خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان في هذه الحياة الدنيا لغاية كبرى وهي العبودية لله جل وعلا، وسخر له هذا الكون من أجل هذه الغاية، وأمره بالسعي لإقامة مصالحه والأخذ بأسباب السعادة في الدنيا والآخرة، وأودعه النفس البشرية التي جعلها بعيدة الأغوار مختلفة المنازع والمشارب، ووهبه عقلًا يدرك به الأشياء على حقيقتها، وعلم سبحانه أنه لا يهتدي إلى تحقيق الغاية وإصلاح معاشه والتأهُّب لمعاده إلا بمنهج مستقيم واضح، يوضح له تلك الغاية، ويبين له سُبُلها، ويكبح جماح نفسه عن سبل الغواية والضلال، ويضبط موازين عقله فلا يجنح إلى الأهواء والفساد.
ومن أجل ذلك بعث الله الرسل إلى الناس؛ ليبشروهم وينذروهم، ويبلغوهم ذلك المنهج الحق الذي أراده لهم ربهم سبحانه وتعالى، وأرسل نبينا ﷺ إلى البشرية كلها برسالة خاتمة أوضح فيها المنهاج وبيَّن السبيل، وجعل تلك الرسالة جامعة لموازين الخير والحق والعدل والإحسان، صالحة لكل زمان ومكان، تتخطى حدود الأعراق والأجناس وحواجزها لتنفذ إلى القلوب مرشدة وهادية لها إلى صراط مستقيم، وهذا المنهج الحق الذي بعث الله به رسله قد اشتمل على بيان كل ما يهم الإنسان في علاقته بربه، وعلاقته بنفسه، وعلاقته بالخلق وبالكون كله.
وقد سمى الله سبحانه وتعالى هذه الرسالة وهذا المنهج «شريعة» وأمر نبيه ﷺ باتباعها وعدم الخروج عنها، فقال سبحانه: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الجاثية: 18] فالشريعة معنًى جامع لما أنزله الله على نبيه ﷺ من هذا الدين القويم، وما هداه إليه من توحيد الله وعبادته، وحسن القيام بواجب الاستخلاف في الأرض وإعمارها، وتزكية النفس البشرية وتطهيرها، وهي كما في الآية طريق الله الذي جعله لعباده وشرعه لهم؛ لعلمه سبحانه بما خلقهم عليه وأودعه فيهم، وما يكون فيه صلاح أمرهم أو فساده، فبين لهم الطريق الذي يسلكونه ليكونوا على بصيرة ونور وعلم وهداية، حتى لا يضلوا بسلوك سبيل أهل الجهل والهوى.
إن الشريعة قد اجتمع فيها جملة معالم هذا الدين، فشملت الجانب العقدي الذي يرشد الإنسان إلى حقائق التوحيد، ويهتدي به عقله إلى معرفة الله، والجانب العملي في تطبيق التكاليف والأوامر والنواهي التي شرعها الله له، والجانب السلوكي الذي هو ميزان الأخلاق التي يصلح بها الفرد والمجتمع، واشتملت كذلك على جملة الشعائر والضروريات الدينية التي تمثل هوية الإنسان المسلم وخصوصيته، وتضمنت المقاصد الكبرى التي هي روح الشريعة وحقيقتها، ولا تنفك عنها عبادات الإنسان ومعاملاته وأحواله وسلوكياته، وهي كذلك تشمل القصص والمواعظ التي جعلها الله عبرة للإنسان وتذكرة له بما آلت إليه أحوال الأمم السابقة في رشدها وغيها، وسلوكها طريق الخير أو الشر، وبها يطلعه الله على ما يورثه الحكمة ويحقق له سعادة الدارين في عاجله وآجله، وقد اجتمع ذلك كله في نصوص الوحي الشريف، سواء كان في القرآن الكريم أو السنة المطهرة.
ولما ابتدأ المسلمون تدوين علومهم جعلوا لكل قسم من أقسام الشريعة علمًا مستقلًا، يجمع قواعده وضوابطه ومسائله وقضاياه الكلية والجزئية، وذلك لما وجدوه من سعة الشريعة وشمولها، ووجوب اختصاص كل طائفة بجانب من جوانب المعرفة التي تضمنتها، فقامت طائفة بتشييد أركان الجانب الاعتقادي وأسموه علم العقيدة أو التوحيد أو أصول الدين، وقامت أخرى بالعناية بالجانب العملي الذي يختص بالأحكام الشرعية التكليفية، فأسسوا علم الفقه بأقسامه المتعددة التي شملت جوانب الفعل الإنساني من عبادات ومعاملات، وما زالت كل طائفة تختص بعلم يخدم الشريعة في كل مظهر من مظاهرها، وتضع له أدواته العلمية ومناهجه المنضبطة حتى ينتج من المعارف ما يخدم مقاصد الشريعة وغاياتها.
ومن هنا فقد تداخل مفهوم الشريعة مع تلك العلوم، خصوصًا علم الفقه الذي يعد أكثر العلوم التي تبرز فيها مظاهر الشريعة في الفعل البشري، بل هو أكثرها مساسًا بالحياة الإنسانية كلها على مستوى الأفراد والمجتمعات، وهذا التداخل قد تسبب في بعض الأحيان في عدم وضوح الفروق والخصائص المميزة بين مفهومي الشريعة والفقه، وصار من الضروري التمييز والتفريق بينهما؛ لما أوجده ذلك الاختلاط من استعمال مغلوط للمفهومين في الخطاب الديني الشرعي المعاصر.
إن مفهوم علم الفقه يتمايز عن مفهوم الشريعة، وإن كان إطلاق الشريعة في حق الفقه أمرًا متداولًا سائغًا، إلا أن ذلك يكون في حال وضوح المفهومين عند المستمع دون التباس، فالشريعة ثابتة مستقرة، ولها من القداسة ما للنصوص الدينية، وهي أوسع من مفهوم الفقه؛ حيث إنها تشمل قضايا الدين كلها، نصوصًا ومقاصد وأحكامًا عقدية وعملية وسلوكية، أما الفقه فهو أفهام المجتهدين للشريعة، بل لأحد مجالاتها وهو الأحكام العملية التكليفية فقط دون غيرها، وهذه الأفهام تتجلى في أحكام متغيرة بتغير نظر المجتهدين وطرق استنباطهم، فهي مبنية على الظن دون القطع، وهي كذلك تختلف باختلاف الزمان والمكان والوقائع والأحوال، فالفقه أخص من الشريعة، وجزء من أجزائها، وأحد العلوم الخادمة لها، فهو صناعة علمية قصد بها تفعيل الجانب العملي في أحكام الشريعة على مراد الله فيها، وفقًا لاجتهاد الأئمة أهل النظر والاستنباط فيما يدخل في دائرة الاجتهاد ويسوغ فيه الخلاف، أما الشريعة فهي ثابتة في ذاتها لا يتطرق إليها الاختلاف إلا باعتبار اختلاف العقول في النظر إلى تصرفاتها وأحكامها ومقاصدها، ولذلك يثاب الفقهاء على اجتهادهم وإن أخطأوا؛ لأنهم قائمون بهذا الواجب من النظر في مباني الشريعة ومعانيها.
إن هذا التفريق الواضح بين المفهومين كان حاضرًا في أذهان الفقهاء والأصوليين، وقد تجلى في بعض المسائل التي تناولوها بالبحث والدراسة، وذلك كقضية إطلاق اسم الفقه على المعلوم من الدين بالضرورة، وأنه لا يطلق على تلك المسائل فقه وإن كانت تتعلق بأحكام شرعية عملية، وذلك لأنها قطعية ضرورية، وليست مكتسبة، فاختصوا الفقه بما كان ظنيًّا يحتمل النظر والاستدلال وإجراء مناهج الاستنباط عليه، بينما تدخل تلك الضروريات في مفهوم الشريعة الذي يشمل كلًّا من القطعيات والظنيات؛ لأنهما من جملة الدين، ولا يقوم إلا بهما معًا.
وقد أضحى التداخل بين المفهومين شائعًا- كما ذكرنا- في الخطاب الديني، وهو أمر سائغ اصطلاحًا لولا أن كثيرًا من أدعياء العلم من الجماعات المتطرفة قد استغل هذه القضية من أجل تزييف المفاهيم الشرعية وتغييرها لتوافق أهواءهم، وكذلك فعل كثير من أدعياء تجديد الخطاب الديني؛ ليعبثوا بالثوابت الدينية، ويبثوا بين المسلمين شكوكهم وجهالاتهم.
أما الفريق الأول- وهم المتطرفون- فجعلوا الشريعة والفقه أمرًا واحدًا، وساروا بين الناس ينادون بتطبيق الشريعة، وهي دعوى واسعة لم يكن لها مفهوم واضح ومحدد، إلا أننا بالتتبع والاستقراء نجد أنهم يطلقون هذا المصطلح على مسائل فقهية يسوغ فيها الخلاف، ويحكمون على المسلمين بترك تطبيق الشريعة لأجل اختيارات فقهية مخالفة لما يراه هؤلاء، وينكرون على الناس في أمور واسعة فتح الشارع فيها أبواب الخلاف، لكنهم يستعملون مصطلح الشريعة في أمور الفقه إرهابًا للناس، وخروجًا بتلك المسائل عن دائرة الظن إلى دائرة القطع، من أجل أن يسهل عليهم بعد ذلك تكفير الناس، وإخراجهم من دائرة الإسلام أصلًا؛ لأنهم يعلمون أن مفهوم الشريعة مفهوم شامل للدين كله، فإذا نفوه عن إنسان أو عن مجتمع فقد نفوا عنه الدين جملة وتفصيلًا، وهو أمر مشاهد لدى من يتبنون أفكار الحاكمية وجاهلية المجتمعات، وغيرها من الأفكار المتطرفة، التي يعد أحد مداخلها وأصولها هذا الخلط بين الشريعة والفقه، الذي أحدث جدلًا واسعًا بين المسلمين، وأشعل فتنًا عظيمة، فمن جهة كان كل المسلمين يسعون إلى تطبيق الشريعة في دينهم ودنياهم، ويدعوا إلى ذلك العلماء المتمكنون، لكنهم يدركون أن المقصود بهذه الدعوة عدم الغفلة عن مبادئ الشريعة في التشريع وفي وضع النظم المدبرة للشؤون العامة، ولا يرمون من ترك رأيًا من آراء الفقه إلى رأي آخر يراه أوفق بمصالح العباد بالشرك أو الفسق أو تعدي حدود الشرع، لكن المتطرفين كانوا لا يعتبرون الخروج عن بعض الآراء الفقهية فقط خروجًا عن الشريعة، وإنما يعدون الإنسان خارجًا عن الشريعة بمجرد خروجه عن آرائهم التي غالبًا ما تكون شذوذا في الفهم، وجهلًا بالأحكام والمقاصد الشرعية المعتبرة.
وأما الفريق الثاني من أرباب دعوات التجديد، الذين ليس لهم حظ من العلم المنضبط والمنهج الصحيح، فقد جعلوا الشريعة جملة من آراء الفقهاء غير الملزمة، وبنوا ذلك على نظرة نسبية للأشياء، لا تستثني تلك النظرةُ شيئًا حتى المقدسات والنصوص الدينية ومقاصد الشريعة وقواعدها التي بنيت عليها، كل ذلك خاضع عندهم للنظر والتأويل والنقد، وهي طريقة تنهدم بها عرى الدين عروة عروة، ولا تبقي شيئًا من الأصول المتفق عليها، ولا من ضروريات الشريعة وشعائر الملة التي لا خلاف حولها، ثم ينسحب ذلك الأمر على الجانب السلوكي الأخلاقي الذي هو جزء من الشريعة، ويكون القول بنسبيته أسهل عليهم من الجانب التشريعي، وذلك المسلك يمثل خطرًا على الأمن الفكري للأفراد والمجتمعات؛ لأنه منهج تشكيكي، يقوم على الهدم دون البناء، ولا يمتلك أدوات الفهم اللازمة لما هو بصدده، فتكون نتيجته تفريغًا للمجتمع من المفاهيم الدينية والقيمية والأخلاقية، حتى يتطرق إلى المفاهيم العقدية التي تضمن علاقة الإنسان بربه، وتجعله في سكينة وطمأنينة، فتدخله هذه الأفكار في دائرة الحيرة والتيه والضلال.
والمنهج المنضبط في ذلك الذي يعصم من تلك الأهواء هو التفريق والتمييز بين الشريعة والفقه، وأن بينهما عمومًا وخصوصًا، وأن دائرة الشريعة واسعة، لا يخلو من تطبيقها فرد ولا مجتمع مسلم في عقيدته وتدينه وأعماله وأخلاقه وأحواله، وأن دائرة الفقه كذلك واسعة، لكن من حيث قبولها للاختلاف، فهي زوايا متعددة في النظر إلى الشريعة، لا حرج على المجتهدين فيها، وهي بلا شك لا تكر على الشريعة المنزلة من عند الله بالبطلان، وإنما تدور في فلكها وفي دائرتها، وتكون رحمة للمسلمين في استضاءتهم بنور الشريعة وإن تعددت آراؤهم واجتهاداتهم.