إن المحور الأهم لفكر الخوارج هو اتهام المسلمين بعدم تطبيق شرع الله سبحانه وتعالى وأوامره، ظهر ذلك مع أول خارجي وهو الأقرع بن حابس، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: بينما نحن عند رسول الله ﷺ وهو يقسم قسمًا، أتاه ذو الخويصرة، وهو رجل من بني تميم، فقال: يا رسول الله اعدل، فقال: «ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل». فقال عمر: يا رسول الله، ائذن لي فيه فأضرب عنقه؟ فقال: «دعه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فما يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه- وهو قدحه- فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر، ويخرجون على حين فرقة من الناس» قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله ﷺ، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به، حتى نظرت إليه على نعت النبي ﷺ الذي نعته([1]).
ثم جاء الخوارج في عهد الإمام علي كرم الله وجهه، ليتهموه بعدم تطبيق الشرع لجنوحه للتحكيم، نقل الإمام الطَّبري عن الزُّهريِّ أنه قال: «فأصبح أهل الشام قد نشروا مصاحفهم- أي: حين كاد أهل العراق أن يغلبوهم- ودعوا إلى ما فيها، فهاب أهل العراق، فعند ذلك حكَّموا الحكمين، فاختار أهل العراق أبا موسى الأشعري، واختار أهل الشام عمرو بن العاص، فتفرق أهل صفين حين حكم الحكمان، فاشترطا أن يرفعا ما رفع القرآن ويخفضا ما خفض القرآن، وأن يختارا لأمة محمد ﷺ وأنهما يجتمعان بدومة الجندل، فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح، فلما انصرف علي خالفت الحرورية (الخوارج) وخرجت، وكان ذلك أول ما ظهرت، فآذنوه بالحرب، وقالوا: لا حكم إلا لله»([2]). وقد كفروا الإمام علي والصحابة رضوان الله عليهم.
ثم جاء خوارج العصر ليتهموا المسلمين والمجتمعات الإسلامية بالكفر بحجة عدم تطبيق الشريعة.
وهذه الدعوى من هؤلاء مع تكرارها صارت كالمسلمات حتى لدى بعض العوام، ولذلك كان واجبا إزالة الإبهام واللبس الخاص بهذه المسألة.
ولنصدر قبل الإجابة بيان عدة مصطلحات هامة.
مفهوم الشريعة:
جاء في لسان العرب: «الشَّريعة والشِّراع والمشرعة: المواضع الَّتي ينحدر إلى الماء منها، قال الليث: وبها سمِّي ما شرع الله للعباد شريعة من الصَّوم والصَّلاة والحجِّ والنِّكاح وغيره»([3]).
ثم قال: «والشَّريعة موضع على شاطئ البحر تشرع فيه الدَّواب. والشَّريعة والشِّرعة: ما سنَّ الله من الدِّين وأمر به كالصَّوم والصَّلاة والحجِّ والزَّكاة وسائر أعمال البرِّ، مشتق من شاطئ البحر؛ عن كراع؛ ومنه قوله تعالى: ﴿ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ﴾[الجاثية: 18]»([4]).
وهناك لفظ قريب من الشريعة وهو الفقه والذي يأتي بمعنى الفهم، ومنه قول النَّبيِّ ﷺ: «من يرد الله به خيرًا يفقِّهه في الدِّين»([5]).
وفي الاصطلاح: العلم بالأحكام الشَّرعيَّة العمليَّة المكتسب من أدلتها التَّفصيليَّة([6]).
وجاء في الموسوعة الفقهيَّة الكويتيَّة أيضًا: «الشَّريعة والشِّرعة في اللغة: مورد الماء للاستسقاء، سمِّي بذلك لوضوحه وظهوره، والشَّرع مصدر شرع بمعنى: وضح وظهر، وتجمع على شرائع، ثمَّ غلب استعمال هذه الألفاظ في الدِّين وجميع أحكامه، قال تعالى: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون ﴾ [الجاثية: 18]، وقال سبحانه: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾[المائدة: 48].
وفي الاصطلاح: هي ما نزل به الوحي على رسول الله ﷺ من الأحكام في الكتاب أو السنَّة مما يتعلَّق بالعقائد والوجدانيَّات وأفعال المكلَّفين، قطعيًّا كان أو ظنيًّا.
وبين الشَّريعة والفقه عموم وخصوص من وجه؛ يجتمعان في الأحكام العمليَّة الَّتي وردت بالكتاب أو بالسنَّة أو ثبتت بإجماع الأمَّة، وتنفرد الشَّريعة في أحكام العقائد، وينفرد الفقه في الأحكام الاجتهاديَّة الَّتي لم يرد فيها نص من الكتاب أو السنَّة ولم يجمع عليه أهل الإجماع»([7]).
والمعنى اللغوي للكلمتين كأنه يدلنا على هذا الفارق، فالفقه فهم بشريٌّ؛ وهذا الفهم البشريُّ غير متصف بالعصمة من الخطأ، بل هو قابل لكلا الأمرين، وذلك بخلاف الشَّريعة الَّتي عرَّفها ابن حجر: «وضع إلهيٌّ سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى ما يصلح معاشهم ومعادهم»([8]) فقوله: وضع إلهي. ينبهنا إلى هذا المعنى الدقيق الَّذي تصير به الشَّريعة مقدَّسة لأنَّ واضعها هو الله، أمَّا الفقه فهو معرفة الأحكام وهذه المعرفة يتوارد عليها الخطأ قطعًا، لأنَّها قائمة بذات غير معصومة، ويتوارد عليها تارة عدم المناسبة للزَّمان أوالمكان أوالأحوال أوالأشخاص.
يقول مصطفى الزَّرقا: «ولا يجوز الخلط وعدم التَّمييز بين مفهوم الشَّريعة الإسلاميَّة، ومفهوم الفقه الإسلاميِّ؛ لأنَّ الشَّريعة معصومة، وهي في العقيدة الإسلاميَّة صواب وخير كلُّها تهدي الحياة الإنسانيَّة إلى الطَّريق السَّليم المستقيم.
أمَّا الفقه فهو من عمل الفقهاء في طريق فهم الشَّريعة وتطبيق نصوصها وفقًا لغرض الشَّارع والقواعد الأصوليَّة في استنباط الأحكام منها، وفي هذا يختلف فهم فقيه عن فهم فقيه آخر، وفهم كلِّ واحد مهما علا قدره يحتمل الخطأ والصواب لأنَّه غير معصوم، وليس معنى ذلك أنَّه لا قيمة له، بل له قيمة عظيمة وتقدير كبير؛ ولكن المقصود أن ليس له القدسيَّة الَّتي للشَّريعة نفسها المتمثِّلة بنصوصها من الكتاب والسنَّة الثَّابتة، فالفقه وهو فهم الفقيه ورأيه؛ ولو كان مبنيًّا على النَّص الشَّرعيِّ، هو قابل للمناقشة والتَّصويب والتَّخطئة، ولكن التَّخطئة تنصرف إلى فهم الفقيه لا إلى تخطئة النَّص الشَّرعي، ومن ثمَّ اختلفت آراء الفقهاء، وردَّ بعضُهم على بعض، وخطَّأ بعضهم بعضًا.
على أنَّ هناك نقطة مهمَّة محلُّ اشتباه ينبغي تجليتها والتَّنبيه عليها، وهي أنَّ الفقه الإسلاميَّ يتضمَّن نوعين من الأحكام مختلفين في طبيعتهما:
النوع الأول: أحكام قرَّرتها نصوص قطعيَّة الثُّبوت والدَّلالة تمثل إرادة الشَّارع الإسلاميِّ الواضحة فيما يفرضه على المكلَّفين نظامًا للإسلام ملزمًا لهم، لم يترك لتفسيرهم وفهمهم واستنتاجاتهم، وذلك مثل أصل وجوب الصَّلاة والزَّكاة وصوم رمضان والوفاء بالعقود، والجهاد بحسب الحاجة وقدر الطَّاقة، ونحو ذلك ممَّا جاءت به النُّصوص في الكتاب والسنَّة المتواترة.
النوع الثاني: أحكام سكت عنها الكتاب والسنَّة وتركت للاجتهاد واستنتاج علماء الشَّريعة، أو جاءت بها نصوص غير قطعيَّة الثُّبوت أو الدَّلالة، تحتمل اختلاف آراء العلماء في ثبوتها أو في دلالتها، وهي محلُّ اجتهادهم في فهمهم واستنتاج الأحكام منها.
فالفقه الإسلاميُّ ومدوَّناته تتضمَّن كلَا النَّوعين هذين، فما قلناه عن الفرق بين الشَّريعة والفقه منصرف إلى هذا النَّوع الثَّاني من الأحكام الفقهيَّة الَّذي هو استنتاج الفقهاء واجتهادهم في تفسير النُّصوص المحتملة غير القطعيَّة الدَّلالة، أو من أقيستهم، أو ما قرَّروه بطريق الاستحسان حيث يرون سببًا يقتضي الخروج عن حكم القياس، أو ما قرَّروه بطريق الاستصلاح والمصالح المرسلة حيث لا نص يحكم في الموضوع، وإنَّما قرَّروا فيه الحكم نتيجة للموازنة بين ما فيه من مصلحة أو ضرر، ونحو ذلك من الأحكام الاجتهادية، وهي أكثر ما يتضمَّنه فقه المذاهب.
فهذا النَّوع هو الَّذي من عمل الفقهاء واستنتاجهم، ولا يتمتع بالقدسيَّة الَّتي للنصوص التشريعيَّة... أما النَّوع الأوَّل فله قدسيَّة النُّصوص التشريعيَّة نفسها، وثباتها»([9]).
تطبيق الشريعة بين ما علمنا إياه النبي وبين فهم الخوارج
من المناسب في هذا المقام أن نعرض رؤيةَ أحد العلماء المجتهدين المعاصرين وهو: الإمام الشيخ علي جمعة حول هذا الأمر؛ حتى يتسنَّى للقارئ الكريم أن يلمَّ بهذه القضية من خلال العرض العلمي لها في صورةٍ ميسرةٍ، فيعلم ما هي قواعدها الصحيحة التي يجب الانطلاق منها، فنصل إلى تصور كليٍّ صحيحٍ لها، فيقول فضيلة الشيخ عن هذه القضيَّة:
«قضية تطبيق الشريعة لابد أن تُفهم بصورةٍ أوسع من قَصرها على تطبيق الحدود العِقابيةِ بإزاءِ الجرائمِ، كما هو شائعٌ في الأدبيَّات المعاصرة، سواءٌ عند المسلمين أو عندَ غيرِهم؛ حيث إن تطبيق الشريعة له جوانب مختلفةٌ، وله درجات متباينةٌ، وليس من العدل أن نصفَ واقعًا ما بأنَّه لا يطبق الشريعةَ لمجرَّدِ مخالفته لبعضِ أحكامِها في الواقع المعيش؛ حيثُ إنَّ هذه المخالفات قد تمَّت على مدى التاريخ الإسلامي، وفي كلِّ بلدان المسلمين ودولهم بدرجات مختلفة ومتنوعة، ولم يقل أحدٌ من علماء المسلمين إن هذه البلاد قد خرجت عن ربقةِ الإسلامِ، أو أنها لا تُطبِّقُ الشريعة، بل لا نبعد القولَ إذا ادَّعينا أن كلمة تطبيق الشريعة كلمةٌ حادثةٌ.
حقائق يجب معرفتها:
1- إن الشريعة الإسلامية تعني ما يتعلق بالعقائدِ والرؤية الكليَّة: من أن هذا الكون مخلوقٌ لخالق، وأن الإنسان مكلفٌ بأحكامٍ شرعيةٍ تصف أفعالَه، وأنَّ هذا التكليف قد نشأ من قبيل الوحي، وأن الله أرسل به الرُّسلَ وأنزل الكُتبَ، وهناك يومًا آخرَ للحساب وللثواب والعِقاب؛ كما أنها تشتمل على الفِقه الذي يضبط حركةَ السُّلوك الفرديِّ والجماعيِّ والاجتماعيِّ، وتشتمل أيضًا على منظومةٍ من الأخلاق وطُرق التَّربية، ومناهج التفكير، والتَّعامل مع الوحي قرآنًا وسُنة، ومع الواقع مهما تغيَّر أو تبدَّل أو تعقَّد.
2- قضية الحدود تشتمل على جانبين؛ الجانب الأول: هو الاعتقاد بأحقيَّة هذا النظام العقابي في ردع الإجرام، وفي تأكيد إثم تلك الذُّنوب، ومدى فظاعتِها وتأثيرها السَّيئ على الاجتماع البشريِّ، ورفضها بجميع صورها نفسيًّا لدى البشر، وأن هذا النظامَ العقابي لا يشتمل على ظُلمٍ في نفسه، ولا على عنفٍ في ذاته، والجانب الآخر: هو أنَّ الشرع قد وضع شروطًا لتطبيق هذه الحدود؛ كما أنه قد وضع أوصافًا وأحوالًا لتعليقها أو إيقافها، وعند عدم توفر تلك الشروط أو هذه الأوصاف والأحوال فإنَّ تطبيق الحدود مع ذلك الفقد يُعد خروجًا عن الشريعةِ.
3- المتأمِّلُ في نصوص الشريعةِ يجد أنَّ الشرع لم يجعلِ الحدودَ لغرض الانتقام؛ بل لردعِ الجريمةِ قبل وقوعِها، ويرى أيضًا أنَّ الشرع لا يتشوَّف لإقامتِها بقدرِ ما يتشوَّف للعفو والصفحِ والستر عليها، والنصوصُ في هذا كثيرةٌ([10]).
4- لمدة ألف سنة لم تُقم الحدود في بلدٍ مثلَ مصر؛ وذلك لعدم توفُّر الشروطِ الشرعية التي رسمت طُرقا معينةً للإثباتِ، والتي نصَّت على إمكانية العودة في الإقرارِ، والتي شَمِلتْ ذلك كله بقوله ﷺ: «ادرءُوا الحدودَ بالشبهاتِ»([11]). وقوله ﷺ: «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم؛ فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة»([12]).
5- قد يُوصفُ العصر بصفاتٍ تجعل الاستثناء مطبقًا بصورةٍ عامَّةٍ، في حين أنَّ الاستثناءَ بطبيعتِه يجب أن يطبَّقَ بصورةٍ مقصورةٍ عليه، من ذلك وصفُ العصرِ بأنه عصرُ ضرورةٍ، ومن ذلك وصف العصر بأنه عصر شُبهةٍ، ومن ذلك وصف العصر بأنه عصرُ فتنةٍ، ومن ذلك وصف العصر بأنه عصرُ جهالةٍ، وهذه الأوصاف تؤثِّر في الحكم الشرعيِّ؛ فالضرورة تبيح المحظورَ، حتى لو عمَّت واستمرَّت، ولذلك أجازوا الدَّفن في الفساقي المصريةِ مع مخالفتِها للشريعة، والشُّبهة تجيز إيقافَ الحدِّ كما صنع عمرُ بن الخطاب في عام الرَّمادة حيث عمَّت الشُّبهةُ بحيث فُقد الشرط الشرعي لإقامة الحدِّ، والإمام جعفر الصادق والكرخي من الحنفية وغيرهما أسقطوا حرمةَ النظرِ إلى النساء العاريات في بلاد ما وراء النَّهر لإطباقهنَّ على عدم الحجاب حتى صار غضُّ البصر متعذرًا إن لم يكن مستحيلًا، ونصَّ الإمام الجويني في كتابه «الغياثي» على أحوال عصر الجهالةِ وفصَّل الأمر تفصيلًا عند فقد المجتهدِ ثم العالم الشَّرعي ثم المصادر الشرعية، فماذا يفعل الناس؟
ويتَّصل بهذا ما أسماه الأصوليون في كتبهم كالرازي في «المحصول» بالنَّسخ العقلي، وهو أثر ذهاب المحلِّ في الحُكم، وهو تعبيرٌ أدقُّ؛ لأن العقل لا ينسخ الأحكامَ المستقرةَ، وذلك بإجماع الأمة، ولكن الحُكم لا يطبق إذا ذهب محلُّه؛ فالأمر بالوضوء جعل غَسل اليد إلى المِرفقين من أركانِه، فإذا قُطعت اليد تعذَّر التطبيقُ أو استحالَ، وكذلك الأحكام المترتبة على وجود الرقيق، والأحكام المترتبة على وجود الخلافة الكبرى، والأحكام المترتبة على وجود النَّقدين بمفهومهما الشَّرعي من ذهبٍ أو فِضة، وغيرِ ذلك كثيرٌ.
6- من أجل الوصول إلى تنفيذ حُكم الشرع، ومراد الله سبحانه منه، والوصول إلى طاعة الله ورسوله يجب علينا أن ندركَ الواقع، ورد في شُعب الإيمان من موعظة آل داود عليهما السلام عن وهب بن منبه يقول: «وعلى العاقلِ أن يكون عالمًا بزمانِه، ممسكًا للسانِه، مقبلًا على شأنه».
ومن هنا فإن الفقهاء نصُّوا على أن الأحكامَ تتغير بتغير الزَّمان إذا كانت مبنية على العُرف (نص المادة 90 من مجلة الأحكام العدلية) وأجاز المذهب الحنفي في جانب المعاملات العقودَ الفاسدةَ في ديار غير المسلمين، فتغيَّرت الأحكام بتغير المكانِ، وقاعدة: «الضروراتُ تبيح المحظوراتِ» المأخوذة من قوله تعالى:﴿ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ﴾ [البقرة: 173]. تجعل الشأنَ يتغير بتغير الأحوالِ، وكذلك تتغير هذه الأحكام بتغير الأشخاص، فأحكام الشخص الطَّبيعي الذي له نفس ناطقة تختلف عن الشخص الاعتباريِّ حيث لا نفسَ له ناطقة.
وهذه الجهات الأربع وهي الزمان، والمكان، والأشخاص، والأحوال هي التي نصَّ عليها القرافي كجهاتٍ للتغير يجب مراعاتها عند إيقاع الأحكامِ على الواقع.
ومعلومٌ أن عصرنا لم يعد أمسه يعاش في يومِنا، ولا يومنا يعاش في غدنا، وسبب ذلك أمور، منها: كَمُّ الاتصالات والمواصلات، والتقنية الحديثة التي جعلت البشرَ يعيشون وكأنهم في قريةٍ واحدةٍ، ومنها زيادة عدد البشر زيادة مطردة لا تنقص أبدًا منذ 1830 ميلادية وإلى يومنا هذا.
ومنها: كم العلوم التي نشأت لإدراك واقع الإنسان في نفسِه، أو باعتباره جزءًا من الاجتماع البشري، أو باعتباره قائمًا في وسط هذه الحالة التي ذكرناها.
وسمات هذا العصر هذه ونحوها غيَّرت كثيرًا من المفاهيم؛ كمفهوم العقد، والضمان، والتسليم، والعقوبة، ومفهوم المنفعة ومفهوم السياسة الشرعية، فلا بدَّ من إدراك ذلك كلِّه حتى لا تتفلت منا مقاصدُ الشريعة العُليا.
7- يمكن عرض تجارب الدول الإسلامية المعاصرة مع قضية الحدود:
أ- فنجد أن السعودية تطبق الحدودَ عن طريق القضاء الشرعي مباشرةً من غير نصوص قانونية مصوغة في صورة قانون للعقوبات الجنائية، والتطبيق السعودي للحدود مستقرٌّ، وليس هناك أي دعوة أو توجه مؤثِّر لإلغائها أو إيقافها أو تعليقها.
ب- حالة باكستان والسُّودان، وإحدى ولايات نيجيريا، وإحدى ولايات ماليزيا، وإيران التي نصَّت قوانينُهم على الحدود الشرعية، فتمَّ الإيقاف الفعلي لها من ناحية الواقع في باكستان، وتمَّ تعليقها بعد عهد النميري في السُّودان، وتمَّ تعليقها أيضًا في إيران وماليزيا، وطُبقت في ولاية نيجيريا بصورةٍ غاية في الجزئية، ويشيع في كلِّ هذه البلدان العمل بالتعزير بدلًا من تطبيق الحدِّ، فيما عدا الجرائم التي تستوجب الإعدامَ.
ج- بقية الدول الإسلامية التي يبلغ عددها 56 دولةً من مجموع 196 دولةً في العالم سكتت في قوانينِها عن قضية الحدود، وكانت وجهة النظر في هذا الشأن أن عصرنا عصر شبهة عامَّة، والنبي ﷺ يقول «ادرءُوا الحدودَ بالشُّبهات»([13]). كما أنَّ الشهود المعتبرين شرعًا لإثبات الجرائم التي تستلزم الحدَّ قد فُقدوا من زمنٍ بعيدٍ؛ فيورد التنوخي في كتابه «نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة» في معنى غياب العدول من الشهود فيقول: «حدثني أبو الحسين محمد بن عبيد الله المعروف بابن نصرويه، قال: قَبِلَ التيمي القاضي- كان قديمًا عندنا بالبصرة- ستةً وثلاثين ألف شاهد في مدة ولايته»([14]). ويقول في موضع آخر: «سمعت قاضي القضاة أبا السائب عُتبة بن عبيد الله بن موسى يقول: الشاهد إذا لم تكن فيه ثلاث خلال... إلى أن قال: ثم قال: ما ظنكم ببلد فيه عشرات ألوف ناس، ليس فيهم إلا عشرة أنفس أو أقل أو أكثر، وأهل ذلك المِصر كلُّهم يريد الحيلةَ على هؤلاء العشرة، كيف يسلمون إن لم يكونوا شياطين الإنس في التيقظ والذكاء والتحرز والفهم؟»([15]).
والتفتيش للوصول إلى الحقيقة التي تؤدي إلى إقامة الحدِّ ليس من منهاج الشريعة، فإن ماعزًا أتى يقرُّ على نفسِه، فأشاح النبيُّ بوجهه أربعَ مراتٍ، ثم أحاله على أهلِه لعلهم يشهدون بقلَّة عقلِه أو جنونه، ولما جزع وفرَّ أثناء إقامة الحدِّ عليه قال رسول الله ﷺ لأصحابه y: «هلا تركتمُوه؛ لعلَّه أن يتوبَ فيتوبَ الله عليهِ»([16]). أخذ العلماء من هذا جواز الرجوع عن الإقرار ما دام في حقٍّ من حقوق الله، وليس بشأن حقٍّ من حقوق البشر؛ كما أن النبيَّ ﷺ لم يسأله عن الطرف الآخر للجريمةِ وهي المرأة التي زنى بها، ولم يُفتش عنها كنوعٍ من أعمال استكمال التحقيق، وروي عن أبي بكر وعمرَ وأبي الدرداء وأبي هريرة: أن السارق كان يُؤتى به إليهم، فيقولون له: «أسرقتَ؟ قل: لا!».
فالنصُّ على الحدودِ كما ذكرنا يُفيد أساسًا تعظيمَ الإثم الذي جُعل الحدُّ بإزائِه، وأنَّه من الكبائر والقبائح التي تستوجب هذا العقابَ العظيمَ، ويؤدي ذلك إلى ردعِ الناسِ عن هذه الجرائم على حدِّ قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُون﴾ [الزمر: 16] ويكمل الحدُّ في هذا الشأنِ الضبطَ الاجتماعيَّ الذي يتولَّد من الثقافة السائدة لدى الكافة باستعظام هذه الآثامِ، ونبذِ مَنِ اشتَهر بها أو أعلنها أو تفاخرَ بفعلها؛ كما أنَّ الشرع فتح بابَ التوبةِ وأمر بالستر في نصوصٍ عديدة من الكتاب والسُّنة. وبهذا العرض الموجَز نكون قد بيَّنَّا التأصيلَ الشرعيَّ والتوصيفَ الشرعي والواقعي لقضية تطبيق الشريعة، ومساحة الحدود فيها»([17]).
أيها القارئ الكريم مما سبق يتبيَّن لنا حدودُ المسألة وأركانُها، ويتَّضح أنَّ مفهومَ الشريعة الإسلاميَّة أوسعُ من المفهوم الضيِّق الذي يريدُ هؤلاء أن يحصروها فيه، وأنَّ دعوة وقوع المجتمعات الإسلاميَّة في شِرك الحاكميَّة هي دعوى باطلةٌ قائمة على النزعة التكفيريَّة لدى أصحاب المناهج الضَّالة والفكر المنحرف، وأنَّ مسألة سن القوانين المنظِّمةِ للعقوبات ليس من باب ردِّ الشريعة أو استبدالها؛ وإنَّما من باب مراعاة مقاصد الشريعةِ في ضبط قيام المجتمعاتِ، وحفظ حياةِ الناس وعقائدهم وأعراضِهم وأموالهم؛ وفقًا للظروف المحيطة والطَّبيعة والزمان والمكان.
ونزيد الأمر إيضاحًا بأن نتعرَّض لكلام أهل العِلم وتفسيرِهم لآيات كتاب الله الكريم، والتي جعلها أهلُ التكفير معتمدًا لمذهبهم وفقًا لرؤيتهم وفهمهم الباطل، وسوف يتبيَّن لنا من خلال السطور القادمة كيف أن مذهبهم هذا مبتورُ الصِّلة بفهم العُلماء وأقوالهم، وأن مذهب أهل السُّنة والجماعة يدلُّ على عكس مرادِهم.
فقد جعل أصحاب مقولة توحيد الحاكمية من أنفسِهم حكمًا على عقائد الناس وفقًا لرؤيتهم الخاصة؛ من حيث الحُكم بالتزامهم أو عدم التزامِهم بأحكام الشريعة، وبالتَّالي جعلوا لأنفسهم الحقَّ في إصدار الأحكام بالرِّدَّة والوقوع في الكُفر على المجتمعات أو الأفراد، وقاموا بعد ذلك بتطبيق الخطواتِ العمليَّةِ لمذهبهم من الصِّدام مع الحكومات ومؤسسات الدُّول، والقيام بالاغتيالات والتصفيةِ الجسدية لمن يرون أنهم من المرتدِّين.
كلُّ هذا الفهم الباطل والمنهج الضالِّ بَنوه على ما استقلُّوا بفهمِه من بعض الآيات من القرآن الكريم، يتَّضح ذلك من خلال قولِهم: إن مجرد عدم إجراء الأحكام الشَّرعية وسريانها بصورةٍ محددةٍ هو كفرٌ مخرجٌ من الملَّة. دون النظر إلى أن المجتمعات الإسلاميَّة لم ترفض هذه الأحكام، بل تقول بمرجعيتها، وأنها مصدرٌ للأحكام والقوانين، وإنما عدم التمكُّن من تطبيقِها في بعض الأحيان يأتي- كما تمَّت الإشارة إليه سابقًا- من وجود عوارضَ زمنيَّةٍ أو مكانيَّةٍ.
فهم لم يجعلوا ذلك من باب الضَّرورات التي تفرض إجراءاتٍ تناسب طبيعةَ الواقعِ المحيط في بعض الأزمنةِ، ولم يجعلوه من باب المعصيةِ على أكثر تقدير؛ وإنَّما جعلوه من باب الكُفر والرِّدَّةِ بناءً على فِكرتهم من أن ذلك من باب نقضِ التَّوحيد، فهم يستنبطون فِكرهم التكفيري من خلال فهمهم المُعوج لقوله تعالى: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُون ﴾ [المائدة:44] بحيث يقولون بكُفر مَن لم يقم بتنفيذ صورةٍ محددةٍ للحُكم الشرعيِّ، سواءٌ أكان ذلك من الأفراد أو المجتمعات، حتى وإن لم يرفضوا ذلك الحُكم أو يعترضوا عليه، ويعتقدون اعتقادًا جازمًا أنها وحي الله وشريعته، وإنما وُجدت بعضُ الموانعِ المعتبرةِ في التصوُّر الكُلي لمقاصد الشريعة منعت من إجراء الحُكمِ بصورةٍ معينةٍ.
فهناك فرقٌ كبيرٌ بين ردِّ الحُكم أو رفضه والقولِ بعدم الانصياع له وأنه ليس بملزمٍ لنا وبين الاضْطِرار في بعض الأحيانِ لمخالفته لشهوةٍ أو عارضٍ من العوارض، مع القول بمرجعيَّته الكاملة لنا كأمةٍ ومجتمعاتٍ وأفرادٍ، وهذه المعاني تتضح عند استقراء واقع بلاد المسلمين، والتي تنصُّ كثيرٌ من دساتيرها على أنَّ الشريعة الإسلامية هي دِينُ الدَّولةِ، وأنَّ مردَّ القوانين إليها من خلال المذاهبِ الفقهيةِ.
وسنعرض لبعض أقوال أهل العِلم من سلفِ الأُمَّة في تفسيرِهم للآياتِ التي جعلها هؤلاءِ معتمدًا لفهمِهم ومنهجِهم، لنبيِّن الفرقَ بين فهم أهلِ العِلم وسلفِ الأمة، وبين الفهمِ الباطلِ لهذه الجماعاتِ؛ فقد ورد عن ابن عباسٍ في تفسير هذه الآيات عدَّةُ آثارٍ، بعضُها يتَّجه إلى أنَّ هذه الآية نزلت في اليهود، وبعضُها يتَّجه إلى أن الكُفر المذكورَ فيها هو كفرٌ دون كفرٍ، وليس بالذي يُخرج من الملَّة.
أولًا: الآثار التي تدلُّ على أنَّ هذه الآيةِ نزلت في اليهود خاصَّةً:
فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن البراء بن عازب قال: مُرَّ على النبيِّ ﷺ بيهوديٍّ محممًا مجلودًا، فدعاهم ﷺ فقال: «هكذَا تجدونَ حدَّ الزَّاني في كتابِكم؟» قالوا: نعم، فدعا رجلًا من علمائِهم، فقال: «أنشدك بالله الَّذي أنزل التَّوراة على موسى، أهكذا تجدون حدَّ الزَّاني في كتابِكم؟» قال: لا، ولولا أنكَ نشدْتَني بهذا لم أُخبرْكَ، نجدُه الرَّجمَ؛ ولكنَّه كثُر في أشرافِنا فكنَّا إذا أخذنا الشريفَ تركناه، وإذا أخذنا الضَّعيفَ أقمنا عليه الحدَّ، قلنا: تعالوا فلنجتمعْ على شيءٍ نقيمه على الشَّريف والوضيعِ، فجعلنا التَّحميمَ والجَلد مكان الرَّجمِ، فقال رسول الله ﷺ: «اللهمَّ إني أوَّل من أحيا أمرك؛ إذ أماتُوه» فأَمر به فرُجم، فأنزل الله عزَّ وجلَّ:﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ﴾ إلى قوله: ﴿ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ ﴾ يقول: ائتوا محمدًا ﷺ فإن أمركم بالتَّحميم والجَلد فخذُوه، وإن أفتاكم بالرَّجمِ فاحذروا، فأنزل الله تعالى:﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُون ﴾، ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُون ﴾، ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون﴾في الكفَّار كلِّها»([18]).
وعن ابن عباس قال: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُون﴾ [المائدة:44] إلى قوله: ﴿ الْفَاسِقُون ﴾ [المائدة: 47] «هؤلاءِ الآياتُ الثلاثُ نزلت في اليهودِ خاصَّةً في قريظةَ والنَّضيرِ»([19]).
وقد ورد هذا الأثرُ عنه أيضًا مطولًا يوضِّح أسبابَ نزول الآيات فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «إنَّ الله عزَّ وجلَّ أنزل: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُون ﴾ [المائدة:44] و﴿ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُون ﴾ [المائدة:45] و﴿ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون ﴾ [المائدة: 47]»، قال ابن عباس: «أنزلها الله في الطَّائفتين من اليهودِ، وكانت إحداهما قد قهرتِ الأخرى في الجاهليَّة، حتى ارتضوا واصطلحوا على أنَّ كلَّ قتيلٍ قَتلَتْه العزيزةُ من الذَّليلة فديتُه خمسون وسقًا، وكلُّ قتيلٍ قتلَتْهُ الذَّليلةُ من العزيزةِ فديتُه مائةُ وسقٍ، فكانوا على ذلك حتى قدِمَ النبيُّ ﷺ المدينةَ، وذلَّت الطائفتان كلتاهما لمَقدَمِ رسولِ الله ﷺ، ورسول الله ﷺ يومئذٍ لم يظهر، ولم يوطئهما عليه، وهو في الصُّلحِ، فقتلت الذَّليلةُ من العزيزةِ قتيلًا، فأرسلت العزيزةُ إلى الذليلةِ: أن ابعثوا إلينا بمائةِ وسقٍ، فقالت الذليلة: وهل كان هذا في حيَّينِ قطُّ دينهما واحدٌ ونسبهما واحدٌ وبلدهما واحدٌ ديةُ بعضهم نصفُ ديةِ بعض؟! إنَّا إنما أعطيناكم هذا ضيمًا منكم لنا، وفرَقًا منكم، فأما إذ قدم محمدٌ فلا نعطيكم ذلك، فكادت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسولَ الله ﷺ بينهم، ثم ذكرتِ العزيزةُ، فقالت: والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم، ولقد صدقوا، ما أعطونا هذا إلا ضيمًا منَّا وقهرًا لهم، فدُسُّوا إلى محمدٍ مَن يخبر لكم رأيه: إنْ أعطاكم ما تريدون حكَّمتموه، وإنْ لم يعطِكم حذرتم فلم تُحكِّموه، فدسُّوا إلى رسول الله ﷺ ناسًا من المنافقين ليخبروا لهم رأيَ رسولِ الله ﷺ، فلما جاء رسول الله ﷺ أخبر الله رسولَه بأمرهم كلِّه وما أرادوا، فأنزل الله عزَّ وجلَّ:﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ﴾ [المائدة: 41] إلى قوله: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون﴾ [المائدة: 47] ثم قال فيهما: والله نزلت، وإيَّاهما عنى الله عزَّ وجلَّ»([20]).
ثانيًا: الآثار التي تدلُّ على أن هذه الآيات تدلُّ على أنه ليس المراد به الكفرَ الأكبرَ المخرج عن الملة:ما رُويَ عن ابن عباس أنه قال عن هذه الآية الكريمة: «إنَّه ليس بالكُفر الذي يذهبون إليه إنَّه ليس كفرًا ينقل عن الملَّة: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُون﴾ كفرٌ دون كُفرٍ»([21]).
وقِيلَ لابن عباس: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُون﴾ قال: «هي كُفره وليس كمَن كفر بالله واليومِ الآخرِ»([22]).
وسُئِلَ ابن عباس عن قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُون﴾ [المائدة: 44]. قال: «هي كفر» قال ابن طاوس: «وليس كمَن كفر بالله وملائكته ورسُلِه»([23]). فهذه أقوال حَبر الأمة وتَرجمان القرآن في أسباب نزول الآيات وكذلك بيان معانيها وصرف معنى الكفر الأكبر والخروج من الملة.
ومن أقوالِ أهل العِلم عن هذه القضيَّة:
ما أخرجه الإمام الطبريُّ في تفسيره من طريق المثنَّى قال: ثنا عبدالله بن صالح قال: ثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُون ﴾ [المائدة: 44] قال: «مَن جحدَ ما أنزلَ الله فقدْ كفر ومَن أقرَّ به ولم يحكم فهو ظالم فاسق».
ثم قال الطبريُّ بعد أن ساق الاختلافَ في تفسير هذه الآية: «وأولى هذه الأقوال عندي بالصَّواب قول مَن قال: نزلت هذه الآيات في كفار أهلِ الكِتابِ؛ لأنَّ ما قبلها وما بعدها من الآياتِ ففيهم نزلت، وهم المعنيون بها وهذه الآياتُ سياق الخبر عنهم فكونها خبرًا عنهم أولى.
فإن قال قائل: فإن الله تعالى ذِكره قد عمَّ بالخبر بذلك عن جميع مَن لم يحكم بما أنزلَ الله فكيف جعلته خاصًّا؟ قيل: إنَّ الله تعالى عمَّم بالخبر بذلك عن قومٍ كانوا بحُكم الله الذي حكم به في كتابِه جاحدينَ، فأخبر عنهم أنهم بتركِهم الحُكمَ على سبيل ما تركوه كافرون، وكذلك القولُ في كلِّ مَن لم يحكم بما أنزل الله جاحدًا به- هو بالله كافرٌ؛ كما قال ابن عباس؛ لأنه بجحودِه حُكمَ الله بعد عِلمه أنه أنزله في كتابِه نظير جحوده نبوَّة نبيِّه بعد علمِه أنه نبيٌّ»([24]).
يقول الفخرُ الرازي رحمه الله: «قال عِكرمة: قوله تعالى: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُون ﴾ [المائدة: 44] إنما يتناول مَن أنكر بقلبِه وجحدَ بلسانِه، أمَّا مَن عرف بقلبه كونه حكم الله وأقرَّ بلسانه كونه حُكم الله؛ إلا أنَّه أتى بما يضادُّه فهو حاكمٌ بما أنزل الله تعالى؛ ولكنَّه تاركٌ له، فلا يلزم دخولُه تحت هذه الآيةِ، وهذا هو الجوابُ الصَّحيحُ»([25]).
وقال الإمام الغزالي عن معاني هذه الآية: «قوله تعالى بعد ذِكر التَّوراة وأحكامها ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُون ﴾ [المائدة: 44] قلنا: المرادُ به ومَن لم يحكم بما أنزل الله مُكذِّبًا به وجاحدًا له»([26]).
وقال الإمام ابن عطيَّة الأندلسي في تفسيره: «لفظ هذه الآية ليس بلفظ عمومٍ؛ بل لفظ مشترك يقع كثيرًا للخصوص كقوله تعالى: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُون ﴾ [المائدة: 44] وليس حكام المؤمنين إذا حكموا بغير الحقِّ في أمرٍ بكفرةٍ بوجهٍ»([27]).
ثانيًا: هل نحن فعلًا غير مطبقين لقانون الإسلام؟
إن صياغة القانون مرت بتطورات عديدة لم تغفل أبدًا قوانين الإسلام، بل صاغته صياغة جديدة ما أطلق عليه فيما بعد فيما يخص مثلًا قطرنا المصري بـ «التجربة المصرية»، هذه التجربة التي ابتدأت بمحاولة البعد عن الدولة العثمانية التي قننت الشريعة الإسلامية في صورة المجلة العدلية الصادرة سنة 1290هـ على المذهب الحنفي حتى تضع الدول الإسلامية قدمًا في نطاق العالم الحديث بصياغة قانونية تتوافق ومتطلبات هذا العالم.
فتمت ترجمة القانون الفرنسي في مصر وهو كود نابليون أول وكود نابليون ثاني على يد رفاعة رافع الطهطاوي، وهو وإن كان قانون فرنسا إلا أنه كما هو شائع ومعروف في الأوساط العلمية توجد علاقة بين القانون الفرنسي المأخوذ من تشريعات لويس المتأثرة بالفقه المالكي، ولم يعتمد على تلك الشهرة، بل أُمر الشيخ مخلوف المنياوي مفتي الصعيد بمراجعة هذه الترجمة تحت عنوان «مقارنات تشريعية» فتمت المقارنة فيه بين القانون الفرنسي والشريعة الإسلامية ووجدت المقاربة بينه وبين الفقه المالكي على وجه الخصوص ووجد مخالفات قليلة([28]).
وهذا العمل كما يقول الدكتور علي جمعة:
«يدل على حرص القيادة السياسية حينئذ على عدم الانسلاخ عن الشريعة بالكلية؛ ولكنها تريد أن تعيش العصر وأن تجعل بلادها تجد لنفسها موطئ قدم في العالم وهذا أمر محمود في ذاته ألا ننسلخ عن أنفسنا وهويتنا، وفي نفس الوقت ألا ننعزل عن عصرنا ومن حولنا أخطأنا أو أصبنا فلنا الأجر إن شاء الله تعالى»([29]).
ثم جاءت محاولة محمد قدري باشا وزير الحقانية فوضع تقنينًا على مذهب الحنفية يوازي المجلة العدلية في كتابه الأحوال الشخصية، وهي وإن لم ينفذ منها شيء إلا أنه دليل على عدم إرادة الإنسلاخ عن الشريعة أو رفض تطبيقها!
وكانت كل محاولات وضع القانون هو وضع قانون يتوافق مع العالم الجديد، وليس إرادة في الخروج عن دين الله سبحانه وتعالى، كان أبرزها وضع القانون المدني المصري على يد السنهوري باشا، وصبري أبو علم الذي وضع القانون الجنائي المصري وهي مجموعات تم الانتهاء منها وإخراجها وتم العمل بها من سنة 1949 م حتى يومنا هذا بغض النظر عن التعديلات الجزئية([30]).
وقد لاقى هذا معارضة من العلماء لا ينفى ذلك؛ لكن لم يأت أحد من المعارضين الذين كانوا من العلماء كالشيخ عبد الله حسين التيدي مكفرًا لأستاذ السنهوري؛ لكنه اعتبره متبنيًّا لنموذج معرفي آخر.
لكن لا ينفي ما يدور حوله هذا العمل من نقل الفقه الإسلامي نقلة تتوافق والتجديد المطلوب.
يقول الأستاذ الدكتور علي جمعة حفظه الله:
«ونؤكد على مدخلنا لدراسة التجربة المصرية وهو أن المصريين لم يريدوا بل ولم يفكروا في الانسلاخ من الشريعة وأن موقفهم من البداية كان موقفا علميًّا عمليًّا يهدف إلى التطوير ومراعاة الواقع ولا يهدف إلى الانسلاخ والخروج عن الشريعة الغراء وبرهان ذلك:
أن الذي وضع مجموعة سنة 1883م بالفرنسية ثم ترجمها إلى العربية هو نفسه قدري باشا وزير الحقانية صاحب المجاميع الماتعة في تقنين الشريعة الإسلامية من «مرشد الحيران» والذي قرره على المدارس الأميرية و«قانون العدل والإنصاف في الأوقاف»، وكتاب «الأحوال الشخصية» في أربعة مجلدات. وكتاب «المقارنات الشريعية» وهو دراسة مقارنة بالقانون الفرنسي، وهذه الكتب وضعها للخديو إسماعيل أثناء بحثه في كيفية استقلال مصر عن السلطان العثماني، وعدم إرادة إسماعيل باشا لتطبيق المجلة العدلية التي قننت الشريعة الإسلامية وكانت جاهزة للتطبيق؛ حتى لا يستمر في التوغل في الارتباط بالدولة العثمانية.
ويؤكد هذا المعنى في مجموعة 1883م تنص على أنه لا تمنع أي مادة من مواد هذا القانون أي حق مقرر في الشريعة الإسلامية، وعندما رفعت هذه المادة بعد خمس وعشرين عاما سنة 1908م ورد في المذكرة الإيضاحية أنه خلال هذه المدة لم يدع أحدهم أنه قد حرم حقًّا قد قرر له بالشريعة الإسلامية من جراء هذا القانون وأنها أصبحت كالمسلمات التي لا يحتاج إلى النص عليها، وظل ذلك حتى تم تمصير القوانين وهي العبارة التي كانت تؤكد اتجاه القوانين نحو الشريعة الإسلامية على يد السنهوري وإخوانه.
الدارس لكتاب مثل كتاب «الكتاب الذهبي للمحاكم الأهلية» الذي وضعه مجموعة من رجال القانون المصريين وقدم له عبد العزيز باشا فهمي وصدر سنة 1933م يتأكد من هذا المعنى؛ ففي المناقشات التي تمت في مجلس النظار يتضح أن هذه الحالة من النقل في بعض الأحيان أو في كثيرها من القوانين الفرنسية إنما كان لغرض التطوير لا لغرض الانسلاخ في حالة من الحيرة والبحث عن القوة وكذلك الأحكام الصادرة من محاكم الاستئناف والتي تتكلم أثناء الحكم عن قضية الثبوت الشرعي وعدمه؛ وكأن العصر شابَه ما شابَه مما عكر قبول الشهادة الشرعية، وشيوع الجهل، والفقر الذي يؤدي إلى إيقاف الحدود كمذهب عمر بن الخطاب كما فعل في عام الرمادة.
ويزيد في تأكيد ذلك المنحنى الذي حدث بعد ذلك في تطور التشريع المصري واتجاهه دائمًا نحو الشريعة الإسلامية وهو ما قدمناه فيما سبق من الكلام والذي توج بمحاولات الدكتور صافي أبو طالب لتقنين الشريعة الإسلامية والانتهاء في سبعة مجلدات وبلجان متخصصة من أهل الشريعة والقانون.
لا يعني هذا أن فترة الحيرة التي بدأت مع تشريعات 1875م في القانون المختلط وتلتها في مجموعة 1883م وما بعدها وحتى صدور القانون المدني والمجموعة الجنائية في سنة 1947م أن هذا كان على حد الكمال أو القبول التام من كل الأطراف، بل إن اتجاهًا عظيمًا اعترض على ذلك. ورأى أنه نوع من الابتعاد عن الشريعة، وكلمة الابتعاد عن الشريعة لا تساوي كلمة الكفر، بل تساوي وصفًا لهذه الحيرة، والاعتراض على عدم الجرأة وبذل المجهود المناسب لتطبيق الشريعة الإسلامية في مبادئها وأحكامها»([31]).
ويقول: «ويؤكد هذا المعنى الذي ذكرناه من أن واضعي القوانين المصرية كانوا ملتزمين بالإسلام لم يخرجوا عنه قط ولم يكفروا به، بل بذلوا ما في وسعهم على سبيل الاجتهاد لا على سبيل الانكار أو الطغيان على الشريعة الغراء. رجل نثق في دينه وعلمه، وكان مثالًا للعالم الشرعي المتمكن في علمه، والذي عرف على مدى حياته بأنه لم يكن يخاف في الله لومة لائم، وكان يعترض علميًّا على ما لا يراه مناسبًا أو يرى فيه إجحافًا أو خروجًا عن مقتضى اجتهاده أو اختياره، وكان شاهدًا على ما حدث في النصف الأول من القرن العشرين، وهو فضيلة الشيخ الإمام محمد أبو زهرة حيث يقول في بحثه الماتع الذي نشره في مجلة القانون والاقتصاد والتي كان يصدرها أساتذة كلية الحقوق جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة فيما بعد) في العدد الثالث من السنة السابعة عشرة في سبتمبر سنة 1947م هو البحث الذي نشره فيما بعد كمسألة مستقلة تحت عنوان: «قانون الوصية والجديد فيه».
لم يكفِّر فيه واضعي القوانين ولم يخرج الديار المصرية من ربقة الإسلام بل قرأ الواقع على ما هو عليه فكتب يقول في بلاغته الآسرة:
منذ سنة 1936م ورجال الفقه يدرسون وينقبون ويجتهدون موازين بين نظريات الفقه المختلفة ليجددوا القانون المصري في شتى نواحيه في دراسة متسعة الأفق متشعبة المسالك لاستخراج قانون مدني يقوم على أسلم المبادئ التي أنتجها الفكر القانوني في القرون الحديثة في أوروبا، ويكون قريبا من موروث الشرق الإسلامي ومن تلك التركة المثرية التي خلفها فقهاء المسلمين.
وكان مثل هذه الدراسة في قوانين المرافعات، والتجارة، والعقوبات، وتحقيق الجنايات، والوقف، والميراث، والوصايا، ولم ينل الزواج في تلك الفترة من الأزمان اتجاهًا إلى تعديل في أحكامه؛ لأنه سبق تلك الحركة القانونية بتعديلات جوهرية في القانون رقم 25 لسنة 1920، والقانون رقم 56 لسنة 1923، والقانون رقم 25 لسنة 1929 ففي هذه القوانين الثلاثة تم تغيير رفيق عميق حسن في أحكام الزواج جاء تدريجيًّا، وكان علاجًا موفقًا في أكثر أحكامه لأدواء اجتماعية لم يكن في مذهب أبي حنيفة علاج حاسم لها.
وإن تلك الحركة الميمونة الغاية قد جاءت في إبانها، إذ إن القوانين الأوربية التي وردت على المجتمع المصري منذ أكثر من ستين سنة قد ألبسها القضاء المصري في تلك السنين لبوسه وأشربها روحه واشتق من طبيعة ذلك الشعب مبادئ كانت مزيجًا متناسبًا من أحكام قوانين، كانت غريبة مع عادات مستمكنة في نفس الشعب وأحاسيسه فواءم بهذه الأقضية بين روحه وتلك القوانين ما أمكن وألف بينهما ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، فكان حقًّا على الفقهاء الذي يعنون بتجديد القانون المصري أن يدرسوا تلك المبادئ وأن يضيفوا إليها ما جد في الفكر الفقهي الأوروبي، وما يمكنهم أن يستعينوا به من تراث الشرق الخالد في الفقه والشرع وكذلك كان.
ولقد جاءت في الدنيا أحداث ونزع الناس منازع ونهج قادة الفكر والاجتماع والاقتصاد مناهج فكان لا بد أن يتسع القانون لها ويفصل فيها عند تطبيقها فإن الناس يجدُّ لهم من الأقضية بمقدار ما يجد لهم من الأحداث كما ورد على لسان مالك رضي الله عنه.
ولقد تسابق الفقهاء في إعداد المشروعات المجددة كل في موضوعه وما تخصص لدراسته وزخرت دار النيابة بما أنتجوا وشغل العلماء من النواب والشيوخ بدراسة هذا الإنتاج بقدر ما تيهئه لهم قدراتهم ودراساتهم السابقة ومن المشروعات ما تم إنجازه ودراسته، وإمضاؤه وصار قانونًا، ومنه ما لا يزال في اللجان يتناوله أعضاؤها بالفحص الممكن.
ولقد كانت المشروعات التي تتصل دراستها بالفقه الإسلامي وحده ويعتبر هو مصدرها من غير شريك أسرعها إنجازًا وأسبقها تتميمًا، فصدر من ذلك النوع من القوانين قانون الميراث، وقانون الوقف، وقانون الوصية.
والسبب في هذا السبق أن هذه القوانين الثلاثة عالجت مشاكل كان الناس يضجون بالشكوى من بعضها، وكان بعض المصلحين في الأمة يرى فسادًا في بعض آخر، ورأى بعض قادة الفكر أن تبديل بعض الأحكام بغيرها أصلح وأكثر مجاراة لروح الزمان وملابسات الناس ومقاصدهم التي لا تتجافى عن روح الدين والخلق القويم، لذلك عندما اتجه الفقهاء إلى الدراسة وجدوا موضع الشكوى وكان عليهم إزالة أسبابها، وجدوا الداء واضحًا بينًا وكان عليهم علاجه، ووجدوا ثروة عظيمة من الآراء الفقهية يستطيعون أن يتخيروا منها الدواء الناجع والعلاج الحاسم فاتجهوا إليها وأسعفهم بما رأوه شفاء للأسقام التي بدت وحسبوه مزيلا لها فتمت القوانين»([32]).
يقول الدكتور علي جمعة بعد ذكر كلام الشيخ أبي زهرة: «هذا جزء من البحث الماتع للشيخ والذي يبين لنا كيف كان يتعامل علماء الشرع العارفون العالمون مع ما يحدث من تقنين، إنهم يفهمون الحقيقة ويتعاملون معها لا مع تلك الأوهام التي توهمها المتطرفون وأخذوا كلمة من هنا وهناك وأحدثوا ثقافة مغلوطة لدى الأمة، سالت منها الدماء البريئة على الأرض فحسبنا الله ونعم الوكيل»([33]).
ويقول أيضًا: «ويجب علينا أن نتأمل هذه الكلمة التي يقول فيها الشيخ أبو زهرة رحمه الله تعالى: ونبهنا إلى وجوب تجليتها أعضاء اللجنة التي تولت وضع القانون بالصيغة الفرنسية. فمنذ عهد قدري باشا الفقيه الحنفي وزير الحقانية وجرت العادة على أن تصاغ القوانين أولًا باللغة الفرنسية ثم تترجم إلى العربية وبدون الدخول في أسباب ذلك فقد كانت كثيرة ولها ما يبررها عندهم، ولا في خطأ ذلك من صوابه، أو قبولنا له من عدمه؛ لكن كان الحال كذلك وكان الشيخ يعرف هذا دون تكفير أو تفسيق.
وهذا هو السبب الذي جعلهم يسمون هذه القوانين بالقوانين الوضعية في مقابلة النصوص الفقهية الموروثة في كتب الفقه الإسلامي، وليس معنى الوضعية هنا الخروج عن الشريعة أو نقضها أو إبطالها أو إنكارها؛ ولكن معناه أن الصياغة تتم بموجب مصطلحات معينة على نسق معين وبعض ما يرمي إليه ذلك هو أن يكون لتلك الصياغات مكان في التشريعات العالمية حيث أصبح العالم أكثر التصاقًا وأكثر اتصالًا»([34]).
هذا الكلام يبين لنا كيف أن العلم له أهميته البالغة، أهمية ضرب بها الخوارج عرض الحائط، ليس عندهم ذو مكانة، بل عقولهم وأهواؤهم هي التي ترشدهم إلى فهم حقيقة الدين؛ أكثر من الفقهاء والعلماء وغيرهم، وأنهم لم يفهموا معنى لا إله إلا الله؛ لأنهم لم يحكموا الشرع؛ كما سبق إيراده وذلك من تهاونهم بعلم الفقه وغيره من علوم الإسلام، مع أن المسألة بالأساس فقهية! يحتاج لنظرها إلى عالم فقيه، ويحتاج فيها إلى غير ذلك من العلوم، والحكم على الشيئ فرع تصوره.
إنه الغياب عن الفهم الصحيح، ومن يضلل الله فما له من هاد!
***
([1]) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3610)، ومسلم في كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم (1064).
([2]) انظر: تاريخ الرسل والملوك (5/57) للإمام محمَّد بن جرير الطَّبري- تحقيق: محمَّد أبو الفضل إبراهيم- دار المعارف- مصر- الطَّبعة الثَّانية.
([3]) انظر: لسان العرب. (باب العين، فصل الشين مع الراء).
([4]) المرجع السابق.
([5]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (71)، ومسلم في كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة (1037) من حديث معاوية.
([6]) انظر: حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع (50- 57) دار الكتب العلمية.
([7]) انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (32/ 194) الطبعة الأولى، مطابع دار الصفوة، مصر.
([8]) انظر: المنهاج القويم شرح المقدمة الحضرمية (ص 8) لابن حجر الهيتمي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1420هـ- 2000م.
([9]) انظر: المدخل الفقهي العام (1/ 153، 154) مصطفى الزرقا، دار القلم، دمشق، الطبعة الثانية، 1425هـ- 2004م.
([10]) من أوضح الأمثلة على هذا الأمر قصة الصحابي الجليل ماعز والغامديَّة فقد ردَّه النبيُّ ﷺ عدَّةَ مراتٍ مع اعترافه بالزنا فلو كانت الشريعة متشوفة إلى إقامة الحدود لرجمه النبي ﷺ على الفور. فقد روى مسلم في صحيحه في كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا (1695) من حديث بريدة بن الحصيب أن ماعز بنَ مالك الأسلمي أتى رسولَ الله ﷺ فقال: يا رسولَ الله، إني قد ظلمتُ نفسي وزنيتُ، وإني أريدُ أن تُطهِّرَني فردَّه، فلما كان من الغدِ أتاه فقال: يا رسولَ الله، إني قد زنيتُ، فردَّه الثانية، فأرسلَ رسولُ الله ﷺ إلى قومِه فقال: «أتعلمونَ بعقلِه بأسًا تُنكرونَ منه شيئًا؟» فقالوا: ما نعلمه إلَّا وَفيَّ العقلِ من صالِحينا فيما نرى، فأتاه الثالثةَ، فأرسل إليهم أيضًا فسأل عنه، فأخبروه أنَّه لا بأسَ به ولا بعقلِه، فلما كان الرابعة حفرَ له حُفرةً، ثم أَمر به فرُجم، قال: فجاءت الغامديةُ، فقالت: يا رسولَ الله، إنِّي قد زنيتُ فطهِّرني، وإنه ردَّها، فلما كان الغدُ، قالت: يا رسول الله، لمَ تردَّني؟ لعلَّك أن تردَّني كما ردَدْتَ ماعزًا، فوالله إني لحُبلى، قال: «إمَّا لا فاذهبي حتى تلدي» فلما ولدت أتته بالصَّبي في خِرقةٍ، قالت: هذا قد ولدْتُه، قال: «اذهبي فأرضعيه حتى تفطمِيه» فلما فطمته أتته بالصَّبي في يدِه كِسرة خُبزٍ، فقالت: هذا يا نبيَّ الله قد فطمتُه، وقد أكلَ الطعامَ، فدفع الصَّبيَّ إلى رجلٍ من المسلمينَ، ثم أمر بها فحُفر لها إلى صدرِها، وأمر الناسَ فرجموها، فيُقبل خالد بن الوليد بحجرٍ، فرمى رأسَها فتنضَّح الدَّمُ على وجه خالدٍ فسبَّها، فسمع نبيُّ الله ﷺ سبَّه إيَّاها، فقال: «مهلًا يا خالدُ، فوالذي نفسي بيدِه لقد تابتْ توبةً لو تابها صاحبُ مَكْسٍ لغُفرَ له» ثم أمر بها فصلَّى عليها، ودُفنت. (صحيح مسلم، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا (1695) من حديث بريدة ).
وكذلك ما ورد عن الخليفة الراشد الرابع عليِّ بن أبي طالبٍ في فترة خلافتِه، وذلك فيما رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده (1/275) قال: حدثنا عبيد الله، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا هذا الشيخ أيضًا أبو المُحيَّاة التَّيمي، قال: قال أبو مطر: رأيتُ عليًّا أُتي برجلٍ فقالوا: إنه قد سرق جملًا، فقال: ما أراكَ سرقتَ قال: بلى. قال: فلعلَّه شُبِّه لك؟ قال: بلى قد سرقتُ. قال: اذهب به يا قنبَر فَشُدَّ إصبَعَه، وأوقدِ النَّارَ، وادعُ الجزارَ يقطعه، ثم انتظرْ حتى أجيءَ، فلما جاء، قال له: سرقتَ؟ قال: لا. فتركه، قالوا: يا أميرَ المؤمنينَ، لمَ تركتَه وقد أقرَّ لكَ؟ قال: أخذتُه بقولِه وأتركه بقولِه.
([11]) ورد هذا الخبر مرفوعًا وموقوفًا من عدة طرق؛ أمَّا المرفوع: فأخرجه الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود (1424) والحاكم في مستدركه (4/ 384) والبيهقي في الكبرى (8/ 238) من طريق يزيد بن زياد الدمشقي عن الزُّهري عن عروةَ عن عائشة ! أنَّ رسول الله ﷺ قال: «ادْرَءوا الحُدُودَ عنِ المُسْلِمِينَ ما اسْتَطَعْتُم».
وقال الترمذيُّ: «ولا نعرف حديث عائشةَ هذا مرفوعًا إلَّا من حديث محمد بن ربيعة عن يزيد بن زياد الدمشقي، وهو ضعيف في الحديث». وكذا ضعَّفه البيهقي. وصحح إسناده الحاكم، وتعقبه الذهبي بقوله: «قال النسائي: يزيد بن زياد شاميٌّ متروك».
وله شاهد من حديث أبي هريرة ؛ أخرجه ابن ماجه في كتاب الحدود، باب الستر على المؤمن ودفع الحدود بالشبهات (2545)، وأبو يعلى في مسنده (11/494) من طريق وكيع عن إبراهيم بن الفضل عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة ، ولفظ ابن ماجه: «ادفعوا الحدودَ ما وجدتم له مدفعًا». ولفظ أبي يعلى: «ادرءوا الحدودَ ما استطعتم». وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (3/ 103).
وأما الموقوف: فأخرجه الترمذي في سننه عقب الحديث السابق متابعة، وأبو يوسف في الخراج (ص167) والبيهقي في الكبرى عقب الحديث السابق متابعة من طريق وكيع عن يزيد بن زياد البصري عن الزهري عن عروة عن عائشة بنحوه. وذكر الترمذي، والبيهقي: أن رواية وكيع أصح.
وفي الباب عن عمر وعلي وعبدالله بن عمرو وغيرهم مرفوعًا وموقوفًا. انظر: البدر المنير لابن الملقن (8/ 613)، والتلخيص الحبير لابن حجر (4/ 160) وذكر فيه: أن أبا محمد ابن حزم رواه في كتاب الإيصال من حديث عمر موقوفًا عليه بإسناد صحيح.
وذكره الزرقاني في مختصر المقاصد الحسنة (71 /42) وقال عنه: «صحيح موقوفًا، وحسن لغيره مرفوعًا».
([12]) أخرجه الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود (1424) والبيهقي في الكبرى (8/238) والحاكم في المستدرك (4/384) من طريق يزيد بن زياد البصري عن الزهري عن عروة عن عائشة ! به مرفوعًا. وقال الترمذي: «لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث محمد بن ربيعة، عن يزيد بن زياد الدمشقي عن الزهري عن عروة عن عائشة عن النبي ﷺ ورواه وكيع عن يزيد بن زياد نحوه ولم يرفعه، ورواية وكيع أصح، وقد رُوِيَ نحو هذا عن غير واحد من أصحاب النبي ﷺ أنَّهم قالوا مثل ذلك». وقال الحاكم: «صحيح الإسناد ولم يُخرِّجاه» ووافقه الذهبيُّ.
([13]) سبق تخريجه.
([14]) نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة (1/262) تأليف: القاضي أبي علي المحسن بن علي التنوخي، تحقيق: عبود الشالجي، دار صادر- بيروت.
([15]) نشوار المحاضرة (2/269).
([16]) جزء من حديث أخرجه أبو داود في كتاب الحدود، باب رجم ماعز بن مالك (4419) والحاكم في مستدركه (4/363) من طريق وكيع عن هشام بنِ سعدٍ قال حدثني يزيد بنُ نُعيمِ بنِ هَزَّالٍ عن أبيهِ به مرفوعًا. قال الحاكم: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه». وقال عنه الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير ( 4/164) «إسناده حسن».
([17]) البيان لما يشغل الأذهان (1/73- 78) تأليف: الأستاذ الدكتور علي جمعة، دار المقطم للنشر والتوزيع- مصر، الطبعة الحادية عشر، 2005م.
([18]) أخرجه مسلم في كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا (1700) من حديث البراء بن عازب .
([19]) أخرجه أبو داود في كتاب الأقضية، باب في القاضي يُخطئ (3576)، وسعيد بن منصور (750 قسم التفسير من سننه) من طريق عبدالرحمن بن أبي الزِّناد عن أبيه عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة عن ابن عباس به موقوفًا.
([20]) أخرجه أحمد في مسنده (1/246)، والطبراني في الكبير (10/ 302) من طريق عبدالرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس به موقوفًا. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7 /80) «رواه أحمد والطبراني بنحوه، وفيه عبدالرحمن بن أبي الزناد وهو ضعيف، وقد وُثق، وبقية رجال أحمد ثقات».
([21]) أخرجه الحاكم في مستدركه (2/313) والبيهقي في الكبرى (8/20) من طريق سفيان بن عيينة، عن هشام بن حجير، عن طاوس، عن ابن عباس موقوفًا. وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يُخرِّجاه». وقال الذهبي: «صحيح».
([22]) أخرجه سفيان الثوري في تفسيره (ص101) من طريق ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس . وهذا إسناد صحيح؛ إلَّا أن سفيان لم يسمعه من ابن طاوس، وإنما بينهما معمر، فقد أخرجه محمد بن نصر المروزوي في تعظيم قدر الصلاة (2/521)، والطبري في تفسيره (8/465)، وأبو بكر الخلَّال في السُّنة (4/158-159)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 734) من طريق سفيان عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: «هو به كفره، وليس كمن كفر بالله، وملائكته وكتبه ورسله». ولفظ الطبري:«هي به كفر...».
([23]) أخرجه عبدالرزاق في تفسيره (2/20) ومحمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/521) من طريق معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس به موقوفًا.
([24]) جامع البيان في تأويل القرآن (10/357) لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق: أحمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 2000 م.
([25]) مفاتيح الغيب= التفسير الكبير (12/368) لأبي عبدالله محمد بن عمر الرازي، دار إحياء التراث العربي- بيروت، الطبعة الثالثة، 1420هـ.
([26]) المستصفى في علم الأصول (1/398) لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي، تحقيق: محمد بن سليمان الأشقر، مؤسسة الرسالة- بيروت- لبنان، الطبعة الأولى، 1997م.
([27]) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/95) لأبي محمد عبدالحق بن غالب بن عطية الأندلسي، تحقيق: عبدالسلام عبدالشافي محمد، دار الكتب العلمية- بيروت، الطبعة الأولى، 1422هـ.
([28]) انظر: التجربة المصرية (32، 33) أ.د. علي جمعة محمد، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، مارس 2008م.
([29]) المرجع السابق (ص 34).
([30]) المرجع السابق (ص 36).
([31]) انظر: المرجع السابق (43- 46).
([32]) المرجع السابق (ص49، 50).
([33]) المرجع السابق (ص 52).