه» أي أن من أفتاه شخصٌ بغير علمٍ، فعمل بالفتوى كما سمعها منه، كان فيها ذنبٌ على مَن أفتاه بها.
ولأجل ذلك يوضح الإمام الشاطبي في (الموافقات) ويبين مكانة المفتي والإفتاء ودوره في المجتمع، فيقول: «إن المفتي قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم، والدليل على ذلك أمور: أحدها: النقل الشرعي في الحديث: «إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم» وفي (الصحيح): «بينا أنا نائم أتيت بقدح من لبن فشربت حتى إني لأرى الري يخرج من أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب» قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: «العلم». وهو في معنى الميراث وبعث النبي صلى الله عليه وسلم نذيرا؛ لقوله: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ﴾ [هود: 12]. وقال في العلماء: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ﴾ الآية [التوبة: 122]، وأشباه ذلك. والثاني: أنه نائب عنه في تبليغ الأحكام؛ لقوله: «ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب».
ويقول الإمام النووي في (آداب الفتوى والمفتي والمستفتي): «اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر كبير الموقع كثير الفضل لأن المفتي وارث الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وقائم بفرض الكفاية، لكنه معرض للخطأ؛ ولهذا قالوا المفتي: «مُوقِّع عن الله تعالى». وروينا عن ابن المنكدر قال: «العالم بين الله تعالى وخلقه فلينظر كيف يدخل بينهم». ... وروينا عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال: «أدركت عشرين ومئة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول» وفي رواية: «ما منهم من يحدث بحديث إلا ودَّ أنَّ أخاه كفاه إياه، ولا يستفتى عن شيء إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفتيا» وعن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما: «من أَفتى في كل ما يسأل فهو مجنون».
فهذا حال السلف في الفتيا والتصدر لأمر الدين ومسائل الشرع، لا يجترئون عليها وهم أعلم الناس بها، وشهد لهم من شهد من الصحابة والتابعين وعلماء وصلحاء الأمة وعلى رأس هؤلاء شهادة وتعديل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم، وتعديله إياهم بصحبتهم له، فهم لأجل ذلك يدركون خطر التصدر والتحدث باسم الدين والإفتاء بغير علم على المجتمع، ويرعون لذلك مقاما شديدا، لا كما هو الحال الآن من اجتراء غير أهل التخصص من الضعفاء والسفهاء وأهل الأهواء والمصالح والأيديولوجيات الخاصة على الدين والفتيا والتصدر للناس، فأفتوا بهوى وبغير علم، فضلوا وأضلوا ونشروا الفساد وتسببوا في الخراب وإراقة الدماء، وشوهوا صورة الإسلام عند غير المسلمين، بل وعند المسلمين أنفسهم، وكفَّروا أهل القبلة وفسقوهم، وأدخلوا في أمور العقيدة ما هو من باب الفروع والفقه؛ فكان لذلك أشد تأثير على المجتمع وأمنه واستقراره ووحدته.
لذلك فإن الاعتصام بأهل العلم الآخذين بالمذاهب الفقهية المعتبرة، والمناهج العلمية المتبعة هو حبل النجاة من هذا الخطر العظيم ومن الوقوع في الفوضى الدينية، فهؤلاء العلماء هم من يحق لهم التحدث باسم الدين والتصدر للعوام دون غيرهم، وهؤلاء تقوم المؤسسات الدينية الرسمية كالأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية بتعليمهم وتأهيلهم واعتمادهم للتحدث باسم الدين، وللإفتاء في أمور الناس وما يستجد في حياتهم من نوازل وأحداث، ولا يجوز لغير المنتسبين لهذه المؤسسات الرسمية التصدر والتحدث باسم الدين، لما ينتج عن ذلك كما بينا من فساد في الخطاب الديني وفوضى وزعزعة لأمن واستقرار المجتمع كله.
إن العصر الذي نعيشه هو عصر المؤسسات في جميع المجالات الدنيوية أو الدينية، فإن من يأتي بكتب الطب ويعكف عليها طيلة سنين دون دخوله لكلية الطب واعتماد الأساتذة والأطباء له لا يسمى طبيبا، ولا يحق له ممارسة الطب، بل يعد ذلك جريمة يعاقب عليها القانون، كذلك فإن من يأتي بالكتب الدينية ويعكف عليها وحده أو يدرسها على أيدي غير المؤهلين والمعتمدين دون دخوله للمؤسسات الدينية المعتمدة، واعتماد شيوخها وعلمائها له لا يعد أبدًا عالما، ولا يحق له التحدث باسم الدين أو ممارسة الإفتاء، فإن ذلك أشد جرما وجرأة، فمن يدعي الطب يكون تأثيره على المريض الذي يعالجه فقط، أما من يدعي العلم ويفتي الناس فقد يتعدى تأثيره وفتواه إلى شريحة كبيرة من المجتمع، فيسمم العقول وينشر الفتن، وذلك حاصل مشاهد للجميع؛ وقد جاء في الحديث عن سيدنا جابر رضي الله أنه قال: «خرجنا في سفر فأصاب رجلًا منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أُخبر بذلك فقال: «قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده» (رواه أبو داود عن جابر، وأحمد وابن ماجه عن ابن عباس) فانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «قتلوه قتلهم الله» وما فيه من نسبة القتل إلى من أفتَوه بعدم الرخصة بالتيمم، فهم متسببون في إتلاف نفسه، فكانت الفتوى بغير علم وعدم سؤال أهل العلم سببًا لهلاكه وقتله، فكانوا مستحقين لدعاء النبي عليهم وتعنيفه لهم، وكذلك فإن أهل العلم والرأي في زماننا هذا هم أهل التخصص من المؤسسات العلمية الدينية الرسمية، حتى لا يتخبط المجتمع ويقع في أزمة الفوضى والتشدد والتفكك.
بل ويلزم على ولي الأمر منع غير المتخصصين من التصدر للشأن الديني والإفتاء للعوام بغير علم وتأهل لما سبق وبيناه من تسبب ذلك في خطر يتعدى إلى الأمة بأسرها في علاقة أفرادها وأقطارها بعضهم ببعض، ولذا قال ابن الجوزي في (صفة الفتوى): «يلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية، ومن تصدى للفتيا ظانا أنه من أهلها فليتهم نفسه وليتق ربه» وأما من يدعون أن لكل أحد أن يتحدث باسم الدين ويفتي الناس دون دراسة وشهادة معتمدة فهذا الإمام مالك على جلالة قدره كان يقول كما نقل عنه في (صفة الفتوى): «من أجاب في مسألة فينبغي من قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب فيها» وسئل عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له إنها مسألة خفيفة سهلة، فغضب وقال: «ليس في العلم خفيف أما سمعت قول الله تعالى:﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [المزمل: 5] فالعلم كله ثقيل، وخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة» وقال: «ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك» وقال أيضا: «لا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلا لشيء حتى يسأل من كان أعلم منه، وما أفتيت حتى سألت ربيعة، ويحيى بن سعيد فأمراني بذلك ولو نهياني انتهيت».