16 يوليو 2024 م

تقسيم التوحيد إلى ألوهية وربوبية وأسماء وصفات

تقسيم التوحيد إلى ألوهية وربوبية وأسماء وصفات

إنَّ المتتبع لفكر التكفير على مدى العصور والذي تعرضنا له في أسئلة سابقة؛ يجد انحصاره في مبادئ ينطلق منها أصحابها لرمي المجتمعات الاسلامية بالكفر، وهذه المبادئ هي لَيٌّ لمعاني النصوص مع استحداث ألفاظ جديدة تحاكي المعاني التي يكفرون بها الناس، فمن أنكر التوحيد يكفر قطعًا لا خلاف لأحد من المسلمين في ذلك، فتوحيد الله سبحانه وتعالى هو الأساس الذي عليه الإسلام، إلا أنهم استحدثوا وجود هذا اللفظ في مواطن جديدة مبتدعة من عندهم، جعلوها أُسسًا في فهم عقيدة المسلمين، وهي- كما سنرى- مستحدثة لا تمتُّ لما عليه السلف الصالح في الفهم، ومن ذلك تقسيمهم التوحيد إلى ثلاثة أقسام (توحيد الألوهية- توحيد الربوبية- توحيد الأسماء والصفات) فمن أنكر أي قسم من هذه الأقسام يكفر عند أصحاب هذا التقسيم.

بدعة التقسيم الثلاثي للتوحيد

إن التقسيم الثلاثي للتوحيد الذي أظهره ابن تيمية كان له أثر إذ استغلت بعض الجماعات المتطرفة هذه الانفرادات للشيخ ابن تيمية وجعلتها منطلقا لها في تطرفها، ومن ذلك هذا التقسيم، فهذا التقسيم من التقسيمات المبتدعة المحدثة في باب الإيمان بالله سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته، والتي لم ترد عن السلف الصالح ولم يقل بها أحد من علماء المسلمين وأئمة المذاهب حتى وصلت منه إلى العصر الحديث فقام بعض من ادعى النسبة إلى السلف الصالح بنشرها والترويج لها والإعلان أن التوحيد له أقسام ثلاثة توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات.

فقام هؤلاء بتصنيف الكتُب والمنشورات التي تعرضُ التوحيد والعقيدة من خلال هذه البدعة، وبنوا على ذلك أن من لم يفهم فهمهم فيها ولم يُؤمن بها ويلتزم بلوازمها فإنه يقعُ في الشرك وعدم اكتمال الإيمان، فسووا بين عقيدة المسلم وعقيدة المشرك نتيجةً لتقسيمٍ اصطلاحي مبتدعٍ، وليس نتيجةً لتقسيمٍ شرعي جاءت به النصوصُ، ثم استخدم هؤلاء القومُ هذا التقسيم في تفريق المسلمين، وجعلوهُ ميزانهم في الحُكم على عقائد الناس، فهم يقولون: نعم أنت تؤمنُ بوجود الله وبأنه الخالقُ المدبرُ الرازق فهذا توحيدُ الربوبية؛ ولكنك لست من الموحدين توحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات بالمعاني التي يُقرونها هم من التجسيم والتشبيه، وعلى هذا فأنت لست من المسلمين حتى الآن حتى تكون المعاني التي يستنبطُونها هُم من أنواع توحيدهم، والمعاني التي يستخلصُونها هي معلوماتك عن التوحيد، فعند ذلك تستحق أن تخرج من دائرة الشرك إلى دائرة التوحيد الذي يرتضونه هُم، ألا ساء مايحكمُون.

لم تكتف هذه الشرذمةُ بما قالت، بل زاد بعضُهم في الابتداع في السنوات الأخيرة وأخرج لنا نوعًا رابعًا من التوحيد أسموهُ بتوحيد الحاكمية حتى تكتمل المنظومةُ التي يستطيعون بها التكفير، فلا مهرب لك أيها الأخُ المسلمُ من الكُفر على مذهب هؤلاء الجهلة، فإنك إن نجوت عندهم من اختبار التوحيد الأول فقد تهلكُ في اختبار النوع الثاني أو الثالث أو الرابع وهكذا، فالأصلُ في الناس على مذهبهم أنهم مشكوك في توحيدهم حتى يفهمُوا التوحيد كما فهموه هم.

وسنتكلم عن هذا في عدة نقاط:

النقطة الأولى: دعوة الرسل والأنبياء إلى توحيد الله عز وجل.

النقطة الثانية: بيان حقيقة التوحيد عند أهل السنة.

النقطة الثالثة: مفهوم التوحيد عند مدعي السلفية.

النقطة الرابعة: الأدلة على وقوع الشرك في الربوبية عند الكفار وعدم تحقق التوحيد عندهم.

النقطة الخامسة: بطلان التقسيم الثلاثي للتوحيد والأدلة على بدعيته.

النقطة السادسة: الرد على شبهة ادعاء وجود تقسيمٍ للتوحيد عند الأشاعرة.

النقطة السابعة: أثر وخطورة التقسيم الثلاثي للتوحيد على واقع الأمة. 

دعوة الرسل والأنبياء إلى توحيد الله عز وجل

قبل أن نبدأ في توضيح وبيان دعوة الرسل والأنبياء إلى التوحيد كان لزامًا علينا أن نبين في تمهيد يسير بعض المُصطلحات، فنلمح في البداية إلى اسم الرب، وهو من الأسماء الجامعة العظيمة التي تدل على المعاني الجليلة في جناب الله سبحانه، وقد ورد لفظُ الرب كثيرًا في كتاب الله بصيغٍ مختلفةٍ، مُفردًا وجمعًا، مُضافًا وغير مضافٍ، ولا يُقالُ الرب لغير الله سُبحانه وتعالى إلا بالإضافة، وقد ذكر أصحابُ المعاجم لكلمة الرب معاني مختلفةٍ:

- قال الزبيدي في تاج العروس: «الرب هو الله عز وجل، وهو رب كل شيءٍ؛ أي مالكُه، له الربوبية على جميع الخلق، لا شريك له، وهو رب الأرباب، ومالكُ الملوك والأملاك، قال أبو منصورٍ: والرب يُطلق في اللغة على المالك، والسيد، والمدبر، والمربي، والمتمم، وباللام لا يُطلق لغير الله عز وجل، وفي نسخةٍ: على غير الله عز وجل إلا بالإضافة؛ أي؛ إذا أُطلق على غيره أُضيف فقيل: رب كذا، قال: ويُقال الرب لغير الله، وقد قالوه في الجاهلية للملك([1]).

- وقال ابن فارس في مقاييس اللغة: «(رب) الراء والباء يدل على أصولٍ؛ فالأول إصلاحُ الشيء والقيامُ عليه. فالرب: المالكُ، والخالقُ، والصاحبُ. والرب: المُصلحُ للشيء. يقالُ: ربَّ فلان ضيعَته، إذا قام على إصلاحها، وهذا سقاء مربوب بالرب، والرب للعنب وغيره؛ لأنه يُرب به الشيءُ، والرب: المُصلح للشيء، والله جل ثناؤهُ الرب، لأنه مُصلحُ أحوال خلقه»([2]).

فمن هذه المعاني في حق الله سبحانه وتعالى يتبينُ لنا أنه هو الرب المتكفلُ بخلق الموجودات، وإخراجها من العدم إلى الوجُود، والقيام على أمرها، وتدبير نظامها، وإمدادها ورعاية حالها، فما من ذرةٍ في السموات والأرض وما بينهما ولا أقل من ذلك ولا أكبر إلا والله سبحانه هو مُوجدُها ابتداءً وممدها بالمدد الرباني في كل لحظةٍ حتى تظل قائمةً مُستمرةً محتفظةً بوجُودها وما خُلقت له وإليه سبحانه عاقبةُ أمرها.

- ولفظُ الإله في كلام العرب يدل على المعبود.

- قال صاحب مقاييس اللغة: «أله الهمزةُ واللامُ والهاءُ أصل واحد، وهو التعبد. فالإلهُ الله تعالى، وسُمي بذلك لأنهُ معبُود. ويقالُ: تأله الرجلُ: إذا تعبد. قال رُؤبةُ:

لله در الغانيات المده
 

سبحن واسترجعن من تألهي
 

والإلاهةُ: الشمسُ؛ سُميت بذلك لأن قومًا كانوا يعبُدُونها»([3]).

 وعند النظر إلى الواقع الحقيقي يتجلى لنا أن المستحق لجميع أنواع العبادة هو الله سبحانه وتعالى لاتصافه بالكمال المُطلق في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وأن من سماهُم الناسُ بالآلهة عبر التاريخ هي مجردُ أسماءٍ باطلةٍ ليس لها من استحقاق العبادة نصيب، وأن الله هو الإله الحق وهذا هو مدلولُ كلمة لا إله إلا الله.

ولا بد من التنبيه إلى أن هذا التفريق هو لغوي، أما استعمال كل من الكلمتين في القرآن فسيأتي خلال هذا البحث أن القرآن الكريم جاء بهما على سبيل الترادف.

وبعد هذا البيان اليسير ندخل في موضوعنا فنوضح في البداية أنه لا بد من معرفة دعوة الأنبياء والمرسلين التي دعوا إليها البشر، وإلى أي شيءٍ دعوهُم؟ وما الذي طلبوا منهم تحقيقه؟ والجوابُ على ذلك أن جميع أنبياء الله الكرام تلخصت دعوتُهم في معرفة الله ربا وإلهًا موصُوفًا بكل كمالٍ منزهًا عن كل نُقصانٍ، وتوحيده وإفراده وحده سبحانه وتعالى بالعبادة ونبذ ما هُم عليه من الكُفر والشرك فكانت شهادةُ أن لا إله إلا الله عنوان دعوتهم.

وأوضحُ بيانٍ وأتمه هو ما جاء في القُرآن الكريم من آيات الله سُبحانه وتعالى في إرشاد عباده إلى معرفته وتوحيده، وبما جاء في كتاب الله على لسان الأنبياء والمرسلين صلواتُ الله وسلامُه عليهم للتعبير عن هذه الدعوة إلى التوحيد الكامل دون تقسيمٍ إلى توحيد ربوبيةٍ وتوحيد ألُوهيةٍ، فإدراكُ هذا البيان هو ما يُحددُ المقصُود بالتوحيد ولايدعُ مجالًا للاجتهاد؛ وذلك لخُطورة ما يترتبُ على هذا الأمر من تحقق وصف التوحيد في حق الناس أو انتفائه عنهم.

ولقد أوضح القُرآنُ الكريمُ أن الأنبياء خاطبُوا أقوامهم بتعريفهم برُبوبية الله تعالى وخصائص تلك الربوبية من القُدرة التامة، والتدبير الكامل، والإيجاد والخلق، والتفرد بالرزق والنفع والضر، ثم بينوا لهُم أنه لا يجوزُ أن يُصرف شيء من العبادة إلا لمن اتصف بهذه الصفات الكاملة سُبحانه وتعالى، وأن صرف العبادة لغيره تعالى ظُلم كبير ووضع للشيء في غير مكانه.

والرسلُ أثبتوا كذلك للمُشركين أن معبوداتهم من دُون الله لا تتصفُ بأي من صفات الربوبية؛ لأن أهل الشرك كانوا يعتقدُون في معبوداتهم كثيرًا من صفات الربوبية، وقد يصيغُون ذلك في شكلٍ فلسفي في بعض الأحيان، فالتماثيلُ عندهم تنفعُ وتضر؛ لأنها صُورة ومثال لقوةٍ حقيقيةٍ تجسدُها هذه التماثيلُ ماديا، ثم مع مرُور الأزمنة يصبحُ التمثالُ المصدر الحقيقي لهذه القوة فيتم العُكوفُ حوله والطلبُ منه مباشرةً وتقديمُ القُرُبات له، فدعوةُ الأنبياء في القُرآن الكريم كانت تبين للمشركين الأدلة التي تُثبتُ إفراد الله سبحانه بالخلْق والإيجاد والتدبير والعبودية له وحده، تعالى الله عما يقول المشركون علوًا كبيرًا.

بيان حقيقة التوحيد عند أهل السنة

إن من أعظم منن الله سبحانه وتعالى على أمة الإسلام أن حفظ لها دينها وعقيدتها من غلو الغالين وتفريط المفرطين وانحراف أهل الضلال، وقيض لها من أهل العلم وأئمة الدين وحملة الشريعة مَن بيَّن حدُود العقيدة وأُصول الدين فاستقامت عقائدُ الأمة وعُصمت في مُجملها العام من الزيغ والانحراف في الاعتقاد، وقد تم ذلك على يد علماء أهل السنة من الأشاعرة والماتريدية الذين حفظ الله بهم أصول الدين وفروعه على مر القرون، فقام الإمامُ أبو الحسن الأشعري ومن جاء بعده من علماء الأشاعرة، وقام الإمامُ أبو منصورٍ الماتريدي ومن جاء بعده من علماء الماتريدية بتقرير عقائد أهل السنة وإيضاحها إيضاحًا تامًا، وبيان أُصولها وحدُودها، مع الرد على المبتدعة وأهل الضلال من سائر الفرق، وهم في ذلك لايبتدعون مذهبًا عقديًّا، بل يُظهرون عقيدة السلف موضحةً مشروحةً.

والإمامُ تاجُ الدين السبكي يؤكد على أن الإمام الأشعري ليس بمؤسسٍ لمذهبٍ في العقيدة؛ وإنما هو مقرر لما كانت عليه عقائدُ السلف الصالح، فيقول رحمه الله في طبقاته: «اعلم أن أبا الحسن لم يُبدع رأيًا ولم يُنشئ مذهبًا؛ وإنما هو مقرر لمذاهب السلف، مناضل عما كانت عليه صحابةُ رسول الله ﷺ، فالانتسابُ إليه إنما هو باعتبار أنه عقد على طريق السلف نطاقًا وتمسك به، وأقام الحُجج والبراهين عليه فصار المقتدي به في ذلك السالكُ سبيله في الدلائل يُسمى أشعريًّا» ([4]).

- ويقولُ أيضًا: «ولم يكُن أبو الحسن أول متكلمٍ بلسان أهل السنة؛ إنما جرى على سنن غيره وعلى نُصرة مذهبٍ معروفٍ فزاد المذهب حُجةً وبيانًا، ولم يبتدع مقالةً اخترعها ولا مذهبًا انفرد به، ألا ترى أن مذهب أهل المدينة نُسب إلى مالكٍ، ومن كان على مذهب أهل المدينة يُقالُ له مالكي ومالك إنما جرى على سنن من كان قبله، وكان كثير الاتباع لهم؛ إلا أنه لما زاد المذهب بيانًا وبسطًا عُزي إليه، كذلك أبو الحسن الأشعري لا فرق، ليس له في مذهب السلف أكثرُ من بسطه وشرحه وتواليفه في نُصرته»([5]).

- ويقولُ في معيد النعم: «وبالجُملة عقيدةُ الأشعري هي ما تضمنتهُ عقيدةُ أبي جعفرٍ الطحاوي التي تلقاها عُلماءُ المذاهب بالقبول وارتضوها عقيدةً»([6]).

وبعد هذين الإمامين الإمام أبي الحسن الأشعري والإمام أبي منصورٍ الماتريدي صار أهلُ السنة يُنسبُون إليهما، فيُقالُ لبعض أهل السنة الأشاعرةُ ويُقالُ لبعضهم الماتريديةُ، وكلا الفريقين ليس بينهم اختلاف في أُصول العقائد، وإنما بينهم بعضُ الاختلافات اللفظية في الفُروع وفي طريقة التعبير عن المعاني.

- يقولُ العلامةُ ابنُ عابدين خاتمةُ المحققين الأحناف: «مما يجبُ اعتقادُه على كل مُكلفٍ بلا تقليدٍ لأحد وهُو ما عليْه أهلُ السنة والجماعة وهُم الأشاعرةُ والماتريديةُ، وهم متوافقُون إلا في مسائل يسيرةٍ أرجعها بعضُهم إلى الخلاف اللفظي كما بُين في محله»([7]).

وقرر هذان الإمامان أصُول عقيدة أهل السنة والجماعة وهي: اعتقادُ أن الله سبحانه وتعالى واحد لا شريك له، ليس بجسمٍ مُصورٍ ولا جوهرٍ محددٍ مقدرٍ، ولا يُشبه شيئًا ولا يُشبهُه شيء: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير)   [الشورى:11] قديم لا بداية لوجُوده، دائم لا يطرأُ عليه فناء ولا تغيير، لا يُعجزُه شيء، لا شبيه له في الذات ولا في الصفات ولا في الأفعال، وأنه سبحانه ليس بمتحيزٍ في جهةٍ ولا مكانٍ، وأنه متعالٍ عن الزمان والمكان، وأن له الصفات الأزلية الأبدية التي لا تُشبه صفات المخلوقين بأي وجهٍ من الوجُوه، وأن له الحياة الأبدية الأزلية، وله العلمُ والإرادةُ والسمعُ والبصرُ والكلامُ، والبقاءُ الذي لا يلحقُه فناء كما لم يسبقْه عدم، وأنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء فهو متفرد في الذات والصفات والأفعال.

وحين تكلم علماءُ أهل السنة عن التوحيد تكلموا عنه من ثلاث جهاتٍ وهي: توحيدُ الذات، وتوحيدُ الصفات، وتوحيدُ الأفعال، من حيثُ إن حقيقة ذات الله سبحانه وتعالى ليست كذوات المخلوقات بأي وجهٍ من الوجُوه، ولا بأي نسبةٍ من النسب، وإن صفات الباري- جل وعلا- ليست كصفات المخلُوقات فهي صفات أبدية أزلية لا يُحيطُ بها العقلُ ولا يُدركُ كُنه حقيقتها أو يتوهمُها الخيالُ، وكذلك أفعالُه سُبحانه وتعالى؛ فالله مُوجد جميع الأشياء والمفعولات ومُخرجُها من العدم إلى الوجُود، فهو خالقُ كل شيءٍ، فلا خالق غيرُه سبحانه ولا تأثير في المخلوقات لأحدٍ سواه، مُطلقُ القُدرة سبحانه ظهرت عظمُ قُدرته وجليلُ صفاته في خلقه للمخلوقات على غير مثالٍ سابقٍ من غيره، فأبدع وصور وضبط وصرف شئون مُلكه فلا خلل فيه، سبحانه لا يُعجزُه شيء ولا يسبقُه شيء فهو قبل كل شيءٍ، وتظهرُ عظمتُه في كل شيءٍ ومحيط بكل شيءٍ، وهو بعد كل شيءٍ، وكان قبل أن يكون المكانُ بلا مكانٍ وهو الآن على ما كان قبل خلق الزمان والمكان، فلا يُقالُ متى كان؟ ولا كيف كان؟ ولا أين كان؟ سبحانه لا يتقيدُ بالزمان ولا يتخصصُ بالمكان، لا تبلغُه الأوهامُ ولا تُدركُه الأفهامُ، عجزت العقولُ عن الإحاطة بعظمته وصفته، سبحانه ليس بمُتخيلٍ ولا مُتصورٍ ولا داخلٍ في الوهم، خلق الخلق وأعمالهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم، لا دافع لما قدر وقضى، ولا مانع لما أعطى، ولا مُعطي لما منع، يفعلُ في ملكه ما يُريدُ: (لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون)    [الأنبياء:23] ما شاء كان وما لم يشأ لم يكُن.

- قال الإمامُ أبو جعفرٍ الطحاوي- قدس الله سرهُ- في متن العقيدة الطحاوية:

«نقولُ في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله تعالى: إن الله واحد لا شريك له ولا شيء مثله ولا شيء يُعجزُه ولا إله غيرُه، قديم بلا ابتداءٍ دائم بلا انتهاءٍ لا يَفنى ولا يَبيدُ، ولا يكونُ إلا ما يُريدُ، لا تبلغُه الأوهامُ ولا تُدركُه الأفهامُ ولا يُشبهُ الأنام، حي لا يموتُ قيوم لا ينامُ، خالق بلا حاجةٍ، رازق بلا مُؤنةٍ، مميت بلا مخافةٍ باعث بلا مشقةٍ، ما زال بصفاته قديمًا قبل خلقه، لم يزدد بكونهم شيئًا لم يكُن قبلهم من صفته، وكما كان بصفاته أزليًّا كذلك لا يزالُ عليها أبديًّا، ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق، ولا بإحداثه البرية استفاد اسم «الباري» له معنى الربوبية ولا مربوب ومعنى الخالق ولا مخلوق»([8]).

- ويقولُ أيضًا: «ومن لم يتوق النفي والتشبيه زلَّ ولم يُصب التنزيه، فإن ربنا- جل وعلا- موصوف بصفات الوحدانية، منعوت بنعُوت الفردانية ليس في معناهُ أحد من البرية، وتعالى عن الحدُود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهاتُ الست كسائر المُبتدعات»([9]).

- ويقولُ الإمامُ البيجوري: «والمرادُ بالتوحيد هُنا الشرعي، وهو إفرادُ المعبود بالعبادة مع اعتقاد وحدته ذاتًا وصفاتًا وأفعالًا»([10]).

- وعند النظر للغالبية العُظمى من علماء أمة الإسلام على مر القُرون نجدُهم إما على مذهب الأشعري أوعلى مذهب الماتريدي إلا من شذَّ من أهل الضلال والأهواء؛ فهاتان المدرستان أخرجتا لأمة الإسلام تلك العقول الجبارة الذكية التي كونت تراث الأمة الإسلامية، وحفظت على المسلمين أمر دينهم وعقائدهم، فكان منهم أئمةُ علم التوحيد والمحدثون والمفسرون والفقهاءُ والأصُوليون وأئمةُ اللغة، وكذلك كان ولاةُ أمور المسلمين وحكامُهم على مر العُصور من أهل السنة من الأشعرية والماتريدية، قال الإمامُ تاجُ الدين السبكي: «وهؤلاء الحنفيةُ والشافعيةُ والمالكيةُ وفُضلاءُ الحنابلة في العقائد يد واحدة على رأي أهل السنة والجماعة يدينون لله تعالى بطريق شيخ السنة أبي الحسن الأشعري رحمه الله...»([11]).

- فمنهم على سبيل المثال لا الحصر:

- من علماء التفسير: الإمامُ القُرطبي والإمامُ الرازي والإمامُ البيضاوي والإمام النسفي والإمام أبو حيان الأندلسي والعلامة أبو السعود والعلامةُ الألوسي وغيرُهم.

- ومن أهل الحديث وعلومه: الإمامُ الحافظُ ابنُ عساكر، والإمامُ الحافظُ أبو عمرو بنُ الصلاح، والإمامُ الحافظ مُحيي الدين النووي ، والإمامُ ابنُ دقيقٍ العيد، والإمامُ الحافظُ زينُ الدين العراقي، وشيخُ الإسلام الحافظُ ابنُ حجر العسقلاني شارحُ صحيح البُخاري، والإمامُ الزيلعي، والإمامُ السخاوي، والإمامُ السيوطي، والإمامُ المناوي وغيرُهم.

- ومن أهل الأصول والفقه والقواعد: حُجةُ الإسلام الإمامُ الغزالي، وإمامُ الحرمين أبو المعالي عبدُالملك الجويني، والإمامُ أبو إسحاق الشيرازي، والإمامُ فخرُ الدين الرازي، والإمام سيفُ الدين الآمدي، وسلطانُ العلماء العز بنُ عبدالسلام، والإمامُ تقي الدين السبكي، والإمام بدرُ الدين الزركشي، والإمام جلالُ الدين المحلي وغيرُهم.

- ومن أهل اللغة وعلومها: الجُرجاني وابنُ الأنباري وابنُ مالكٍ وابنُ هشامٍ وابنُ الحاجب والزبيدي وغيرُهم.

ومن القادة والملوك والسلاطين الذين حفظ الله بهم بلاد المسلمين: السلطانُ ألْب أرسلان والوزيرُ نظامُ المُلك وسلاطينُ الدولة السلجوقية، والسلطان نورُ الدين محمود الملقبُ بالشهيد، والناصرُ صلاحُ الدين الأيوبي، والظاهرُ بيبرس، وسلاطينُ وملوكُ الدولة الأيوبية ودولةُ المماليك، والسلطانُ محمد الفاتحُ وجميع سلاطين الدولة العُثمانية.

فالأشاعرةُ والماتريديةُ هم حملةُ الدين وحراسُ العقيدة الذين قامُوا بنُصرة شريعة الإسلام وبيان حدُودها؛ فصنف أتباعُ الإمام الأشعري والإمام الماتريدي ومن بعدهما المئات من المجلدات في الرد على أهل الزيغ والضلال من المُخالفين في باب التوحيد والاعتقاد، والتي احتوت على البراهين النقلية والعقلية في إثبات المعتقد الحق لأمة الإسلام، فقد انتشر مذهبُ أهل السنة من الماتريدية والأشاعرة في الخافقين، وأصبحت عقيدةُ الأمة محفوظةً بفضل هؤلاء العُلماء من الطائفة المنصورة، ولم يشذ عن فهمهم وعلومهم إلا النزرُ اليسيرُ ممن ليس له رسوخُ قدمٍ في العلم.

ولقدْ كانت كتبُ العقيدة الأشعرية والماتريدية تُدرسُ حتى أوائل القرن العشرين في الحرمين الشريفين وفي المعاهد العلمية في بلاد الحجاز، وما تزالُ تدرسُ في المراكز العلمية الكُبرى في بلاد الإسلام كالأزهر الشريف وغيره والتي خرجت أئمةً في كل علوم الشريعة.

وأقول: إن نظرةً واحدةً على أسماء العُلماء والقادة والملوك والسلاطين من أئمة أمة الإسلام ممن كانُوا على مذهب الأشعري والماتريدي تجعلُ المرء يُوقنُ ويُسلم أن الأشاعرة والماتريدية هم الطائفةُ المنصورةُ التي جاءت فيها عدةُ أحاديث عن رسول الله ﷺ منها: ما في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة: أن النبي ﷺ قال: «لايزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمرُ الله وهُم ظاهرُون»([12]).فهُم جمهورُ أهل السنة والجماعة وهُم السوادُ الأعظمُ من الأُمة، والتي حض رسولُ الله ﷺ على اتباعه وعدم الشذوذ عنه، روى ابنُ عمر رضوانُ الله عليهما أن النبي ﷺ قال: «إن الله لا يجْمعُ هذه الأُمة على ضلالةٍ أبدًا، وإن يد الله مع الجماعة، فاتبعُوا السواد الأعظم، فإن من شذ شذ في النار»([13]).ولا بد في هذا المقام من أخذ نبذةٍ عن حياة إمام أهل الحق الإمام أبي الحسن الأشعري توضحُ لنا إمامته ورسوخه في العلم: يقولُ القاضي ابنُ فرحون المالكي في ترجمة الإمام الأشعري:

«علي أبو الحسن المتكلمُ بنُ إسماعيل بن أبي بشر بن إسحاق بن أبي سالم بن إسماعيل بن عبدالله بن مُوسى بن بلال بن أبي بُردة بن أبي مُوسى الأشعري صاحب رسول الله ﷺكان مالكيًّا، صنف لأهل السنة التصانيف، وأقام الحُجج على إثبات السنن وما نفاه أهلُ البدع من صفات الله تعالى، ورؤيته، وقدم كلامه، وقدرته عز وجل، وأمور السمع الواردة: من الصراط، والميزان، والشفاعة، والحوض، وفتنة القبر الذي نفته المُعتزلةُ، وغير ذلك من مذاهب أهل السنة والحديث، فأقام الحُجج الواضحة عليها من الكتاب والسنة، والدلائل الواضحة العقلية، ودفع شُبه المعتزلة ومن بعدهم من الملاحدة والرافضة، وصنف في ذلك التصانيف المبسوطة التي نفع الله بها الأمة، وناظر المعتزلة وظهر عليهم، وكان أبو الحسن القابسي يُثني عليه، وله رسالة في ذكره لمن سأله عن مذهبه فيه، أثنى عليه وأنصف، وأثنى عليه أبو محمدٍ بن أبي زيد وغيره من أئمة المسلمين.

ولأبي الحسن من التآليف المشهورة كتب كثيرة جدًّا عليها معولُ أهل السنة منها: كتاب الموجز، وكتاب التوحيد والقدر، وكتاب الأصول الكبير، وكتاب خلق الأفعال الكبير، وكتاب الصفات، وكتاب الاستطاعة، وكتاب الرؤية، وكتاب الأسماء والأحكام والخاص والعام، وكتاب إيضاح البُرهان، وكتاب الحث على البحث، والنقض على البلخي، والنقض على الجُبائي، والنقض على ابن الراوندي، والنقض على الخالدي، وكتاب الدامغ، وأدب الجدل، وجوابات الطبريين، وجوابات العمانيين، وجوابات الجُرجانيين، والجوابات الخراسانية، وجوابات الرامهرمُزيين، ومقالات الإسلاميين، والمقالات الكبيرة، ونقض كتاب التاج، وكتاب النبوات، وكتاب اللمع الصغير، وكتاب الشرح والتفصيل، وكتاب الإبانة في أصول الديانة... ومن وقف على تآليفه رأى أن الله تعالى أيده بتوفيقه، وذُكر أنه كان في ابتداء أمره مُعتزليًّا ثم رجع إلى هذا المذهب الحق ومذهب أهل السنة فكثُر التعجبُ منه، وسُئل عن ذلك فأخبر أنه رأى النبي ﷺ في رمضان وأمره بالرجوع إلى الحق ونصْره، فكان ذلك والحمدُ لله تعالى»([14]).

مفهومُ التوحيد عند مدعي السلفية

ينطلقُ مفهومُ هؤلاء القوم للتوحيد من خلال تقسيمةٍ ثُلاثيةٍ، وهذه القسمةُ لم تأت هكذا؛ بل ثمة مقدمات أدت إليها، وهذه المقدماتُ هي:

وقوعُ الخطأ في فهم حقيقة التوحيد التي دعت إليه الأنبياءُ والمرسلون، وإيجادُ التفرقة بين معاني التوحيد وتخصيصُ بعض معاني التوحيد لقسمٍ خاص والبعضُ لقسمٍ ثانٍ وثالثٍ ثم افتراضُ أن يتولد في قلب المرء التوحيدُ والشركُ في آنٍ واحدٍ، هذه المقدمات أدت إلى حدُوث التفريق عندهم بين ربُوبية الله وبين أُلوهيته وبين أسمائه وصفاته، وقالوا بجواز انفصال توحيد الربوبية عن توحيد الأُلوهية في القُلوب والسلوك؛ ليعملوا على تأصيل مذهبهم وهو جوازُ تلبس المسلمين بأعمال الشرك والكُفر، وذلك من خلال توصيف الأفعال والأقوال الجائزة أو المختلف عليها بأنها من باب الشرك الأكبر.

ولكن بهذا التصور قد يقعون في إشكاليةٍ وهي كيف يكونُ المسلمُ الموحدُ مُشركًا بالله في نفس الوقت؟!

وذلك أنهم قد زعموا أن المشركين كانُوا مؤمنين بربوبية الله إيمانًا تامًّا، وأنهم يعتقدون اعتقادًا جازمًا بأن الله تعالى متفرد بالتدبير والنفع والضر، إلا أن شركهم قد جاء فقط من اتخاذهم الوسائل من المخلوقات والطلب منها، وزعمُوا أن الأنبياء لم يُخاصموا أقوامهم في الربوبية، وأن المشركين في الربوبية قليلون من البشر لا يكادون يُذكرون، وبناءً على هذا الكلام فهُم يعتبرون أن كتب التوحيد عند أهل السنة من عُلماء الأشاعرة والماتريدية التي تبحثُ في تمييز ما يجبُ وما يستحيلُ وما يجوزُ على الله تعالى إنما هو بحث في أمرٍ اعترف المشركون به ولم يُدخلهم في دين الإسلام، وأن الدعوة إلى الإيمان بربوبية الله تعالى وصفاته، وإفراده بالتدبير والتصرف والنفع والضر ليست دعوةً للتوحيد الذي جاءت به الرسلُ؛ لأن الرسل بذلك يدعون إلى توحيدٍ كان موجودًا عند أهل الشرك!

ثم بعد ذلك حتى تكتمل الصورةُ أدرجُوا مظاهر المحبة والتوسل بالصالحين ضمن مفهوم العبادة الاصطلاحي دون تفريقٍ بين من يعتقدُ اعتقادًا جازمًا أن الله هو النافعُ الضار وما المخلوقاتُ إلا نافذة من نوافذ القدر وسبب من الأسباب يسوقُ الله بها ما يُقدرُه في مُلكه إلى من يشاءُ من عباده، فلم يُفرقوا بين أصحاب هذا الاعتقاد من عامة المُسلمين وبين من يعتقدُ في الأشخاص والأشياء أن لها القُدرة الذاتية على النفع والضر، وهذا لم يُوجد أبدًا عند المسلمين، فجعلوا من مفهومهم هذا للعبادة والتوحيد مدخلًا كبيرًا لرمي المُسلمين بالشرك واستباحوا بذلك الدماء والأموال، ولبيان مذهبهم في هذه البدعة نقولُ: ذهب ابنُ تيمية إلى تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أنواعٍ:

الأول: توحيدُ الربوبية: وهو موجود عند جميع المُشركين- في رأيه- فضلًا عن المؤمنين، وهو بذلك يفترضُ أن المؤمن والمشرك يوحدون الله تعالى هذا التوحيد، ويُؤمنُون بأن الله خلق السموات والأرض، وأنه هو المتكفلُ بالإيجاد والتدبير والرزق والمُلك.

الثاني: توحيدُ الألوهية: وهو التوحيدُ في العبادة فيقولُ: «ليس المرادُ بالإله هو القادر على الاختراع؛ كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلمين، حيثُ ظنوا أن الإلهية هي القُدرةُ على الاختراع دون غيره، وأن من أقر بأن الله هو القادرُ على الاختراع دون غيره فقد شهد أن لا إله إلا هو، فإن المشركين كانوا يُقرون بهذا وهم مُشركون كما تقدم بيانُه، بل الإلهُ الحق هو الذي يستحق بأن يُعبد فهو إله بمعنى مألوه؛ لا إله بمعنى آله.

والتوحيدُ أن يُعبد الله وحده لا شريك له، والإشراكُ أن يُجعل مع الله إله آخرُ، وإذا تبين أن غاية ما يُقررُه هؤلاء النظارُ أهلُ الإثبات للقدر المنتسبون إلى السنة إنما هو توحيدُ الربوبية وأن الله رب كل شيءٍ، ومع هذا فالمُشركون كانوا مُقرين بذلك مع أنهم مُشركون، وكذلك طوائفُ من أهل التصوف والمنتسبين إلى المعرفة والتحقيق والتوحيد غايةُ ما عندهم من التوحيد هو شهودُ هذا التوحيد، وأن يشهد أن الله رب كل شيءٍ ومليكُه وخالقُه، لاسيما إذا غاب العارفُ بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شُهوده، وبمعرُوفه عن معرفته، ودخل في فناء توحيد الربوبية؛ بحيثُ يفنى من لم يكُن، ويبقى من لم يزل، فهذا عندهم هو الغايةُ التي لا غاية وراءها، ومعلوم أن هذا هو تحقيقُ ما أقر به المشركون من التوحيد، ولا يصيرُ الرجلُ بمجرد هذا التوحيد مُسلمًا فضلًا عن أن يكون وليًّا لله أو من سادات الأولياء، وطائفة من أهل التصوف والمعرفة يُقررون هذا التوحيد مع إثبات الصفات فيفنون في توحيد الربوبية مع إثبات الخالق للعالم المباين لمخلوقاته، وآخرون يضمون هذا إلى نفي الصفات فيدخلون في التعطيل مع هذا، وهذا شر من حال كثيرٍ من المُشركين»([15]).

الثالثُ: توحيدُ الأسماء والصفات: وهو إثباتُ مفهومٍ محددٍ لأسماء الله وصفاته بناءً على ما توصل إليه اجتهادُه في هذا الباب من لزُوم ظواهر الأسماء والصفات وحقائقها اللفظية وظواهرها المعروفة، مما يُوقعُ الإنسان في باب التشبيه والتجسيم، هذا هو تقسيمُ التوحيد عند ابن تيمية، ومن جاء بعده نسج على منواله وأخذ بأقواله.

ونحن نلحظ فيه مايلي:

1- لم يسبق إلى هذا التقسيم بهذه الصورة والمعاني أحد من المسلمين قبل ابن تيمية، وتبعه في ذلك بعض الذين يدعون النسبة للسلف الصالح، ويُعد بدعةً من هذه الناحية وخاصةً أنه في باب التوحيد والاعتقاد.

2- المشركون من وجهة هذا الرأي كانوا مُؤمنين بربوبية الله تعالى إيمانًا تامًّا، وأنهم يعتقدون اعتقادًا جازمًا بتفرد الله تعالى بالتدبير والنفع والضر، وإنما جاء شركهُم فقط من ناحية اتخاذهم آلهةً بصورٍ مختلفةٍ لتكون واسطةً بينهم وبين الله سبحانه وتعالى، فهُم موحدون توحيد الربوبية وإنما أشركوا في توحيد الألوهية.

3- توحيد الربوبية يُمكنُ أن ينفصل عن توحيد الألوهية ويُسمى توحيدًا أيضًا، وبناءً على هذا سيجتمعُ التوحيدُ والشركُ في قلب العبد فيصبحُ موحدًا ومُشركًا في نفس الوقت.

4- بناءً على هذا التقسيم هم يُلصقون بالمسلمين صفات المشركين، ويحكمُون عليهم بأحكام المُشركين؛ وذلك من حيثُ إنهم يفترضُون أن من المُسلمين من يقومُ بمثل ما كان يقومُ به المشركون في طلب النفع وكشف الضر من المخلوقات، وبالتالي فهُم موحدون في الربوبية ويقعون في الشرك في توحيد الألوهية، فيدخُل أصحاب هذا المسلك من هذا الباب إلى تكفير المسلمين من نواحي كثيرةٍ.

والإنسانُ المسلمُ بفطرته وقلبه وعقله يجدُ أن من الصعوبة بمكانٍ تقسيم التوحيد وجعله في خاناتٍ مُخصصةٍ بها؛ بل إن التوحيد هو المعرفةُ الكاملةُ التي لا تتجزأ والتي تزدادُ في القلب تراكميًّا فتولدُ نور التوحيد، فلا يستطيعُ المرءُ عمليا أنْ يُقسم هذه المعرفة الكلية بالله تعالى إلى أقسامٍ يُسمى كل منها توحيدًا، أو يفصل معاني التوحيد في قلبه وعقله بعضها عن بعضٍ؛ إذْ إنها مُتكاملة يمد بعضُها بعضًا فتنتجُ أعمال القلوب من المحبة والانقياد لله تعالى وتظهرُ آثارُ ذلك على الجوارح في صُورة العبادات المختلفة ما لم تُوجد معارضات.

الأدلةُ على وقُوع الشرك في الربوبية عند الكفار وعدم تحقق التوحيد عندهم:

قد ظهر فيما سبق أن أصحاب تقسيم التوحيد يعتقدُون أن الكفار والمشركين كانُوا يوحدون الله في الربوبية من حيثُ اعتقادُ أن الله سبحانه وتعالى الخالقُ المالكُ المدبرُ لأمر الخلق، وأنه هُو النافعُ الضار إلى آخر ما تدل عليه ربوبيتُه من أفعالٍ؛ ولكن هل هذا كان واقعًا بالفعل من أهل الشرك أم أن الأمر مجردُ ادعاء؟

فنقولُ: لا شك أن أهل الشرك أقروا لله سبحانه وتعالى بعض أفعاله كما ورد في بعض آيات القُرآن الكريم، ولذلك كانت رسالةُ الرسل آتية بتأصيل توحيد الألوهية دون التعرض لتوحيد الربوبية،ومع ذلك فإن المشركين لم يُفردُوه سبحانه بها، ودعوى أن المُشركين قد أفردوا الله تعالى بالأفعال وأنهم أقروا بتوحيد الربوبية دعوى باطلة لسببين:

الأول: أن النصوص الشرعية الكثيرة قد دلت دلالةً واضحةً على وقُوع الشرك منهم، وأنهم يعتقدون في آلهتهم أنهم شركاء لله تعالى في بعض الأفعال.

الثاني: أن النصوص الشرعية الكثيرة قد دلت دلالةً قاطعةً على أنهم كفروا ببعض أفعال الله سبحانه وتعالى.

فكيف يكونُ من وقع منه هذا محققًا لتوحيد الربوبية؟!

والأدلة على ماذكرناه هي:

- أن الله سبحانه وتعالى قد بيَّن في كتابه الكريم في السور المكية معاني ربوبيته المطلقة الكاملة وأوضحها أتم إيضاحٍ، وألزم أهل الشرك بها وبما تدل عليه، فلم يوجه هذا الخطاب إلى أُناسٍ هم بها مؤمنون، ويجادلهم فيها إذا كانُوا بالفعل موحدين توحيد ربوبيةٍ؟

- قولُه سبحانه: ﴿ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُون﴾ [العنكبوت: 17] هذه الآيةُ تدل على وقوع الشرك في توحيد الربوبية عند الكفار، فهُم يعتقدون أن آلهتهم بيدها مقاليدُ الرزق، ولو كان الأمرُ كما يصف مدعو السلفية من إقرار المشركين بتوحيد الربوبية وأن الرزق منه سبحانه فإنهم وبكل بساطةٍ سيقُولون: نحنُ بالفعل كذلك، نعلم أن الله هو الرزاقُ وحده، وأن آلهتنا لا تملكُه، فما بالُك يا محمدُ تخاطبُنا بذلك ونحن مقرين به؟! وحينئذٍ فسوف تكونُ الدعوةُ لهم تحصيل حاصلٍ، والله منزه سبحانه أن يجعل في كتابه الكريم خطابًا لا فائدة منه في الواقع، إذن فهؤلاء يُثبتون الشركة لآلهتهم مع الله في الرزق والتدبير.

- ومن الآيات الدالة على وقُوع الشرك في توحيد الربوبية عند الكفار قولُه تعالى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا﴾ [مريم: 81] فالآيةُ قطعيةُ الدلالة على أن المُشركين عبدُوا آلهتهم واعتقدُوا فيها تحقق العزة والنصر، وهذا من أفعال الربوبية التي ينفردُ بها رب العباد سبحانه، فكيف يُقالُ إن الكفار لم يُشركُوا في الربوبية؟!

- كذلك قولُ الله عز وجل:﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد﴾ [الزمر: 36] ففي هذه الآية الكريمة تصريح بأن المشركين يخوفون رسول الله ﷺ بآلهتهم لاعتقادهم أن لها قُدرةً على النفع والضر، وقد ذكر الإمامُ البغوي في تفسيره لهذه الآية: ﴿ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ ﴾ [الزمر: 36] بأنهم خوفُوا النبي ﷺ معاداة الأوثان وقالُوا: «لتكُفن عن شتم آلهتنا أو ليُصيبنك منهُم خبل أوجُنون»([16]).

- ومن الأدلة أيضًا ما ذكره الله عن قوم هودٍ حيثُ قال: ﴿ قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِين ﰒ  إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُون ﴾ [هود: 53-54].

يُخبرُ الله سبحانه وتعالى عن ما قاله قومُ هودٍ لنبيهم عليه السلامُ عندما نصح لهم ودعاهم إلى التوحيد من أنهم لن يتركوا عبادة آلهتهم، وأنه قد أصابه منها سوء وضرر، فهم يعتقدون في آلهتهم القدرة على أن تُوقع الضر؛ وذلك إشراك لها في ربوبية الله تعالى، فكيف يكونُ هؤلاء المشركون محققين لتوحيد الربوبية؟!

- ومن الأدلة أيضًا إنكارُ المشركين للبعث وهو من أفعال الرب سبحانه وتعالى، فهُم يكفرُون بالبعث والنشور، قال سبحانه: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير﴾ [التغابن: 7] فهُنا أهلُ الشرك أنكروا أن يبعث الله العباد من بعد الموت، فأين توحيدُهم لربوبيته سبحانه وهم يُنكرون قدرته على ذلك؟ ليس هذا فقط، بل هم يصفون البعث بأنه أساطيرُ الأولين قال تعالى:﴿ بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُون ﮚ قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُون ﮣ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِين ﴾ [المؤمنون: 81-83].

- ويقول الله تعالى: ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيم ﮠ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيم ﴾ [يس: 78-79].

وسببُ نزُول هذه الآيات ما أخرجه الحاكمُ في مستدركه من حديث ابن عباس قال: جاء العاص بن وائل إلى رسول الله ﷺ بعظمٍ حائلٍ ففته فقال: يامحمد أيبعثُ الله هذا بعد ما أرم؟قال: «نعم، يبعثُ الله هذا ثم يميتُك، ثم يُحييك، ثم يُدخلُك نار جهنم» قال: فنزلت الآيات([17]).

فكيف لقومٍ موحدين توحيد الربوبية ثم يأتي الواحدُ منهُم بالعظم الرميم ويفتته أمام رسول الله ﷺ ويقولُ له: يا محمد، هل يستطيعُ ربك أن يجمع هذه؟ فهل هذا يعرفُ شيئًا عن ربوبية الله؟!

- ويُخبرنا الله تعالى عن عقيدة هؤلاء المشركين فيقولُ: ﴿ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّون﴾ [الجاثية: 24] فأي ربوبيةٍ يؤمنُ بها هؤلاء الكفار وهُم يجحدون أن الله هو المُحيي المميتُ، وأن الدهر هو الذي يقضي عليهم بالموت؟!

- ويقص الله تعالى علينا خبر صاحب الجنة فيقولُ: ﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ﴾ [الكهف: 42] فهذا تصريح منهُ بأنه أشرك بالله، وذلك أنه أنكر نعم الله عليه وفضله ورزقه له، وجحد قدرة الله على البعث فقال: ﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا﴾ [الكهف: 36].

- يذكرُ الله لنا خطاب المشركين للأصنام يوم القيامة حيثُ يقولون لهم:﴿تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِين ﮣ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِين﴾ [الشعراء: 97-98] في هذه الآية نجدُ الندم بادٍ على المشركين حيثُ اتخذوا هذه الآلهة أربابًا من دون الله، إذن فكيف كانُوا موحدين لله تعالى توحيد ربُوبيةٍ؟!

- ومن الأدلة أيضًا: أن هؤلاء الكفار يُصرحون بالشرك الصريح في إثبات نصيبٍ لمعبُوداتهم الباطلة، فكيف يكونون محققين لتوحيد الربوبية وهم القائلون كما نقل القرآنُ الكريمُ عنهم: ﴿وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَـذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُون﴾ [الأنعام: 136].

- وينهانا الله عن أن نسُب آلهة المشركين حتى لا يسبوا الله عدوًا بغير علمٍ قال تعالى: ﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُون﴾ [الأنعام: 108] والسؤالُ هنا هل من يسب الله يصح له توحيد أو يجوزُ أن نقول أنه كان موحدًا توحيد ربوبيةٍ؟!

- والسؤالُ أيضًا كيف يكونُ موحدًا لله في رُبوبيته من ينسبُ إليه البنات؟ ﴿أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا﴾ [الإسراء: 40]. ﴿ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى ﯚ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾ [النجم: 21-22] ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُون ﯫ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلاَئِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُون ﯲ أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُون ﯸ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون  ﯽ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِين ﰂ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون﴾ [الصافات: 151 -154] فهل هذا الذي نسب إلى الله أنه اتخذ البنات من الملائكة يكونُ عنده توحيد؟!

- هل من عندهم توحيد لله في الربوبية يقولون مقالة أبي سفيان يوم غزوة أحدٍ: «اعلُ هُبلُ» فأجابه النبي ﷺ بقوله: «الله أعلى وأجل»([18]). فهل الموحد توحيد رُبوبيةٍ يُعلنُ علو إلهه الذي يعبدُه على الله سبحانه وتعالى؟!

- وفي الحديث الذي أخرجه الحاكمُ في المستدرك عن إياس بن معاوية بن قرة عن أبيه قال: «لما كان يوم القادسية بُعث بالمُغيرة بن شُعبة إلى صاحب فارس، فقال: ابعثوا معي عشرةً فبعثوا، فشد عليه ثيابه، ثم أخذ حجفةً، ثم انطلق حتى أتوه، فقال: ألقُوا لي تُرْسًا، فجلس عليه. فقال العلجُ: إنكم معاشر العرب قد عرفتُم الذي حملكم على المجيء إلينا، أنتم قوم لا تجدون في بلادكم من الطعام ما تشبعون منه، فخذُوا نُعطيكم من الطعام حاجتكم، فإنا قوم مجوس، وإنا نكره قتلكُم، إنكم تنجسُون علينا أرضنا، فقال المغيرةُ: والله ما ذاك جاء بنا؛ ولكنا كنا قومًا نعبدُ الحجارة والأوثان، فإذا رأينا حجرًا أحسن من حجرٍ ألقيناهُ وأخذنا غيره، ولا نعرفُ ربا حتى بعث الله إلينا رسولًا من أنفسنا، فدعانا إلى الإسلام فاتبعناهُ...»([19]).

هذا الصحابي الجليلُ المغيرةُ بن شُعبة يُخبرُ عن حالهم في الجاهلية فيقولُ: «ولا نعرفُ ربًّا» فكيف يكونُ من لا يعرفُ ربا موحدًا توحيد ربوبيةٍ على زعم هؤلاء؟!

وبعد سرد هذه الأدلة نقولُ: ربما نجدُ عند هؤلاء المشركين نوع معرفةٍ بالخالق على الجُملة، أوعندهم شيء من الإقرار ببعض صفات الربوبية؛ لكن لا يُتصورُ أن يُطلق على هذه المعرفة أو ذاك الإقرار الجزئي أنه توحيد، فهذا أمر محال، فمعاني رُبوبيته سبحانه ولوازمُها ليست عندهم بدليل تعبدهم وطلبهم من آلهتهم واعتقادهم أنها تنفعُ وتضر بذاتها- كما ذكرنا- فهُم قد اعتقدُوا ربوبيتها بصورةٍ أو بأخرى، وبأن لها تصرفًا في الوجود وشركةً مع الله في ذلك.

بُطلانُ التقسيم الثلاثي للتوحيد والأدلةُ على بدعيته

سوف نقومُ بالتعرض لبيان بُطلان هذا التقسيم البدعي للتوحيد من عدة زوايا:

أ- بُطلانُ تقسيم التوحيد من حيثُ العقلُ:

إن حدوث التقسيم للعلوم والمعارف تتضحُ صحتُه وقبولُه بمجيء الشرع به أو قبول العقل له وسوف ننظُرُ هنا هل القولُ بتقسيم التوحيد هذا التقسيـم الثلاثي هو أمر صحيح منطقي يقبلُه العقلُ، فيقالُ التقسيـمُ نوعان:

تقسيـمُ الكلي إلى جُزئياته.

تقسيـمُ الكل إلى أجزائه.

فالنوعُ الأولُ: كل واحدٍ من الجُزئيات يجوزُ أن يحمل اسم الكلي؛ لأن الكُلي جنس لها، وهي أنواع له، ومثالُ ذلك تقسيمُ الكلمة إلى اسمٍ وحرفٍ وفعلٍ، فيجوزُ أن نقول: إن الاسم كلمة وأن الحرف كلمة وأن الفعل كلمة؛ أي؛ يصلحُ أن يُطلق على كل واحدٍ من الثلاثة أنه كلمة؛ أي: من جنس الكلمة، فالكلمةُ جنس وهذه الثلاثةُ أنواع لها.

وأما النوعُ الثاني: فلا يجوزُ أن يُطلق اسمُ الكل على أي جزءٍ من هذه الأجزاء، فمثلًا المنضدةُ تتكونُ من خشبٍ ومسامير وطلاءٍ هي المكونات في النهاية لكلمة المنضدة وهيئتها وشكلها فهي كل يتكونُ من أجزاءٍ مجتمعةٍ بصُورةٍ معينةٍ يُطلقُ عليه اسمُ المنضدة؛ ولكن كل جزءٍ من هذه الأجزاء مُنفردًا لا يصلُحُ أن يُطلق عليه اسمُ المنضدة أبدًا؛ لأنه لا يحملُ الخصائص الكاملة لهذا الكل، وبالعودة إلى مسألة تقسيم التوحيد نسألُ: هل يصح ويُقبل هذا التقسيمُ الثلاثي وفقًا لهذين النوعين؟ وهل يُمكن أن ينطبق اسمُ التوحيد على كل نوعٍ من أنواع هذا التقسيم؟الجوابُ: لا يجوزُ أن يكون هذا التقسيمُ من النوع الأول أو النوع الثاني إلا إذا انطبقت عليه خصائصُ وشروطُ أي منهما، وأما إذا لم تتحقق شروطُ أي منهُما فيه فإنه يكونُ تقسيمًا فاسدًا، والتقسيمُ الفاسدُ تنتجُ عنه أحكام فاسدة؛ لأنه لا بُد لصحة التقسيم أن يوجد التصورُ الصحيح للشيء، وإذا انتفت شروطُ صحة التقسيم فإن كل ما ينتُجُ عنه من أحكامٍ والتزاماتٍ يُصبحُ مشكوكًا في صحتها خاصةً في مسألة تقسيم التوحيد الثلاثي هذه؛ لما يُرتبُه أصحابُها والآخذُون بها عليها من أحكامٍ من حيثُ إدخالُ الناس في دائرة الإسلام أو وقُوعُهم في الشرك المُخرج من هذه الدائرة.

- ففي النوع الأول لو نظرنا إلى تقسيم التوحيد وأردنا أن نضعه تحت هذا النوع من تقسيم الجنس الكُلي إلى جُزئياته لوجدْنا هناك عائقًا وهو أن من يُقسمُ التوحيد إلى توحيد ربوبيةٍ وتوحيد ألوهيةٍ لا يقولُ عن أحد التوحيدين أنه التوحيدُ الكاملُ بحيثُ من يؤمنُ به يصيرُ موحدًا خالصًا، بل يقولُ: إنه حقق جُزءًا من التوحيد ولم يُحقق التوحيد الكُلي؛ وبذلك لا ينطبقُ تقسيمُ الكلي إلى جُزئياته على هذا التقسيم.

والسببُ هو أن في هذا التقسيم تستطيعُ أن تُطلق على أي من الجزئيات ما تُطلقه على الكلي؛ فالكلمة وهي كلي تستطيعُ أن تُطلقها على الفعل فتقولُ عنهُ إنه كلمة كما ذكرنا، أما هُنا فتوحيدُ الربوبية أو الألوهية لا يُمكنُ أن تقول عن أحدهما أنه توحيد كالذي يدل عليه لفظُ التوحيد بالمعنى الكُلي.

وإن من المعلوم بالضرورة أن من حقق ما يُسمى توحيدًا في الشرع فهو مؤمن موحد يدخلُ تحت المعنى الكلي لجنس التوحيد عند أهل السنة، وعلى هذا لا يُمكن أن يكون ما يُسميه مدعي السلفية توحيد ربوبيةٍ هو في ذاته توحيدًا؛إذنْ على مذهب المخالف لا يكونُ هذا التقسيمُ من تقسيم الكُلي إلى جُزئياته.

- وأما في النوع الثاني وهو تقسيمُ الكل إلى أجزائه فهل يُمكن أن يكون هذا التقسيمُ داخلًا تحت تقسيم الكل إلى أجزائه، نجدُ أن ذلك لا يتأتى عند تطبيقه على قول من يقولُ بالتقسيم الثلاثي للتوحيد؛ لأنه ثمة اشتراك واتحاد بين هذه الأقسام من حيثُ المعاني، وشرطُ وقوع الشيء تحت هذا التقسيم هو أن تكون أجزاؤهُ متميزةً بعضُها عن بعضٍ؛ وذلك غيرُ متحققٍ في قضية التوحيد من وجهة نظر من يُقسمُه.

والسببُ هو أن الشيخ ابن تيمية ومن نحا نحوه يقولُون: إن الموحد توحيد ربوبيةٍ لا يلزمُ من ذلك أن يكون موحدًا توحيدًا كاملًا، بل قد يكونُ موحدًا في الربوبية ومُشركًا في الألُوهية؛ ولكن الموحد في الإلهية يجبُ أن يكون موحدًا في الربوبية وفي الأسماء والصفات؛ فعلى كلامهم هذا يلزمُ أن يكون توحيدُ الربوبية جزءًا من توحيد الألوهية وقسمًا منه في نفس الوقت،وعلى هذا لا يدخلُ هذا التقسيمُ تحت تقسيم الكل إلى أجزائه.

فمما سبق يتبينُ لنا بُطلانُ هذا التقسيم للتوحيد من حيثُ عدمُ إمكانية وضعه في تصورٍ عقلي صحيحٍ يتماشى مع ما وضعه أهلُ العلم واللغة من تعريفاتٍ ومعاني عقليةٍ لتقسيم الأشياء، مع مُلاحظة أن صحة وضع تقسيم التوحيد تحت هذه التعريفات أو عدم صحته ليست هي الأصل في الحُكم على المعاني المندرجة تحت هذا التقسيم، إنما الكلامُ من حيثُ صحةُ صورة وهيئة التقسيم، أما المعاني فلها كلام آخرُ.

تقسيمُ التوحيد مناقض لمفهوم كلمة توحيدٍ؛ فالتوحيدُ يدل على معنىً واحدٍ يتولدُ بدايةً في القُلوب بصُورٍ مختلفةٍ إما أن يُوجد كله أو لا يوجد شيء منه، فلا يُتصور أن يجتمع التوحيدُ والشركُ بالله في قلب العبد، فلو قُلنا إن هناك ثلاث توحيداتٍ: توحيد ربوبية، وتوحيد ألوهية، وتوحيد أسماءٍ وصفاتٍ، فهنا التوحيدُ لم يُصبحْ توحيدًا؛ بمعنى أن الكلمة وحدها لم تعُد كافيةً في الدلالة على المعنى الأصيل لها من مجرد إطلاقها، وإنما يجبُ أن تُتبع بتفريعاتٍ وتقسيماتٍ أخرى، أما الذي ورد في القُرآن الكريم وفي سُنة رسول الله ﷺ أنه كان يدعو الناس إلى توحيدٍ واحدٍ غير مقسمٍ، وكذلك فعل جميعُ الأنبياء والمرسلين من قبلُ.

ب-الخطاب القرآني المبين لبطلان إقرار المشركين ربوبية الله سبحانه وتعالى:

من الأُسس التي ينطلقُ منها القائلون بهذا التقسيم للتوحيد افتراضُ أن المشركين كانوا مُقرين بربوبية الله سبحانه وتعالى إقرارًا كاملًا محققين بذلك التوحيد في هذا الجانب كما سبق وتبين من أقوالهم؛ ولكنْ عند النظر إلى كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ نجد أن الخطاب الذي وجهه الأنبياءُ والمرسلون فيه إرشاد ودعوة للمُشركين والكفار إلى الإيمان بالله سبحانه وتعالى عن طريق توضيح رُبوبيته وفيه إنكار عليهم اتخاذهم أربابًا من دون الله، مما يدل على عدم تحقيقهم لهذا التوحيد وإلا فما فائدةُ أن ينشغل الأنبياءُ والمرسلون بدعوتهم إلى شيءٍ هو متحقق عندهم، بل والأكثرُ دلالةً من هذا الخطاب القُرآني الذي يوجهُ البشر عامةً إلى ربوبية الله سبحانه وتعالى، ويُنكرُ عليهم اتخاذهم الأرباب من دون الله، فكيف يُنكرُ عليهم جُحود شيءٍ هو مُتحصل في نفُوسهم وهم مُؤمنون به؟!وسوف نقومُ هنا بسرد بعض الآيات التي تدل على هذا:

قال تعالى على لسان يوسف عليه السلام: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار ﭷ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون ﴾ [يوسف: 39-40].

فهذا خطابُ نبي الله يُوسُف عليه السلامُ إلى أصحابه في السجن عند عرض قضية الإيمان والتوحيد فهو يسألُهم عن سبب اتخاذهم الأرباب من دون الله، فهل يسألُ نبي عن شيءٍ لم يقع من المشركين ويلومُهم عليه، فدل ذلك على عدم تحقيق هؤلاء القوم للتوحيد في ربوبية الله ووقوعهم في الشرك باتخاذهم أربابًا من دون الله، وفي هذه الآية دلالة أيضًا على بُطلان تقسيم التوحيد وأنه لا يوجدُ شيء يُسمى توحيد ربوبيةٍوآخر يسمى توحيد ألوهيةٍ؛ إذ إن نبي الله يوسف وهو يعرضُ التوحيد خاطبهم في ذلك المقام بكلمة «رب»ولم يخاطبْهم بكلمة «إله» فكلمةُ الربوبية تدل على معاني التوحيد التي تدل عليها كلمةُ إله.

قوله تعالى: ﴿ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَاب﴾ [الرعد: 30].

يُرشد الله النبي الكريم إلى إعلان خضُوعه لربوبية الله التي لم يخضعْ لها الكافرون، فدل ذلك على أن هؤلاء الكفار لم يكونوا لها خاضعين أو بها مؤمنين، والآياتُ في هذا المعنى كثيرة منها:

﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَـذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيم﴾ [الأعراف: 73].

﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين﴾ [الأعراف: 85].

﴿ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُون ﯴ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُون ﯽ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِين ﴾ [يس: 25-27].

﴿ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِين ﴾ [الأعراف: 67].

﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِين ﴾ [الأعراف: 104].

﴿وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُون ﭸ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم ﴾ [الزخرُف: 63-64].

﴿وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبﮬ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد﴾ [المائدة: 116-117].

﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِين ﮃ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِين ﴾ [الأعراف: 59-61].

ج- الكلامُ على أن معاني الربوبية لا تنفصلُ عن معاني توحيد الألوهية:

من أسباب الخطأ في هذه المسألة هو التفريقُ بين الرب والإله في المعنى الشرعي؛ وذلك لأن كلاهما وصف لا يصح أن يُطلق إلا على الله سبحانه وتعالى، فالله هو الرب وهو الإلهُ، وإذا كان هناك فرق في اللغة بين معنى كلمة الرب ومعنى كلمة الإله إلا أنهما في الاستعمال الشرعي لا يُطلقان بحق إلا على الله تعالى، وذلك ما عليه الاعتمادُ في المسألة فليس هناك فرق في النصوص الشرعية بينهما.

فلفظُ الرب والإله تُطلقُ شرعًا على الإله الحق وهو الله سُبحانه وتعالى؛ كما أن لفظ الرب والإله يُطلقُ على الأرباب الباطلة، والفرقُ الجوهري في ذلك أن إطلاقها على الله سبحانه وتعالى إطلاقٌ مُطابق للواقع وحقيقة الأمر، وذلك لما يتفردُ به سبحانه وتعالى من الكمال المُطلق وجلال الصفات وصفات الجلال، أما إطلاقُها على غيره فهو إطلاق باطل موافق لزعم المشركين في آلهتهم الباطلة التي لا حول لها ولا قُوة، وأما افتراضُ وجود توحيد الربوبية عند المشركين وأن شركهم إنما كان في جانب الألوهية فقط هو افتراض ظهر عدمُ صحته من خلال معاني الآيات التي وردت فيما سبق، والتي بينت وقُوع الشرك من أهل الكُفر في جميع هذه المعاني من الربوبية والألوهية.

والمعنى الذي نُريدُ توضيحه هنا هو تلازمُ دلالة توحيد الربوبية ومظاهره مع دلالة توحيد الألوهية ومظاهره، وذلك أن هذه المعاني من توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ودلالتها قد استُخدمت في كتاب الله وفي سنة رسول الله بمعنى واحدٍ، فعندما أراد الله من الخلق تحقيق التوحيد التام منهم والتزام مقام المعرفة والعبودية له سبحانه فإنما خاطبهم بربوبيته الجامعة لحقائق ألوهيته التي تستلزمُ تعبدهم له وصرف العبادة إليه وحده سبحانه وتعالى، فكلمةُ (رب) و(إله) قد استُخدمت في كتاب الله بنفس المعاني الداعية للتوحيد المطلق والدالة عليه، فيقولُ ربنا سبحانه وتعالى:

﴿ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين ﴾ [الفاتحة: 2] حينما يُذكر الحمدُ وهو أعلى أنواع الكمال المُطلق لله يُستخدم معه كلمةُ رب التي تدل على جميع المعاني التي تستلزمُ ألوهيته وحده.

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُون﴾[فُصلت: 30] ذكر سبحانه الإذعان بالربوبية الجامعة لمعاني الألوهية، ثم ذكر الاستقامة ورتب على ذلك البشارة بالجنة.

﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُون ﮕ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُون﴾ [يونس: 3-4]. عرض الله سبحانه وتعالى معاني ربوبيته وعظمته ثم أكدها بقوله: ﴿ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ ﴾ولم يذكر سبحانه إلهكم لتلازم المعنى وعدم انفصاله.

﴿ لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ﴾[الكهف: 38].

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون ﮧ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُون ﴾ [البقرة: 21-22].

ذكر سبحانه الربوبية عندما أمر بالعبادة ولم يذكر الألوهية ولو كان هناك فرق بين الاثنين لوجب ذكْرُ اعبدُوا إلهكم ولم يكتف بذكْر اعبدوا ربكم.

﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينﮧ ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين﴾ [الأعراف: 54-55].

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْرًا لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 170].

﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين﴾ [الأعراف: 172].

إن أول ما خاطب الله به الأرواح في آية الميثاق أن قال: ألستُ بربكم، فاكتفى سبحانه منهم بالتعرف عليه والإقرار بربوبيته التي تستلزمُ الألوهية.

﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين ﮱ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين ﴾ [الأنعام: 161-162].

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُون﴾ [فُصلت: 30].

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون ﴾ [الأحقاف: 13].

ففي هذه الآيات الكريمة وعد الله سبحانه من يقولُ: (ربنا الله) بالجنة جزاءً، ولم يقُل سبحانه وتعالى: (إلهنا الله) فإذا كان الإقرارُ بالربوبية لا يتضمنُ الإقرار بالألوهية على زعم أصحاب التقسيم الثلاثي للتوحيد فلم قال رب العالمين ربنا ولم يقل إلهُنا؟!

- وقال سبحانه وتعالى في ذم الكافرين وبيان جزائهم وَأُتْبِعُواْ فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُود ﴾[هود: 60].

وقال سبحانه: ﴿ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُود ﴾[هود: 68].

وقال في بيان سبب العذاب: ﴿ وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِير ﴾ [المُلك: 6].

في كل هذه الآيات يصفُهم الله بالكُفر بربوبيته سبحانه.

- بل إن القرآن الكريم ذكر عن رسول الله ﷺ أنه يدعو الصحابة للتوحيد وهم أعلى الخلْق إيمانًا بعد الأنبياء والمرسلين فيقول: ربكم. ولا يقولُ: إلهكم. مما يدل على ترادف معنى الربوبية والألوهية في الاصطلاح الشرعي:﴿ وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين ﴾ [الحديد: 8].

- وقال سبحانه: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ [الحج: 40]. فرب العالمين حين ذكر سبب إخراج الصحابة من قبل كفار قُريشٍ كان سببُه إعلانُهم الإيمان بربوبية الله سبحانه وتعالى الجامعة لمعاني ألوهيته.

- وكذلك فإن الميت حين يوضع في قبره ويأتيه الملكان لسؤاله فيقولان له: من ربك؟ كما جاء بذلك الحديثُ الصحيحُ([20])، وذلك لاختبار حاله ومعرفة إيمانه وتوحيده؛ ولكن السؤال المهم هنا هو: لماذا لم يقولا له من إلهُك مثلًا؟ وأيضًا المؤمنُ عندما يُجيبُ عن سؤال الملكين يقول: ربي الله، فهذا الإقرارُ بالربوبية يجمعُ التوحيد والإيمان، وإلا لكان من الواجب عليهم أن يسألوهُ: من إلهُك أيضًا لو لم تتضمن الربوبية معاني الألوهية؛ إذ إنه على فهم من قسم التوحيد يمكن أن يكون عنده توحيدُ الربوبية ولا يكونُ من أهل توحيد الألوهية.

- ومما يدل على استحداث هذا التقسيم وبُطلانه وعدم صحة ما يترتبُ عليه عند القائلين به من الأحكام هو أن رسول الله ﷺ ما كان يقولُ لأحدٍ دخل في دين الإسلام: إن هناك توحيدين توحيد ربوبيةٍ وتوحيد ألوهيةٍ، وإنك حتى يصح إسلامُك وتوحيدُك يجبُ أن توحد توحيد ألوهيةٍ، فلا يُوجدُ مثلُ هذا الكلام في كتب السنة أبدًا، وإنما مدلولُ الشهادة يشملُ معاني التوحيد كلها.

ثم بعد ذلك في عصرالصحابة والتابعين كيف كانت الدعوةُ للإسلام والتوحيد؟هل دعا الصحابةُ ومن تبعهم الناس إلى توحيدٍ مقسمٍ، هل يمكن أن يكُونوا قد غفلوا عن أهم الضروريات وهي بيانُ التوحيد وتقسيمُه، فلماذا لا يسعُ أصحاب هذا التقسيم المبتدع ما وسع خير القُرون؟!

والجوابُ: إنهم لا يستطيعون في ظل ذلك أن يُطبقوا ما يُريدُون من إطلاق أحكام التكفير ورمي الناس بالشرك.

- حقيقةُ التوحيد: هي المعاني التي تتولد في قلب العبد من نور المعرفة واليقين بربالعالمين سبحانه والتي يتفاوتُ العبادُ في مقدارها وقوتها، فقلوبُ الأنبياء والمرسلين هي أوسعُ القلوب احتواءً لمعاني التوحيد التي تُكونُ الصورة النهائية عن معرفة الله وعظمته وجلاله، فمن آمن بربوبية الله فهو مؤمن بألوهيته ومن كان مؤمنًا بألوهيته فهو مؤمن بالربوبية وبما تحويه من جليل الصفات وعظيم الأسماء، فمن أقر بالربوبية فقد أقر بالألوهية، فالرب الحق هو الإلهُ الحق الذي تتوجه له القُلوبُ والجوارحُ بالتقوى والعبادة، وبيانُ ذلك أن مدلول شهادة أنْ لا إله إلا الله ومعانيها متحصل في: لا رب إلا الله، فالله هو الرب الحق على الحقيقة ولذلك فهو الإلهُ الحق الذي تخضعُ لجلاله العُقولُ والأنفسُ.

 فالله واحد في ذاته واحد في صفاته واحد في أفعاله، والإيمانُ بالربوبية يُولد الإيمان بالألوهية له سُبحانه وتأله القلب له، وانقياد الجوارح في طاعته فلا تُوجهُ عبادة إلا له؛ لأنه لا يستحق أن يكون هناك معبود إلا هو؛ لأنه الرب، فالله هو الرب وهو الإلهُ، فقولُنا: لا رب إلا الله تشملُ معاني لا إله إلا الله، والعكسُ صحيح، والرب الحق هو الإلهُ الحق والإلهُ الحق هو الرب الحق، فكلمةُ ربي الله يتحققُ بها من معاني التوحيد ما يتحققُ من قولي: إلهي الله من حيثُ تلازمُ كل منهما لمعاني الأُخرى، فلا يمكنُ للعقل أن يتصور انفكاك معاني الربوبية عن معاني الألوهية.

فمن ثبتت له الربوبيةُ فهو المستحق للعبادة؛ أي المُستحق أن يكون هو الإله، ومن انتفت عنهُ الربوبيةُ فهو غيرُ مستحق للعبادة، فثبُوتُ الربوبية واستحقاقُ العبادة متلازمان في دلالة العقل ودلالة الشرع، ومن هُنا فمعاني الربوبية والألوهية متلازمة لا تنفك إحداها عن الأخرى، فمن اعترف بأنه لا رب إلا الله كان مُعترفًا بأنه لا يستحق العبادة غيرُه، ومن أقر بأنه لا يستحق العبادة غيرُ الله كان مُذعنًا أنه لا رب سواهُ، وهو معنى لا إله إلا الله.

- وفي الحديث الذي رواهُ مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال: «يا أبا سعيد من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، وجبت له الجنة»([21]).

فهُنا رسولُنا الكريمُ يُرشدُ إلى أمرٍ يُحققُ رضا الله وهو تحقيقُ التوحيد، والرسولُ الكريمُ صلواتُ الله وسلامُه عليه الذي أُوتي جوامع الكلم يُرشدُه إلى أن يقول: رضيتُ بالله ربا وليس رضيتُ بالله إلهًا؛ إذًن فمفهومُ الألوهية ليس مُغايرًا لمفهوم الربوبية.

- وهناك نقطة يجبُ الالتفاتُ إليها وهي أن الاختلاف في اللغة بين مفهوم كلمة رب وكلمة إلهٍ أو الاختلاف بين مفهوم الربوبية والألوهية حاصل لغويا؛ لكن ليس هذا محل الخلاف إنما محل الخلاف هو في تلازمهما.

فمدعي السلفية يقولون بعدم تلازُم المعاني وأن توحيد الربوبية حاصل عند الكفار وأن الأنبياء إنما دعوهم لتوحيد الألوهية فقط، وقد ثبت عكسُ ذلك فيما سبق بيانُه من كتاب الله، بينما توحيدُ الربوبية والأُلوهية مُتلازمان عند أهل السنة الأشاعرة لا ينفك أحدُهما عن الآخر، فمن كان موحدًا في أحدهما فهو مُوحد في الآخر في تكاملٍ لا ينفصلُ أبدًا، ولا يستطيعُ الإنسانُ أن يُفرق بينهما لا في عقله ولا في قلبه.

فالخلافُ ليس في كون المفهومين متغايرين في اللغة، إنما الخلافُ في تلازمهما عند الإنسان المكلف. والتلازمُ بينهما يظهرُ في معنى العبادة وهي غايةُ الذل والخُضوع لمن يعتقدُه العابدُ ربا، وهذه العبادةُ هي قمةُ الـتأله لله سبحانه وتعالى واتخاذُه إلهًا لا شريك له في أُلوهيته، وقصدُه بالعبادة، وإفرادُه بكمال المحبة والانقياد، فتحقيقُ وجود معاني الربوبية في القلب مع الإقرار والإذعان عند الإنسان لابُد وأن ينتُج منه معاني توحيد الألوهية.

الرد على شُبهة ادعاء وجود تقسيمٍ للتوحيد عند الأشاعرة

وهنا شُبهة يوردُها البعضُ عن مسألة التقسيم في التوحيد وهي: أن الحديث عن توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية قد ذُكر في بعض مصنفات الأشاعرة؛ كما هو موجود عند الشيخ ابن تيمية ومدعي السلفية، فلم تُنكرون عليهم ولا تُنكرون على الأشاعرة؟

فنقُول: إن علماء الأشاعرة حين يتحدثون عن توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية فإنهم يتكلمون عن شيئين متلازمين لا انفكاك لأحدهما عن الآخر، فلا يُوجدُ شخص عند الأشاعرة يُسمى موحدًا في الربوبية ولكنه يُشركُ في الألوهية؛ كما قال ابنُ تيمية ومدعو السلفية.

فالكلامُ عن الربوبية والألوهية عند الأشاعرة يكون من حيثُ الصفاتُ التي تتصفُ بها الذاتُ الإلهيةُ وما يجبُ لها بناءً على ثُبوت هذه الصفات وليس تقسيمًا لجنس التوحيد، إنما هو من باب البيان بالمُصطلحات العلمية للتوحيد كمفهومٍ واحدٍ لا ينقسمُ.

وحتى إذا قلنا وسلمنا للْمُخالف بأن هذا تقسيم فلننظر ما هو غايةُ هذا التقسيم عند كل فريقٍ، فغايةُ هذا التقسيم عند الأشاعرة هو بيانُ الفرق المعنوي واللغوي بين مدلول الربوبية والألوهية ولا يبنون عليه انقسامًا في التوحيد وتعديدًا له.

على عكس مدعي السلفية الذين يقولون: هناك نوعان من التوحيد:توحيدُ ربوبيةٍ وتوحيدُ ألوهيةٍ،ويبنون على كلامهم أن التوحيدين غيرُ متلازمين، فالذي يوحدُ توحيد ربوبيةٍ لا يُشترطُ عندهم أن يوحد توحيد ألوهية! وهذه هي المصيبةُ والداهيةُ الكُبرى التي فتحت باب التكفير وإدخال المسلمين في دائرة الشرك.

أما عند أهل السنة من الأشاعرة فتوحيدُ الربوبية والألوهية مُتلازمان لا ينفكان أبدًا، ولا يُتصور أن يقع بينهما اختلاف عند الشخص؛ وذلك لأن الذي يعبُدُ غير الله سبحانه وتعالى لايعبدُه إلا لصفات ربوبية ٍاعتقدها فيه، ولا تُسمى هذه العباداتُ عبادةً إلا إذا صاحبها اعتقاد وتعظيم في نفس العابد للمعبود، وهذا الاعتقادُ والتعظيمُ هو إثباتُ صفاتٍ من صفات الربوبية لهذا المعبود فلا يُتصورُ انفكاكُ مفهوم الربوبية عن الأُلوهية في نفس الشخص أبدًا؛ وذلك لأن من صرف العبادة لله وحده سبحانه فعل ذلك بناءً على اعتقاده أنه الرب الأوحدُ الذي له صفاتُ الكمال التي تجعلُه وحده هو المستحق للعبادة، والذي صرف العبادة لغير الله لم يفعلْ ذلك إلا لأنه يرى أن هذا الغير له من صفات الربوبية ما استحق بها أن يعبُده، فمن المستحيل أن يكون عند الشخص توحيد في الربوبية ولا يُوجدُ معه توحيد في الألوهية.

وبغض النظر عن أثر هذا التوحيد في السلوك الظاهري في أفعال الإنسان وعباداته لكن ما ينبغي الاهتمامُ به هو أن الذي وقر في قلب الإنسان أنه لا يستحق أن يُعبد إلا الله بأي قولٍ أو عملٍ أو توجهٍ قلبي سواء أحدث منه هذا التعبد أو منعتهُ الموانعُ، ولذلك فعند أهل السنة الأشاعرة لا يُوجدُ شيء اسمُه إشراك في الألوهية من غير أن يكون هناك إشراك في الربوبية عند الشخص، وذلك بناءً على عدم انقسام التوحيد.

وهذا على عكس طوائف أخرى من الذين يقولون إن التوحيد ينقسم إلى أكثر من توحيدٍ؛ ليتمكنوا من تطبيق منهجهم وما ورثوهُ من رمي الناس بالكُفر والشرك بناءً على عدم تحقيقهم لتوحيد الألوهية، فمُشركو قُريشٍ كانوا يعتقدون بتوحيد الربوبية، وهُم في هذا التوحيد كالمؤمنين يعتقدون في الله أنه هو الرب والخالقُ والمعطي المانعُ والضار النافعُ، وأن أصنامهم لا تقدرُ على شيءٍ من ذلك، وأنها لا تضر ولا تنفعُ ولا تُنازعُ الله في رُبوبيته، وهو ما ثبت عكسُه مما مر سابقًا من الأدلة.

ولئن سألت هؤلاء لماذا كان مُشركو قُريشٍ يقومون بعبادة الأصنام مع عدم اعتقادهم فيها على حد زعمكم؟ سيقولون: إن عبادتهم لها لتكون وسيلةً لهم إلى الله. والمصيبة أنهم يُسقطُون إجابتهم هذه على المسلمين ممن يحبون أهل البيت والأولياء والصالحين ويتوسلون بهم وبمحبتهم إلى الله تعالى، فعندهم أن كل من تحدُثُ منه مناجاة للأولياء والصالحين اعتقادًا منه في قُربهم من الله هو مُشرك غيرُ محققٍ للتوحيد، وينسُون أنه ما من مُسلمٍ إلا ويعتقدُ أن الضر والنفع بيد الله سبحانه وتعالى، وأن المتوسلين بالأولياء والصالحين لا يعتقدون بأن الأولياء يملكون ضرا أونفعًا، وإنما هم من النوافذ التي ينفُذُ بها العطاءُ الإلهي على الخلق، وأن الله هو الفاعلُ الحقيقي؛ على عكس الكفار والمُشركين الذين يُثبتُون النفع والضر لمعبوداتهم كما يقولُ أهلُ السنة، وليس كما يقررُ هؤلاء مما مر بيانُه سابقًا.

أثر وخطورة التقسيم الثلاثي للتوحيد على واقع الأمة

إن من أهم العوامل التي يُمكنُ أن تُقسم أمةً من الأمم أو مجتمعًا من المجتمعات هو اختلاف المرجعية الفكرية لهذا المجتمع وتلك الأمة؛ ولذلك نجدُ أن الله عز وجل قد جعل المرجعية الفكرية لهذه الأمة مرجعيةً واحدةً لا اختلاف فيها وهي الكتابُ والسنة، وحث سبحانه على وحدة الأمة وعدم فُرقتها قال تعالى:﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُون ﴾[الأنبياء: 92] وبين الرسولُ ﷺ خطر التفرق وحذر منه، ففي الحديث الذي رواه أحمدُ في مسنده عن عبدالله بن مسعود قال: خطَّ لنا رسولُ الله ﷺ خطًا ثم قال: «هذا سبيلُ الله» ثم خطَّ خُطوطًا عن يمينه وعن شماله، ثم قال: «هذه سُبُل- قال يزيدُ: متفرقة- على كُل سبيلٍ منها شيطان يدعُو إليه » ثم قرأ:﴿ وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153]([22]).

ولو تتبعنا أثر هذا التقسيم وما جرَّه على الأمة من الفُرقة لوجدنا أن من يقولُ بهذا التقسيم قد أوجد مدخلًا لتقسيم المسلمين إلى موحدين ومُشركين، أو على أقل تقديرٍ إلى أهل السنة والجماعة وأن غيرهم أهلُ الابتداع أصحابُ الفرق الضالة، في حين أن الدين الإسلامي وعقيدته تجمعُ ولا تُفرقُ، وليس في هذا تجنيًا عليهم، وإنما الأحداثُ المتتابعةُ ليل نهار في بلاد المسلمين وواقعُ أمتنا يُخبرُنا بأن هؤلاء القوم ما وُجدوا في مكانٍ إلا وكانُوا أهل فتنةٍ وشق للصف، ومن أدواتهم في ذلك الحديثُ عن العقيدة والتوحيد، فشتتوا عُقول الناس وشوشُوا عقائدهم ببدعهم المحدثة وجعلوا من العقائد البسيطة السهلة المستقرة في قلوب المسلمين أمرًا جامدًا يتم حفظُه وتكرارُه دون أن يكون له أثر في ربط القُلوب بالله عز وجل.

ولو نظرنا لوجدْنا أن هذه الطائفة بمُهاجمتها لأهل السنة والجماعة من علماء الأشاعرة وأهل الفقه وأئمة المذاهب قد فصلت حاضر الأمة الإسلامية عن ماضيها، وقد نتج من هذا الانفصال المعنوي أن ضعُفت الأمةُ فكريا وعقديا، وأصبحت فريسةً سهلةً لأي فكرٍ مُنحرفٍ ينشُرُ سمومه ويشُق صف المسلمين، وقد قام مدعو السلفية بدورٍ كبيرٍ في رمي علماء الأمة من الأشاعرة والماتريدية بالضلال، وأعلنُوا أن التوحيد هو ما في كلامهم ورؤيتهم التي ورثُوها عن ابن تيمية، فأصبحت عقيدةُ قطاعٍ كبيرٍ من الأمة مقطوعة الصلة بالسلف.

ولم يُكلفْ هؤلاء أنفسهم بالسؤال كيف تتصورون حال العُلوم الشرعية من أُصولٍ وفقْهٍ ولُغةٍ عربيةٍ بفرُوعها وباقي العُلوم الشرعية والقرآن والحديث وأسانيده لولا علماءُ الأشاعرة على مر العُصور، فكان لموضوع التوحيد وتقسيمه البدعي الذي جاءُوا به والكلام عن أسماء الله وصفاته أكبرُ الأثر في حصُول الانقسام الفكري على الأقل بين طوائف كثيرةٍ من أبناء الأمة، وأيضًا ما تبع ذلك من انتشار هذا التيار في بلاد المسلمين والذي أصبح له أنصارُه ومُؤيدُوه والمنافحون عنه، والذي استُخدم أبشع الاستخدام في تفرقة المسلمين الذين كفل لهُم دينُهم الوحدة على كافة المستويات؛ فحارب أتباعُ هذا التيار أهل العلم الحقيقيين الذين يستحقون لقب العُلماء، وتصدرُوا هم لقيادة الجماهير علميا وفكريا واجتماعيا فأوردُوا الناس المهالك على كافة المستويات، وهؤلاء بصنيعهم هذا فتحوا الباب أمام العلمانيين فسلكُوا نفس مسلكهم، فبما أنهم أهلُ اجتهادٍ وقُدرةٍ على رد تراث الأمة وعلم الأئمة تحت زعم الأخذ بالدليل ومحاربة التقليد والمذهبية، فلماذا لا يقومُ بذلك المفكرون من العلمانيين ويقومون بتبديل وتغيير الدين جُملةً وتفصيلًا، وإلغاء ما لا يُوافقُ هواهُم من أحكام الله وشريعته تحت ستار التنوير، وإذا كان الكل رجالًا وأهل اجتهادٍ فليفعلْ كل ذي هوًى ما يُريدُ، ويضيعُ دينُ الأمة بين جاهلٍ ومنافقٍ، ويُصابُ الناسُ بالحيرة؛ بل يصلُ الأمرُ بهم إلى فقد الثقة في أمر دينهم من الأصل.

فماذا فعل أصحاب هذا المسلك في الأمة غير أنهم قطعوا الصلة بالماضي الإسلامي العريق بكل ما يحويه من تراثٍ فكري وعقلي لأئمة المسلمين تحت زعم الأخذ المباشر من الكتاب والسنة، واتجهوا باندفاعٍ نحو التبديع والتفسيق والتكفير لكل مخالفٍ لما هُم عليه، وكتبُهم وفتاويهم طافحة بذلك، مما أنتج تيارًا متشددًا متنطعًا عند قطاعٍ كبيرٍ من الناس لا يقبلُ الاختلاف، بل وقد يتجه إلى تبني أساليب عنيفةٍ لفرض رأيه ومذهبه.

ولا بد هنا من بيان ما أسس عليه هذا التقسيم خاصة قسم الأسماء والصفات، وقبل ذلك نشرع في مقدمة حول الحكم وماهيته فنقول:

الحكم: لغة: المنع، ومنه قيل للقضاء حكما لأنه يمنع من غير المقضي([23]).

وأما اصطلاحًا هو إسناد أمر إلى آخر إيجابًا أو سلبًا([24]).

 مثال ذلك: (العالم حادث)، و(العالم ليس قديمًا). ففي المثال الأول: حكمنا بإسناد الحدوث إلى العالم على جهة الإيجاب والثبوت، وفي المثال الثاني: حكمنا بنسبة القدم إلى العالم عل جهة السلب والنفي. وللحكم أقسام، إذ ينقسم الحكم إلى: شرعي، وعقلي، وعادي، لأن الحاكم به إما الشرع أو العادة أو العقل.

أولا: الحكم الشرعي: هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين إما بـ:

1-  بالطلب: وهو ينقسم إلى طلب فعل أو ترك، وكل منهما إما جازم أو غير جازم فيشمل الواجب والمندوب والحرام والمكروه.

مثاله: الحكم بأن الصلوات الخمس واجبة.

أو الإباحة (وهو عبارة عن التخيير بين الفعل وعدمه).

مثاله: كالبيع، وكالصيد في قوله تعالى {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ }[المائدة:2]

أو الوضع (أي وضع الشيء وجعله سببا أو شرطا أو مانعا أو صحيحا أو فاسدا)([25]).

فيكون أقسام الحكم الشرعي عشرة أحكام خمسة تكليفية- وهي المندرجة تحت الطلب والإباحة، وخمسة وضعية وهي المندرجة تحت الوضع.

ثانيا: الحكم العادي: هو إثبات أمر لأمر أونفيه عنه بواسطة التكرار([26]).

مثاله: الحكم بأن الأكل مشبع، وأن السكين قاطعة، إذا كان حكمك مستندًا إلى التكرار.

ثالثا: الحكم العقلي: هو إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه بدون توقف على تكرار ولا شرع، وينحصر في ثلاثة أقسام الوجوب والاستحالة والجواز([27]).

ولا يمكننا أن نجعل هذه الثلاثة محمولة بمعنى في القضية الكلامية المكونة من الموضوع والمحمول، بل الذي يصح أن يجعل محمولًا هو المشتق منها، وهو الواجب والمستحيل والجائز، ولا نستعمل الوجوب والجواز والمستحيل، بل نقول وجود الله واجب وهكذا، ووجود شريك مع الله مستحيل وهكذا.

فالواجب: ما لا يتصور في العقل عدمه، كما مثلناه قبل ذلك وهو وجود الله سبحانه وتعالى.

والمستحيل: ما لا يتصور في العقل وجوده، كما مثلناه أيضا بوجود شريك مع الله، واجتماع النقضين وارتفاعهما.

والجائز: ما يصح في العقل وجوده وعدمه، كتعذيب الله تعالى المطيع وإثابة العاصي([28]).

فالحاصل أن الإنسان إذا أراد أن يحكم على شيء وأن ينسب إليه شيئا ما إيجابا أو سلبا، لا بد له أن يتصوَّره، وأن تعرف حقيقته ومن هنا، هل يمكن أن نعرف حقيقة المولى سبحانه وتعالى؟! وعلى نفي قدرة الخلق على تحصيل هذه المعرفة، هل يلزم من ذلك عدم القدرة على تحصيل الإيمان كما يدعى أهل الإلحاد؟! فنقول:

إن مسألة المعرفة مسألة تناطح فيها الفلاسفة وأهل الشريعة أنفسهم.

يقول أبو محمد طاهر القزويني في كتابه نور الحقيقة ونور الحديقة في المعرفة:

«وأجل ما في علم الأصول العلم بالله سبحانه، لأنه زبدة الحقائق، وعمدة العقائد، وخلاصة العلوم، والمعلوم به أشرف كل معلوم، إذ العلوم كلها في ضرب المثال كصورة ممثلة علم الدين رأسها، وعلم الأصول عين الرأس وعلم التوحيد ناظر العين، والعلم بمسألة هذا الكتاب كالنور في الناظر.

فهو إذن أخص الخصائص كلها، فلو تطرق إليه والعياذ بالله خلل، لاختل الكل وبطل الاعتقاد، وقدما قيل: إذا جزر البحر، جفت الجداول.

وإني طالما سمعت جماعة من المسلمين يتناطحون في هذه المسألة ويتذابحون عليها أعني: مسألة المعرفة.

فبعضهم: يدعي أن الله تعالى يُعرف حقيقة. وبعضهم: يصرح بأنه لا يعرف بالحقيقة! وأريت أن الخلاف في مثل هذا الموضع من الدواهي السود التي تصفر منها الأنامل»([29]).

ثم قال: «اعلم أنه لما تحقق من صفات الله جل جلاله بأنه هو الأول والآخر، والباطن والظاهر، والقريب والبعيد، والشاهد والغائب، والمنزه عن المكان مع أنه تعالى ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾ [المجادلة:7].

وأنه سبحانه غير داخل في العالم ولا خارج عنه، ولا متصل به ولا منفصل عنه.

وأن الوجوه الناضرة إليه ناظرة، مع أنه لا تدركه الأبصار.

إلى غير ذلك من الصفات التي تنبئ ظواهرها عن التناقض والجمع بين النفي والإثبات؛ تحيرت جماعة في المعرفة، وزعمت أنه تعالى:

إذا كان أولا؛ كيف يكون آخرا؟!

وإذا كان باطنا؛ كيف يكون ظاهرا؟!

وإذا تنزه عن المكان؛ كيف يكون معنا أينما كنا؟! إلى غير ذلك.

فتوقفوا في المعرفة، فسموا المتحيرة والواقفية، وربما يسمون تلك الحيرة معرفة، ويستدلون فيها بالخبر أو الأثر «يا دليل المتحيرين زدني تحيرا!» وفيهم كثرة، ولهم في ذلك خطب وأشعار بالعربية والعجمية.

وفرقة جنحوا إلى النفي المحض، وهم الدهرية والملحدة- خذلهم الله- إلا أن الملحدة يلبسون على العوام ويدلسون نفي الإله في التقديس!

فإذا سئلوا: هل هو موجود؟ قالوا غير معدوم!

وإذا سئلوا: هل هو معلوم؟ قالوا غير مجهول!

وإذا سئلوا: هل هو عالم؟ قالوا: غير جاهل!

إلى غير ذلك من الصفات.

وهذا هو التمويه والتلبيس لا التنزيه والتقديس، ومزاولة النفي والتعطيل لا الاحتراز عن التشبيه والتمثيل تعالى الله عما يصفون.

وفرقة من المشبهة مالوا إلى طرف الإثبات، فبالغوا فيه حتى جرهم الاعتقاد إلى التشبيه والتجسيم، وادعوا أنهم يحيطون به علما، وأن أفكارهم تبلغ نهاية ذاته وكنه صفاته كما تبلغ نهاية الأجسام وذوات الأقسام.

وفرقة نفوا الإحاطة، ولكنهم ادعوا أنهم يعرفون الله كمعرفته بنفسه، وهو لا يقدر على أن يزيد عليهم في معرفة نفسه وصفاته.

وفرقة اعتقدوا أن الاعتراف بالعجز عن المعرفة معرفة حقيقية، وأن من ادعى كمال المعرفة فقد كذب، إذ لا يعرف الله إلا الله، وأن رأس الصديقين يقول «العجز عن الإدراك إدراك» وسيد المرسلين صلوات الله عليه يقول «لا أحصي ثناء عليك»([30])([31]).

فتحصل من ذلك أن هناك من يقول بأن المولى سبحانه وتعالى يمكن معرفته بالكنه، أي بالحقيقة، وهذا المذهب مما رُدَّ عليه من قبل أهل الفلسفة ومن قبل المتشرعة أنفسهم.

فأما أهل الفلسفة فقد ساق كلامهم الإمام الرازي في المطالب العالية بقوله:

«الفصل الثاني: في أنه هل للعقول البشرية سبيل إلى تحصيل الجزم واليقين في هذا العلم، أم أنه يكفي في بعض مباحثه ومطالبه الأخذ بالأولى والأخلق؟!

رأيت في بعض الكتب: أنه نقل عن عظماء الحكمة وأساطين الفلسفة أنهم قالوا: الغاية القصوى في هذا الباب الأخذ بالأولى والأخلق، والتمسك بالجانب الأفضل الأكمل وأما الجزم المانع من النقيض فقد لا يمكن تحصيله في بعض المباحث:

وللقائلين بهذا القول أن يحتجوا بوجوه:

الحجة الأولى: إن أظهر المعلومات لجميع العقلاء: هو علم الإنسان بذاته المخصوصة ومعرفته بنفسه المخصوصة، ثم هذا العلم مع أنه أظهر العلوم وأجلى المعارف قد بلغ في الصعوبة والخفاء إلى حيث عجزت العقول عن الوصول إليه، وإذا كان الحال في أظهر المعلومات كذلك، فالحال في أبعد الأشياء عن مناسبة الأمور المعلومة للخلق كيف يكون؟ وهذه الحجة إنما تتم بتقرير مقدمات.

المقدمة الأولى: إن أظهر المعلومات لكل أحد ذاته المخصوصة، والذي يدل على أن الأمر كذلك: أن كل من علم شيئا فلا بد وأن يعلم كونه عالما بذلك الشيء، ولذلك فإنه يقول: أدركت هذا الشيء وعرفته، إلا أن علمه بكونه عالما بذلك الشيء مسبوق بعلمه بذاته المخصوصة لأن من لا يعلم ذاته، كيف يمكنه أن يحكم عليها بكونها عالمة بذلك المعلوم؟!

وكذلك فإنهم قالوا: كل تصديق فإنه مسبوق بتصور، ومن الظاهر أن الشرط سابق بالرتبة على المشروط وهذا يدل على أن علم كل أحد بأي معلوم كان؛ مشروط بعلمه بذاته المخصوصة (ومسبوق بعلمه بذاته المخصوصة) فيثبت أن علم كل أحد بذاته سابق على علمه بكل ما يغاير ذاته، سواء كان ذلك العلم من البديهيات الجليات، أو من الكسبيات، والسابق على جملة الجليات أولى بكونه جليا بديهيا، فثبت بهذا البرهان أن علم كل أحد بذاته المخصوصة أجلى العلوم وأجلها وأظهرها وأقواها.

المقدمة الثانية في تقرير أن علم كل أحد بذاته المخصوصة علم في غاية الصعوبة والخفاء: والذي يدل علىه أن المشار إليه لكل أحد بقوله: «أنا» إما أن يكون هو هذا الهيكل المشاهد، أو يكون جسما من الأجسام الموجودة داخل هذا الهيكل، أو يكون صفة من صفات هذا الهيكل، أو يكون جوهرا مجردا عن هذا البدن وعن علائقه، وهذه الأقسام الأربعة قد حارت عقول العقلاء فيها، ودارت رؤوسهم في تعيينها، ومن تأمل في مباحث كلام النفس يجد أن هذه المسألة قد بلغت في الصعوبة إلى الغاية القصوى، فثبت أن هذا العلم صعب غامض.

المقدمة الثالثة: إنا قد بينا أن أظهر المعلومات هو علم كل أحد بذاته المخصوصة ونفسه المعينة وبينا أنه مع كونها أظهر المعلومات، فقد بلغ العلم بها إلى الغاية القصوى في الصعوبة والخفاء والغموض، وإذا ثبت هذا فنقول:

إن ذات الحق سبحانه مخالفة بالماهية والحقيقة لجميع أقسام الممكنات والمحدثات، فإذا كان العلم بأظهر المعلومات قد بلغ في الخفاء والغموض إلى الحد الذي ذكرناه، فالعلم الذي بصفات الموجود الذي لا يشابه شيئا من الممكنات ولا يناسب شيئا مع أنه في غاية البعد عن مناسبة المعقولات، ومشابهة ما يصل إليه الفكر والذكر والوهم والخيال، لو كان صعبا عسرا، كان ذلك أولى.

فيثبت أن هذا العلم الشريف أعلى وأجل من أن يحيط به العقل إحاطة تامة فلا سبيل للعقول البشرية فيه إلا بالأخذ بالأولى والأخلق والأكمل والأفضل.

واعلم أن لتقرير هذه الحجة شرحا آخر وهو: أن الاستقراء يدل على أن أظهر المعلومات عند الخلق أشياء معدودة مثل علم كل أحد بنفسه، ومثل علمه بزمانه ومكانه ومثل علمه بجسميته، ثم إن العقل إذا خاض في معرفة النفس والجسم ومعرفة المكان والزمان تحير ولم يقدر على الخلاص، فإذا كان حاله في معرفة أظهر الأشياء كذلك، فكيف يكون حاله في معرفة أخفى الأشياء ولنبين صحة ما ذكرناه فنقول:

أولها: ذاته المخصوصة وقد كشفنا حقيقة الحال فيه وثانيها: علمه بالمكان والزمان فإن كل أحد يحكم ببديهة عقله أنه كان في ذلك المكان وانتقل منه إلى مكان آخر، وبقي في ذلك المكان الأول، والعلم بالمكان جزء من أجزاء ذلك العلم. وأيضا كل أحد يحكم ببديهة عقله أن هذا الوقت الخاص وقت كذا، ثم بعده يقول: إنه مضى ذلك الوقت، وحضر وقت آخر والعلم بحقيقة الوقت والمدة جزء من العلم بأنه مضى الوقت الأول، وحضر الوقت الثاني. ثم إن العقلاء دارت رءوسهم وحارت عقولهم في معرفة حقيقة المكان والزمان. أما المكان فأصحاب أفلاطون وكل من كان قبله من الحكماء المعتبرين: اتفقوا على أنه عبارة عن البعد الممتد. وأما اصحاب ارسطاطاليس: فقد اتفقوا على أنه عبارة عن السطح المحيط، وأن القول بالبعد باطل. وصعوبة هذه المسألة تظهر في مباحث مسألة المكان. وأما الزمان فقد حارت العقول ودارت الرءوس في معرفته، وإذا تأملت في مسألة الزمان وأحاط عقلك بما في تلك المسائل من الدقائق العميقة، والمباحث الدقيقة، علمت أن هذه المسألة قد بلغت إلى أقصى الغايات، وأبلغ النهايات في الصعوبة والخفاء.

وثالثها: العلم بحقيقة الجسم، وقد حارت العقول أيضا في أنه هل هو مركب من الأجزاء التي لا تتجزأ، أو ليس الأمر كذلك، بل هو قابل للقسمة إلى غير النهاية؟

ومن خاض في تلك المسألة وعرف قوة الدلائل من الجانبين، علم أنه لا حاصل عند العقل إلا الحيرة والدهشة والأخذ بالأولى والأخلق، فيثبت بهذا الاستقراء: أن حاصل العقل في معرفة أظهر المعلومات ليس إلا محض الحيرة والدهشة، والأخذ بالأولى والأخلق، فما ظنك بالعقل عند العروج الى باب كبرياء الله تعالى، وعند ما يحاول الخوض في البحث عن كنه عزته وصمديته وصفات جلاله وإكرامه من علمه وقدرته وحكمته؟ فهذا جملة الكلام في هذا الباب.

ومما يزيد هذا الكلام تقريرا: أن أقوى المباحث العقلية باتفاق جمهور العقلاء: المباحث الهندسية، فليتأمل في كتاب أقليدس. يقول: إن أقسام المضلعات تبتدئ من المثلث وتمر إلى غير النهاية. ثم إن أقليدس أقام الحجة على إثبات المثلث والمربع في المقالة الأولى، ولما احتاج إلى اثبات المخمس احتاج إلى تقديم مقدمة عليه، وهو أنه عمل مثلثا يكون كل واحدة من الزاويتين اللتين فوق القاعدة منعطفا إلى الزاوية الفوقانية ثم قسم كل واحدة من الزاويتين إلى نصفين، وبهذه الطريقة قدر على عمل المخمس، ثم لما أقام البرهان على أن نصف قطر كل دائرة يساوى وتر سدس تلك الدائرة، لا جرم قدر بهذا الطريق على عمل المسدس ثم إنه طفر منه إلى شكل ذي خمسة عشر ضلعا، والسبب في هذه الطفرة أنه احتاج في عمل المسبع إلى تقديم مثلث يكون كل واحدة من الزاويتين اللتين فوق القاعدة ثلاثة أمثال الزاوية الفوقانية.

وأعمال كتاب أقليدس لا تفي بإقامة البرهان على هذا المطلوب، بل لا يمكن إثبات هذا المطلوب إلا بقطوع المخروطات، فلا جرم عجز عنه وتركه.

وأيضا لا يمكنه إثبات عمل المتسع إلا بطريقين: أحدهما: أن يعمل مثلثا متساوي الأضلاع، ثم يقسم كل واحدة من زواياه الثلاث ثلاثة أقسام متساوية. وقد بينا أن هذا لا يتم إلا بقطوع المخروطات. (والطريق) الثاني: أن يعمل مثلثا يكون كل واحدة من الزاويتين (اللتين) فوق القاعدة أربعة أمثال الزاوية الفوقانية وهو عاجز عنه.

وأما الشكل الذي يحيط به أحد عشر ضلعا، فهو إنما يتم بتقديم عمل مثلث، تساوي كل واحدة من الزاويتين اللتين فوق القاعدة خمس مرات للزاوية الفوقانية، وهو عاجز عنه، وكذا القول في مضلع محيط به ثلاثة عشر مضلعا، فإنه إنما يتم بعمل مثلث يساوي كل واحدة من الزاويتين اللتين فوق القاعدة للزاوية الفوقانية ست مرات. وهو عاجز عنه. وأما المضلع الذي يحيط به خمسة عشر مضلعا فإنه قدر على عمله بمقدمات أثبتها في كتابه، وذلك أنه أوقع في الدائرة مثلثا متساوي الأضلاع فانقسمت الدائرة ثلاثة أقسام متساوية، ثم أوقع في القسم الواحد منها نصف قطر الدائرة، وهو وتر المسدس، ثم قسم ما بقي نصفين، فبهذا الطريق قسم كل قوتين بخمسة أقسام متساوية، فخرج له مضلع أحاط به خمسة عشر ضلعا. وعند هذا وقف عمله، ولم يقدر على الزيادة.

فالحاصل أن أقليدس قدر على إقامة البرهان على إثبات خمسة أنواع من المضلعات: المثلث والمربع والمخمس والمسدس وذو خمسة عشر ضلعا. وأما بقية الأقسام التي لا نهاية لها فقوانينه (قاصرة عن إثباتها، ومقدماته) غير وافية بتقريرها.

وأما أصحاب علوم المخروطات، فقد تكلفوا طريقة في إثبات المسبع والمتسع وأما البقية فقد بقيت في موقف العجز والقصور فقد ظهر بما ذكرنا: أن العقول البشرية قاصرة، والأفهام الإنسانية غير وافية بإدراك حقائق الأشياء إلا في القليل القليل من الكثير الكثير في معرفة هذه المحسوسات فما ظنك بالعقل عند طلوع نور الالهية (وسطوع) الأضواء الصمدية؟

الحجة الثانية في هذا الباب: إن قوة البصر، وقوة البصيرة متساويتان.

وليعتبر أن حال القوة الباصرة، مع المبصرات أحوال ثلاثة:

الحالة الأولى: المبصرات الحقيرة الضعيفة كالذرات والهباءات، والمبصرات الخفيّة الضعيفة، فمن المعلوم أن القوة الباصرة عاجزة عن إدراك أمثال هذه المبصرات وغير واقفة عليها، ولا قادرة على ضبط تلك المراتب.

والحالة الثانية: المبصرات القوية القاهرة المستعلية مثل قرص الشمس عند غاية لمعانه وإشراقه. فإن القوة الباصرة قاصرة عن إدراكه على سبيل التمام والكمال. ألا ترى أن من تكلف النظر إلى قرص الشمس عند غاية لمعانه وإشراقه، فإنه يتخيل ظلمة وسوادا في وسط قرص الشمس، وكأنه يتخيل أن الأنوار إنما تفيض من أطراف قرص الشمس، كأنه طست تفيض الأنوار من أطرافه، فأما نفس القرص التي هي كالطست فإن الإنسان يراها كالظلمة السوداء، إلا أن العقل السليم يحكم بأن تلك الظلمة ليست حاصلة في جوهر الشمس، فإنه منبع الأنوار، ومظهر الأضواء، لكن القوة الباصرة للبشرية تصير مقهورة من كمال ذلك النور، فيعجز عن إدراكه، فلما عجز عن إدراكه تخيل فيه ظلمة وسوادا. أو رأى النور كالأمر القابض من أطراف قرص الشمس وجوانبه.

والحالة الثالثة: المبصرات المعتدلة في القوة والضعف والكمال والنقصان وهي مثل الكيفيات القائمة بأجسام هذا العالم فإن القوة الباصرة يمكنها الوقوف عليها والإحاطة بها والوصول إلى تمام إدراكاتها، فظهر بهذا البيان الذي قررناه:

أن القوة الباصرة قاصرة عن إدراك المبصرات القاهرة، وقاصرة عن إدراك المبصرات الضعيفة أيضا، ولكنها قادرة على إدراك المبصرات المتوسطة في القوة والضعف والكمال والنقصان وإذا عرفت هذه المراتب الثلاثة في قوة الابصار، فاعرف مثلها في مراتب قوة البصيرة والعقل. وذلك لأن المعلومات على ثلاثة أقسام: أحدها: المعلومات الضعيفة الحقيرة: وهي مثل مراتب الأمزجة والتغيرات والاختلافات الحاصلة عند درجات الاستمالات الواقعة في الأجسام الكائنة الفاسدة، فإن العقول البشرية لا تقوى على إدراك تلك المراتب، وضبط تلك الدرجات، لأنها أحوال ضعيفة سريعة الزوال قريبة الانقراض والانقضاء، فهي لضعفها وحقارتها لا تقوى العقول البشرية على إدراكها على سبيل الكمال والتمام. وثانيها: المعلومات القاهرة العالية المقدسة وهي الجواهر القدسية.

والماهيات المجردة عن علائق الأجسام وأشرفها وأعلاها هو ذات الله تعالى وصفات جلاله ونعوت كبريائه.

فهو سبحانه لغاية إشراق جلاله، عجزت العقول عن إدراكه وضعفت الأوهام والأفهام عن الوصول إلى ميادين إشراق كبريائه، وإليه الاشارة بقول صاحب الشريعة صلوات الله عليه: «إن لله سبعين حجابا من نور، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما في السموات والأرض» وكان بعض الصالحين يقول: «سبحان من احتجب عن العقول بشدة ظهوره، واختفى عنها بكمال نوره» وإذا عرفت هذا، فحينئذ صار العقل عاجزا عن إدراكه وعرفانه، لغاية قوته، وكماله، واستعلائه.

وكما أن البصر عاجز عن إدراك قرص الشمس لكمال نوره، وكما أن البصر لا يتخيل من (قرص) الشمس إلا السواد والظلمة، ولا يتخيل فيضان النور إلا من أطراف قرص الشمس، فكذا هاهنا العقل إذا حاول النظر إلى كنه كبريائه غشيته حالة كالدهشة والحيرة فلا يبصر البتة شيئا، بل يمكنه أن يرى نور كرمه وفيض جوده ورحمته، واصلا إلى خلقه كما نرى نور قرص الشمس فائضا من أطرافه وجوانبه.

وثالثها: المعلومات المعتدلة التي لا تكون في غاية القوة والجلالة ولا في غاية الضعف والحقارة، وأمثال هذه المعلومات مما تقدر القوة العاقلة على إدراكها والإحاطة بها، فظهر بهذا الاعتبار الذي قررناه: أن العقول مدفوعة، والأفكار مقهورة والخواطر مزجورة، وحقيقة الحق لا يمكن الوصول إليها بخطرات العقول والأفكار، وكبرياء الإلهية يمتنع الوقوف عليها بأجنحة الأقيسة والأنظار. فظهر أنه لا حاصل عند العقول إلا الإقرار بإثبات الكمال المطلق له، وتنزيه النقائص بأسرها عنه، على سبيل الإجمال، أما سبيل التفصيل فذاك ليس من شأن القوة العقلية البشرية.

الحجة الثالثة في هذا الباب: إن العلوم إما تصورية وإما تصديقية. أما التصورية فنحن نجد من أنفسنا وجدانا بديهيا، بعد الاختبار التام والاستقراء الكامل أنه لا يمكننا أن نشير بعقولنا ووهمنا وخيالنا إلا إلى أحد أنواع أربعة من التصورات.

فأحدها: الماهيات التي ادركناها بأحد الحواس الخمس، وهي: المبصرات، والمسموعات، والمشمومات، والمذوقات، والملموسات.

وثانيها: الماهيات التي ندركها من نفوسنا إدراكا ضروريا كالألم واللذة والجوع والشبع والفرح والغضب وأمثالها.

وثالثها: الماهيات التي ندركها بحكم فطرة عقولنا كتصورنا (لمعنى) الوجود والعدم والوحدة والكثرة والوجوب والإمكان والامتناع.

والنوع الرابع: الماهيات التي يركبها العقل والخيال من (هذه) البسائط، أما تركيب الخيال فهو كما إذا تصورنا بحرا من زئبق وإنسانا له ألف رأس (فإنا بحس البصر أدركنا البحر، وأدركنا الزئبق، فالخيال يركب صورة البحر مع صورة الزئبق) وكذا القول في سائر الأمثلة، وأما تركيب العقل فهو أنا إذا قلنا: شريك الاله ممتنع الوجود، فما لم يتصور العقل (معنى) شريك الإله يمتنع أن يحكم عليه بالامتناع، ثم إن العقل إنما يمكنه تصور معنى شريك الإله، لأنه قد تصور معنى الشريك في بعض المواضع، وتصور أيضا معنى الإله في الجملة. فلما حصل عنده تصور هذين المفهومين لا جرم ركبهما، فحصل عنده تصور معنى شريك الإله، فلا جرم قدر على أن يحكم عليه بالامتناع فنقول: لما عقلنا الشريك في حق الواحد منا، فهذا المعنى الذي تعقلناه في حقنا نضيفه إلى الله تعالى فنقول: ثبوت شيء لله تعالى، نسبته إليه كنسبة شريكنا إلينا: محال الوجود.

فثبت بهذا البيان: أن تصورات العقول البشرية لا تخرج عن هذه الأقسام الأربعة، وإذا كانت التصورات الحاصلة عندنا محصورة في هذه الأقسام كانت التصديقات أيضا محصورة فيها، لما ثبت أن التصديقات مشروطة بالتصورات، فيثبت أن تصورات الخلق وتصديقاتهم محصورة في هذه الأقسام الأربعة.

وإذا ظهرت هذه المقدمة فنقول: ثبت بالبرهان: أن حقيقة الحق سبحانه وتعالى مخالفة لجملة هذه الماهيات التي هي محسوسة لنا، وحاضرة في عقولنا حضورا بالتفصيل، وأنه سبحانه لا يناسب شيئا منها، وهو مخالف لها بأسرها مخالفة من جميع الوجوه، فإنه لو شاركها من بعض الوجوه، وخالفها في سائر الوجوه، لكان ما به المشاركة غير ما به المخالطة، فتكون حقيقته مركبة وذلك محال. وإذا كان كذلك وجب ألا تكون حقيقة متصورة للخلق بوجه من الوجوه (وإذا لم تكن حقيقة متصورة للخلق) كان الحكم عليها بالسلب والإيجاب البسطين أو المركبين ممتنعا، لما ثبت أن التصديق موقوف على التصور.

فالعقول قاصرة عن معرفته، والإدراكات غير منتهية إليه، وإنما الغاية القصوى أنا إذا تصورنا معنى الكمال والنقصان (في حق أنفسنا بحسب ما يليق بنا وبمقدار ما يناسبنا وجب أن نفهم معنى الكمال والنقصان) لأن المطلق، جزء من ماهية المقيد، وبهذا الطريق يتصور معنى الكمال والنقصان، وإذا تصورنا هذا المعنى اعترفنا بإثبات مسمى الكمال له بشرط تنزه ذلك المسمى عن اللواحق اللاحقة له، بسبب حصوله فينا، فليس عند جملة الخلق من معارف جلاله، إلا هذا القدر. فظهر بهذا البيان: أن عقول الخلق لم يحصل عندها من المعارف الإلهية إلا هذه الأمور المجملة، المشار إليها على سبيل الأولى والأخلق وأما على سبيل التفصيل فلا.

الحجة الرابعة لهم في هذا الباب: إن الانتقال من المعلوم إلى المجهول لا يعقل إلا بأحد ثلاثة أوجه:

أحدها: الاستدلال بالعلة على المعلول.

وثانيها: الاستدلال بالمساوى على المساوى.

وثالثها: الاستدلال بالمعلول على العلة.

والطريقان الأولان في حق الحق مفقودان فبقي الطريق الثالث وهو أن يصعد من الأثر إلى المؤثر، وينتقل من المخلوق إلى الخالق. وإذا عرفت هذا فنقول: النفس الناطقة الإنسانية واقعة في المرتبة الآخرة من الموجودات المجردة المقدسة، على ما ستعرف حقيقة هذه المقدمة عند وقوفك على معرفة درجات الملائكة ومراتبها، وإذا كان كذلك فهذه النفس الإنسانية تترقى من علمها بنفسها إلى علمها بعلتها، ومن علمها بعلتها إلى علمها بعلة علتها، وهكذا تترقى مرتبة فمرتبة حتى تصل بالآخرة إلى حضرة واجب الوجود لذاته. كما قال في الكتاب الإلهي.

﴿وأنّ إِلى ربِّك الْمُنْتهى﴾، وقال: ﴿ألا إِلى اللّهِ تصِيرُ الْأُمُورُ﴾ وقال: ﴿هُو الْأوّلُ والْآخِرُ﴾ فالحق هو الأول عند النزول من الحق إل الخلق، والآخر عند الصعود من الخلق إلى الحق، ولما كانت درجات الوسائط كثيرة، ومراتبها خفية عن العقول البشرية، وكانت أحوال تلك الوسائط مختلفة ومراتب أضوائها وقهرها وقوتها مختلفة، وكانت قوة النفس الناطقة البشرية عند الترقي في هذه المراتب ضعيفة، لا جرم بقيت أكثر النفوس البشرية في (درجة من) درجات هذه المتوسطات بل نقول: أكثر الخلق بقوا في حضيض عوالم المحسوسات، والشاذ القليل منهم تخلص من عالم الحس، مترقيا عن عالم المحسوسات إلى عالم الخيالات، و (القليل) من أصحاب الخيالات انتقل إلى عالم المعقولات. ثم في عالم المعقولات مراتب الأرواح المقدسة كثيرة، فلا جرم أكثر العقول الفاضلة (لما وصلت) إلى عوالم أنوار المعقولات تلاشت وفنيت واضمحلت في أنوار تلك الأرواح المقدسة. إلا من أيّد بقوة قاهرة، ونفس إلهية تترقى من زنجبيل المريخ إلى سلسبيل المشتري ومنه إلى كافور زحل (ثم استعلى على الكل وترقى على الكل) ووصل الى الحضرة المقدسة، عن لواحق عالم الإمكان وغيار الحدوث، واستسعد بقوله: وسقاهُمْ ربُّهُمْ شراباً طهُوراً أي ذلك الشراب الطهور، يطهره عن علائق الإمكان والحدوث، ويجليه على عتبة الوجوب بالذات. وإذا عرفت ذلك ظهر أن القليل من الأرواح البشرية يستسعد لقبول ذرة من ذرات (أنوار) عالم الجلال. وهذه تلويحات وتنبيهات ذكرناها في مقدمة هذا العلم، ليعلم الإنسان أن القليل من مباحث هذه المعالم الشريفة كثير كثير بالنسبة إلى الأرواح. ولذلك قال في الكتاب الإلهي (حكاية عن الحق سبحانه أن قال) ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور﴾ [سبا: 13] وقال حكاية عن إبليس: ﴿وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِين﴾ [الأعراف: 17].

ولنكتف بهذا القدر من البيان، في هذا المقام فإنه بحر لا ساحل له([32]).

 وأما أهل السنة في ذلك فقد أفتوا أنه لا طريق للخلق في معرفة الحق سبحانه، فمن ذلك فتوى إمام الحرمين، حيث إن جماعة من الحنابلة ومشيخة أصحاب الحديث، خالطوا الوزير نظام الملك أبا علي الحسن بن إسحاق رحمه الله تعالى، وكانوا يدعونه إلى الأخذ بظواهر الأحاديث، ومنع تأويل المتشابهات منها، فتوقف الوزير في ذلك، وبعث إلى الإمام قدس الله روحه يسأله أن يكتب له المعتقد الحق في ذات الله وصفاته.

فكتب إليه في (الرسالة النظامية) هذا الفصل من المعرفة وهو قوله:

من انتهض لطلب مدبره، فإن اطمأن إلى موجود انتهى فكره إليه، فهو مشبه، وإن اطمأن إلى النفي المحض فهو معطل، وإن قطع بموجود واعترف بالعجز عن درك حقيقته، فهو موحد، وهو معنى قول الصديق (العجز عن درك الإدراك؛ إدراك).

وذلك كالروح، إذ لا خفاء بوجوده، وليس إلى درك حقيقته سبيل، ولا سبيل إلى جحد وجوده، للعجز عن درك حقيقته.

والأكمه يعلم بالتسامع والاستفاضة، وجود الألوان، ولا يدرك حقيقتها.

فإن قيل: فغايتكم إذا حيرة ودهشة!

قلنا: العقول حائرة عن درك الحقيقة، قاطعة بالوجود المنزه عن صفات الافتقار.

هذا لفظه رحمه الله تعالى([33]).

ومن ذلك فتوى الإمام الغزالي رحمه الله في هذه المسألة حين عرض عليه ببغداد وهي:

ما قول حجة الإسلام في حق من قال: لا يحيط علم الواحد منا بالجسمانيات والروحانيات كما هي، فكيف يسوغ لأحد دعوى معرفة الله كما هو بصفاته؟! ومدعى ذلك جاعل لله حدا ونهاية، لأن علمه يحيط بذاته، وكل محيط بشيء فهو أول ذلك المحاط به وآخره، ومن ظاهر... ظاهر له، ومن وجه باطنه، باطن له، والله هو الأول والآخر والظاهر والباطن؟!

فكتب الغزالي:

الجواب وبالله التوفيق:

اعلم أولا أنه لا يعرف الله حق معرفته إلا الله، ولا يحيط بكنه جلاله سواه، ولا يستبعد هذا.

بل لا يعرف الملك إلا الملك، بل النبي لا يعرفه حق معرفته إلا النبي، بل لا يعرف العالم حق معرفته إلا العالم، بل التلميذ إذا لم ينل رتبة الأستاذ في العلوم لم يعرف أستاذه، وإذا نال رتبته، عرفه معرفة تفارق معرفة الأستاذ بنفسه، فإنه يعلم أولا ما يعلمه الأستاذ بالمقايسة إلى نفسه، فيعلم أنه محيط بالمعلومات التي هو محيط بها، بل حالة الواطئ لا يتصور أن يعرفها العنين حق معرفتها، لأن معرفة تلك الحالة بالذوق، ولا يتصور ماهيته قبل الاتصاف بها، وغايته تصديق أمر ما مجهول الماهية.

وكيف يطمع في أن يعرف الله حق معرفته وهو لا يعرف نفسه حق معرفتها؟!

وإنما يعرف نفسه بأفعالها وأوصافها ولا يدرك ماهيتها، بل لو أراد آدمي أن يدرك نملة أو بقة إدراكا محيطا حقائق أوصافها، عجز عنه، وغايته أن يعرف بالبصر شكلها ولونها، وأما الفصول المتنوعة التي بها فارقت نفس البقة نفس النملة حتى يتنوع من اختلافها اختلاف التركيب والصفات، لم يقدر عليه.

ولو تصور أن يكون لله مثل أو نظير- تعالى الله عنه- لجاز أن يقال: إن مثله عرفه حق معرفته بالمقايسة إلى نفسه فإنه عرف أولا ذاته وعليها قاس ذات غيره.

وللآدمي أطوار: جنين ثم طفل ثم مميز ثم عاقل ثم ولي.

والجنين يعرف أحوال نفسه وليس يمكن في حقه معرفة حال الطفل، ولا الطفل يعرف المميز، ولا هو يعرف العاقل، ولا العاقل المدرك نظرا لعقل المعقولات، يدرك الولي المكاشف، ولا الولي يعرف النبي ولا النبي يعرف الملك كمعرفة الملك نفسه، ولا الملك يعرف الله كمعرفة الله ذاته، فهذه كمالات مترتبة، والمحجوب عن كل رتبة، قاصر عن الإحاطة بكنه حقيقتها، نعم يبرهن على إثبات أصله.

فإذا عرفت هذا فاعلم أن منتهى معرفة الخلق علمهم أن هذا العالم العجيب المنظوم محتاج إلى مدبر حي عالم لا يشبه العالم ولا يشبهه العالم، فيدل الخلق عنده على إثبات شيء ما، منه صدر الخلق، وهذا معرفة فعله لا ذاته.

ويدل على إثبات الحياة والعلم والقدرة، وهذا علم بالأوصاف لا بحقيقة الذات، بل بنوع من المقايسة إلى النفس، فلو لم يكن للإنسان وصف يعبر عنه بالعلم والحياة، لما أمكنه أن يدرك بالدليل إثبات أصل هذه الأمور ويدل أنه تعالى يستحيل عليه الحدوث والجسمية، وهذا علم بسلب أمور عنه لا بحقيقة ذاته.

وإلى هذه المناهج الثلاثة ترجع معرفة الخلق، فيستحيل اطلاع الخلق على كنه معرفة ذاته، وذلك نهاية العارفين، وعنده يقال: العجز عن درك الإدراك إدراك، أي مهما علم الإنسان أن العجز عن درك كنه جلاله ضروري، فقد أدرك ما هو منتهى كماله، فإنه كمال الإنسان.

وعنده لو قال العارف: لا أعرفه صدق من وجه، ولو قال أعرفه صدق من وجه.

مثاله: من عرض عليه خط منظوم، فيقال له: له يعرف كاتبه؟ فيقول: لا. فيقال إن كاتبه موجود حي عالم قادر سميع بصير- لأن الكتابة لا تتم إلا بهذه الصفات- وليس بجماد. فيقول نعم، فيقال له إذا عرفته.

فله أن يقول: وإن عرفت هذا، فإني لا أعرفه.

ويعترض العارف حالتان: واحدة يقول فيها: لا أعرف الله.

وفي الأخرى: لا أعرف إلا الله، وهو صادق منهما.

أما الأولى: فإنه إذا لاحظ خصوص الذات ومد طرف قلبه إلى حقيقتها، فتعتريه دهشة وحيرة، فيقول لا أعرفه.

والحالة الثانية: ينظر إلى أفعاله من حيث إنها أفعاله، فلا يرى عند ذلك في الوجود إلا الله وأفعاله، فيقول: لست أعرف شيئا غير الله، وما في الوجود غير الله، فهو الكل على التحقيق، ولهذا قال عليه السلام: «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذات الله».

ولا يستوفي العارف بحار المعرفة- التي أفاضها الله عليه- منتهاها وإن عمر عمر نوح عليه السلام، وجميع معرفة العارفين نسبتها إلى معرفة الله تعالى أقل من نسبة قطرة إلى بحار الدنيا، فإن نسبتها إليها نسبة متناه إلى غير متناه، ونسبة القطرة إلى البحر نسبة متناه إلى متناه، فأصل الوضع خطأ، والله أعلم بالصواب([34]).

ومنها: فتوى جماعة من أئمة بغداد، كتبتها ببلد خُوِّي من خطوطهم، وكان السائل عنها القاضي سيف الدين يحيى بن إبراهيم الواعظ السلماني، رحمه الله تعالى فكتب إليهم:

ما قول السادة الأئمة، مصابيح الأمة، ومفاتيح الحوادث الملمة، أدام الله تمكينهم، وحرس دنياهم ودينهم: في معرفة الباري سبحانه هل يعرف على ما هو عليه وراء معرفة مجرد الوجود من الذات والصفات المقدسة عن مضارعة الأوصاف والذوات، وهل يتطرق إليه المعقول وتحيط به العقول؟ أم ليس إلى درك الحق وصول، أفتونا في ذلك مأجورين:

الجواب وبالله التوفيق:

ما لمعت للبشر بارقة من التوحيد وراء الاعتراف بالموجود المقدس عن سمات الافتقار والتحديد، ولا وصول إلى معرفة الرحمن، إلا بقدر الاستطاعة والإمكان، وبهذا نطق القرآن والله المستعان... الجواب بخط ابن عقيل وبالله التوفيق:

إن الله سبحانه ذكر عن ملائكته العارفين بجلاله أنه ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾[طه:119] وقال نبيه عليه السلام «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» وإنما يعرفه العارفون بحسب ما يدركون من أفعاله الدالة عليه، قال ﷺ أعرفكمن بنفسه أعرفكم بربه.

فلكما حقق العالم في معرفة مخلوقاته، كان عرفانه بالله بحسب ذلك([35]).

ومن ذلك فتوى الكيا الهراسي: لا يعرف الله على ما هو عليه من الجلال والكمال، إلا هو، وكل يعرف من جلاله على قدر ما يحتمله علمه ويتسع له فهمه، بل لا يعرف نبوة النبي، إلا النبي، وحقيقة كلام الله، إلا من سمعه من الله، وإذا لم يعرف العالم حقيقة الروح وهو من خلق الله، فكيف الطمع في إدراك خلاق الروح، فهذا القدر تلويح جامع، من ورائه جناب واسع.

جواب إنما يمكن معرفة الله ما هو بمقدار الطاقة البشرية.

الجواب المذكور صحيح والله الموفق([36]).

ومنها نسخة فتوى الشيخ الإمام ناصح الدين أبي طاهر الهمداني رحمه الله تعالى سأله بعض فقهاء قزوين عن أربع مسائل منها هذه المسألة فكتب إليه في جوابه بعد فصول:

هذا وما أشار إليه من المسائل الأربعة فأنا لا أؤهل نفسي لفتح ما يتعلق عليهم وإيضاح ما يشكل لديهم، ولكن لما صدقت منه الرغبة، وحسن الظن بي، فلا أرى بدا من إظهار ما في جرابي من هذا النمط، فأقول وبالله التوفيق:

إن العارف لا يتصور له أن يعرف الله حق معرفته لا يتصور أيضا لمن هو فوق درجته من الأنبياء والأولياء والعلماء والملائكة أجمعين- ممن يقع عليهم سمة الحدوث ورقم المعلولية- أن يعرفوه المعرفة الحقيقية، ولا أن يعرفوا أسماءه وصفاته معرفة تامة محققة كما هي عليها، لأنه تعالى وتقدس عن أن يحيط به علم عالم؛ إذ كل من دخل تحت شيء، فذلك الشيء فوقه ومسلط عليه والعالم أو العارف إذا أحاط علمه أو معرفته بشيء، فقد سخره وجعله تحت قدرته، وصار فوقه بالقهر والغلبة، ومن هذا حاله فلا يجوز وصفه بالقدم، فلو تصور لمخلوق أن يعرفه حق معرفته أو يحيط علما بحقيقة صفاته، لكان ذلك المحاط به مقهورا أو مسخرا تحت سلطنة علمه، وما يكون مقهورا أو مسخرا تحت سلطنة غيره، فذلك الغير فوقه، والقديم لا يجوز أن يكون فوقه أحد من الحوادث.

فإذا لا يجوز أن يعرفه أحد حق المعرفة وغيره، لأنه يؤدي إلى المحال، وما يؤدي إلى المحال محال([37]).

وقد ذهب البعض إلى أن المعرفة ممكنة متحققة يقول الإمام الدلجي: الباب الثالث في نقل فتاوى الذين راغموا أهل الإلحاد والتعطيل في فتاويهم:

منها فتوى جماعة من أهل الري:

ما قول الأئمة- أدام الله توفيقهم- في حق رجلين أحدهما يدعي أنه يعرف الله تعالى حق معرفته والآخر يدعي أن الله سبحانه لا يمكن أن يعرفه الخلق حق معرفته، بل عجزوا عن ذلك، ويدعي أن لله صفة أخص لا يعرفها أحد غير الله تعالى فأيهما على الرشاد في صحة الاعتقاد ليفتونا مأجورين.

الجواب: نسخة الجواب وبالله التوفيق:

اعلم أن العجز عن المعرفة يؤدي إلى نفي المعرفة، لأن العاجز عن معرفة الشيء لا يكون قادرا على عرفانه، لأن العجز والقدرة نقيضان لا يجتمعان، فلو عجز الخلق عن معرفته؛ لما كانوا عارفين به، وإذا لم يكونوا عارفين، كانوا جاهلين به، والجهل بالله كفر صراح.

ومن ادعى أن العجز عن المعرفة معرفة، كان كمن ادعى أن المعرفة ليس بمعرفة، وأن العارف ليس بعارف، وهذا كلام ظاهر التناقض، والله أعلم.

الجواب: نسخة أخرى وبالله التوفيق:

هذا الذي ادعى أن لله صفة أخص، لا يخلو إما أن يكون عارفا بوجود تلك الصفة أو جاهلا، فإن عرف وجودها، فليكن عالما بها كعلمه سائر الصفات، وإن جهل وجودها، فمن أين علم أن هناك شيئا لا يعرف، وهذا كلام متناقض.

ثم إن الذي لا يعرف الشيء بأخص صفاته، كان كالجاهل به؛ فن من لا يعلم- مثلا- من الفرس إلا كونه حيوانا مختارا، لم يعرفه كما هو، بل إنما يعرفه إذا عرف خصوصيته، وهو اتصافه بالكر والفر وغيرهما من خواصه، وكذلك في الشرعيات، لو أسلم في شيء ولم يضبط أوصافه الخاصة، لم يصح السلم، فإذا كانت عقود السلم باطلة مع الجهل بصفة أخص المسلم فيه، فكيف يصح عقد الإيمان والتوحيد مع الجهل بصفة أخص للباري جل جلاله، والله أعلم.

ومنها نسخة فتاوى جماعة من علماء قزوين، وكانت النسخة الفارسية فنقلتها إلى العربية وحذفت الحشو والمكرر منها، للاختصار وهي هذه:

ما قول المشايخ وأئمة الدين كثر أعدادهم وأباد حسادهم: في قول من ادعى أن الخليقة بأجمعهم خواصهم وعوامهم، لا يصلون إلى حقيقة معرفة الله تعالى، وأن الله تعالى لا يعرفه غيره أحد، فهل لهذا القول وجه، ليفتونا مأجورين إن شاء الله تعالى.

الجواب من خط بعضهم وبالله التوفيق:

إجماع أهل الإسلام منعقد بأن معرفة الله واجبة على العقلاء، وذلك لا يخلو إما أن يكون معرفة تامة بشرائطها، أو معرفة ناقصة على غير ما هو به، ولا يجوز أن يقال: إنها ناقصة، لأن ذلك النقصان إما أن يرجع إلى الذات أو إلى الصفات.

فإن رجع إلى الذات. وجب أن يكون مبعضا، يعرف بعضه ويجهل بعضهم، وهو محال.

وإن رجع إلى الصفات، فيقال: إذا جاز أن تجهل صفة واحدة، جاز أن تجهل صفتان فصاعدا إلى جميع الصفات، فيؤدي إلى إبطال التكليف، وإلى أنه لم يعرفه أحد قط، وصار تقدير قول الشارع إذ أمره بالمعرفة، اعرف من لا تعرفه قط! وهذا بين الاستحالة، والله أعلم.

الجواب من خط بعضهم وبالله التوفيق:

أجمع المسلمون قاطبة على أن معرفة الله واجبة بقوله ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه﴾[محمد:19] والأدلة العقلية تدل على جوازها، فمن ادعى أنه تعالى لا يعرف بالحقيقة، فقد ادعى أنه لا يوجد في العالم عارف بالله، وهو كفر وجهل والله أعلم.

الجواب من خط إمام الدين أحمد الموقي، وبالله التوفيق:

من عرف الباري تعالى بصفاته الواجبة والجائزة والمستحيلة، فقد عرف حق معرفته، فإن حد التكليف لا يخرج في المعرفة عن حالتين، إما أن يكون عالما به أو جاهلا، إذ لا واسطة بين العلم والجهل، فمن لم يكن عالما به، كان جاهلا، والجهل بالله كفر صريح، وإذا انتفى الجهل، فقد حصل العلم به تعالى، والله أعلم.

الجواب من خط الشيخ أبي النحرير الحنفي وبالله التوفيق:

اعلم أن معرفة الله تعالى حق المعرفة هي: أن يعتقد أن الخالق بخلاف الخلق من كل وجه، وأن من شبه الإله بالعالم بوجه من الوجوه، كان لم يعرف الله حق معرفته، وأصل صحة الاعتقاد أن يعتقد أن الله بخلاف الخلق، وأن قوله حق تعالى وتقدس، والله أعلم.

الجواب من خط بعضهم وبالله التوفيق:

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا) فهذا يدل على أنه عرف الله حق المعرفة، حتى إنه لو كشف غطاء الغيب ورفع الحجب بين العبد والرب، ما زداد بذلك إيمانا، ولو لم تكن معرفته يقينا، لازداد بكشف الغطاء، فعلى هذا إذا جاز أن يعرفه علي رضي الله عنه حق معرفته، جاز أن يعرفه جميع المؤمنين كذلك، لأن العقل الذي هو آلة المعرفة ومناط التكليف، متساو لجمهور العقلاء، والله أعلم.

الجواب من خط بعضهم وبالله التوفيق:

إن الله سبحانه وتعالى نادى المؤمنين في تسعة وثمانين موضعا بقوله ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فلو لم يكونوا عارفين به يقينا، لكان إخباره عن إيمانهم كذبا وخلفا، تعالى الله عن ذلك، وكيف وقد زكى إيماننا تزكية بليغة في قوله تعالى ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِه﴾ [البقرة:285] وقوله ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ﴾[آل عمران:18] الآية. فدل على أن الإيمان بالذي أثبته لنا وزكاه إيمانا صحيحا كاملا صادرا عن علم حقا تاما، والحمد لله على ذلك([38]).

وقد رد الأئمة على هذا المذهب القائل بإمكانية المعرفة بالكنه يقول الإمام الدلجي:

«اعلم أن الذي يطلب معرفته من الأشياء سبعة:

أولها: يطلب أهو موجود أم لا؟

والثاني يطلب ما هو في ذاته وجوهره، ويلازمه أي فيسأل بعده: أي جنس هو؟

والثالث: يطلب لماذا هو؟ ولأي علة هو؟

والرابع: يطلب كيف هو، وكيف حاله وصفاته؟

والخامس: يطلب أين هو؟

والسادس: يطلب متى هو؟

والسابع: يطلب كم هو؟

فهذه سبعة مباحث وكلها محال في طلب معرفة الله تعالى إلا المطلب الأول، وهو العلم بوجوده تعالى ووجود صفاته الأزلية.

أما استحالة طلب الماهية عنه: فهو أن الماهية أبدا تلازمه الأيية، وما لا أيينة له لا ماهية له.

والأيية تعيين شيء يشاركه جنسه، فيتميز بها عن جنسه، ولا جنس لله تعالى فيطلب ماهيته وأييته.

ولهذا لما سأل فرعون موسى علهي السلام فقال ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِين﴾[الشعراء:23].

قال موسى عليه السلام ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِين﴾[الشعراء:24]

قال فرعون لمن حوله ﴿أَلَا تَسْتَمِعُون﴾ [الشعراء:25] يعني أنه لا يجيب عن الماهية!

قال موسى عليه السلام ﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾[الشعراء:26].

قال فرعون ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾[الشعراء:27] نسبه إلى الجنون لأنه كلما سأله عن الماهية، كان يجيبه عن ملكه ومصنوعاته، وليس ذلك لجهل موسى عليه السلام بالجواب، ولكن كان لجهل فرعون بالسؤال، لأنه سأل عن ماهية من لا ماهية له.

وكذلك لما سأل النبي ﷺ مشركو العرب ﴿ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا﴾[الفرقان: 60] ظنا منهم أنه تعالى من جنس آلهتهم، فأنزل الله تعالى ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾[الإخلاص:1].

وأما استحالة طلب العلة عن وجوده تعالى: فإنه جل ثناؤه واجب الوجود، والعلة إنما تكون لما جاز وجوده وجاز عدمه.

وأما استحالة طلب الكيفية عن ذاته وصفاته: فإن الكيفية تستدعي الصورة والمشابهة، وذلك محال في ذاته وصفاته تعالى وله المثل الأعلى.

وأما استحالة طلب الأينية عنه تعالى فإن الأين سؤال عن المكان، وقد تحقق أن خالق المكان غير متفقر إلى المكان، وروي في الأثر: «من كيف الكيف، لا يقال له كيف، ومن أين الأين لا يقال له أين».

وأما استحالة طلب البداية عن وجوده فيقال متى هو؟

فلأن متى سؤال عن الزمان، والقديم تعالى كان قبل الزمان لا شيء معه، إذ أبطلنا قدم العالم والزمان من قبل.

وروي أن رجلا سال الجاحظ قال: متى كان ربنا.

فقال له: اعقد الحساب حتى أتفرغ إلى جوابك، فلما فرغ قال له: أي حساب عقدته أولا.

قال الرجل: الواحد.

قال: هل وجدت قبل الواحد شيئا؟

قال: لا.

قال: فاعلم أنه تعالى كان ولم يكن قبله شيء، لأنه واحد، وليس قبل الواحد شيء.

وأما استحالة طلب الكمية عنه: فلأن الكمية سؤال عن العدد، ولا تعدد في ذات الله تعالى، لأنه هو الواحد، والواحد أول العدد وليس من العدد.

سأل الحجاج الشعبي فقال: واحد من واحد، وواحد في واحد، وواحد لواحد أيهما تعبد؟

فقال الشعبي: لا أعبد الواحد من طريق العدد ولا الواحد في الواحد كالروح في الجسد، ولا الواحد يأتي من الواحد كما يأتي من الوالد الولد، بل أعبد الواحد الصمد الذي ليس بعدد ولا جسد، ولا والد ولا ولد، ولم يكن له كفوا أحد.

فلما كان التوصل إلى معرفة الأشياء من هذه المباحث السبعة، وقد انسدت ستة طرق منها، لاستحالتها على الله، و لم يبق إلا طريق واحد، وهو التوصل من الصنع إلى معرفة وجوده ووجود صفاته، جاءت آيات وأخبار وآثار في صرف العقول عن السلوك إليه في المناهج الستة، لئلا يفضي إلى التشبيه والتعطيل فحملها قوم من الجهلة على نفي المعرفة أصلا، وظنوا أنها جاءت في صرف العقول عن السلوك إليه في المناهج كلها...»([39]).

لكن الملاحدة ينطلقون من هذه الجهة إلى قولهم: كيف أثبتم لإلهكم ما أثبتم من صفات، وأفعال، وأنتم لا تعرفون حقيقته، والحكم على الشيء فرع عن تصوره؟!

فكان الجواب أن المؤمن عرف الله تعالى من قبل صنعته التي دلت عليه، يقول الدلجي:

«والواجب: النظر في هيئات العالم وتغاييرها، فيستدل بالتغير على الحدوث، وبالحدوث على محدث قديم لا يشبهه شيء.

وما أحسن ما قال القاضي أبو المحاسن بن إسماعيل الروياني: إن العاقل إذا نظر في شعرة من بدنه، يعرف الله تعالى بصفات كماله أجمع بتوفيقه تعالى.

وهو معنى قولهم: في أقل القليل أدل دليل على أجل جليل.

وأنا أوضح كيفية الترقي في معارج الصنع إلى معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته واحدة واحدة فأقول:

ليبدأ الناظر أولا بالقصد إلى معرفة قدرته المستقلة بإبداع العجائب، الصالحة لاختراع الغرائب.

فينظر أنه تعالى كيف أخرج النار المحرقة من الشجر الأخضر ومن الحديد والحجر، وكيف أخرج السنبلة المرصعة من حبة، والنخلة الباسقة من نواة، والياقوت والزمرد من حصاة، والذهب والفضة من حجارة، والمسك من فارة، والعنبر من دابة، والعسل من ذبابة، والديباج من دود، والورد من عود، والسكر من قصبة، والقصب من خشبة، والإنسان من نطفة.

ويتأمل كيف أرانا صورتنا في المرآة ولسنا فيها، ولا لون الحديد زائل عنها، وكيف أرانا الصورة والعجائب في المنام وحواسنا راكدة.

فهذه وأشباهها تدل على كمال قدرة الله تعالى وأنه على كل شيء قدير.

ثم يقصد إلى معرفة علمه الواسع الذي وسع السماوات والأرض:

فينظر في سعة الهواء ولطافته، فيتدرج به إلى إثبات علمه، لأنه لما علم احتياج الناس إلى النفس واستنشاق الهواء، جعل الهواء فسيحا وسيعا لطيفا رقيقا؛ إذ لو لم يكن كذلك لاختنق الخلق من تراكم الدخان والبخار والضباب.

ويتأمل كيف يدخل الشتاء على الصيف والصيف على الشتاء بالتدريج قليلا قليلا، علما منه أنه لو دخل أحدهما على الآخر مغافصة، لأضر ذلك بالأبدان، وكان كما لو خرج إنسان من الحمام الشديد الحر ودخل المثلجة في الحال، فانظر كيف حاله.

وكذلك لما علم أن الروائح الكريهة تضر بالدماغ، كيف صرف الرياح جنوبا وشمالا حتى تطيب الهواء؟!

وكذلك لما علم أن الإنسان يحتاج إلى أكنان يستتر بها من الحر والبرد وهي الأبنية المرفوعة بالطين والسقوف، وتلك تنهدم بالحركة وتبتل بالماء، فانظر كيف سكن هذه الأرض على الماء، لثبات تلك الأبنية عليها، وكيف قطع الماء عن هذا الربع المسكون من الأرض، ليمكنهم العمارة عليه والتعيش فيه.

ثم لما علم أنهم في بعض الأحايين يحتاجون إلى التخويف لقساوة قلوبهم، فانظر كيف يزلزل عليهم الأرض لينزعوا عن المعاصي، كما قال: ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾[الإسراء:59].

ويتأمل أشكال الحيوانات، فإنه لما خلقها محتاجة إلى تناول الأغذية، فما خلق قوائمه طويلة، خلق أعناقه أيضا طويلة، ليمكنه تناول العلف من الأرض، كالإبل والنعام والكركي وغيرها، ثم لما جعل عنق الفيل مع طول قامته قصيرة، لحكمة رآها، فانظر كيف طول أنفها أعني خرطومها ليكون عوضا عن طول الرقبة.

وكذلك كيف أقدر الآدمي على تناول الطعام بيده ووضعه في الفم، لما نصب قامته ولم يطول رقبته، وكان ذلك من كرامته وهذا غيض من فيض.

وأنى يبلغ الإنسان منتهى علم الله تعالى وغاية حكمته في الأشياء بفهمه القاصر؟! فإنه تعالى ربما أودع في صنع واحد ألوفا من الحكمة.

أما بقدر الطاقة البشرية ينظر في هذه الأشياء وأمثالها، فيستدل بها على سعة علمه تعالى وكمال حكمته، قطعا منه بأنها في إتقانها وإحكامها، لا تقع إلا من عالم بحقائقها، وهو الخلاق العليم الحكيم.

ثم يقصد إلى معرفة إرادته النافذة:

فينظر في أعداد الكواكب، وأشكالها، ويتفكر كيف يقضي العقل بجواز زيادة أعدادها الذي هو لها، وجواز النقصان عن العدد المعلوم، فيتحقق أن اختصاص هذا العدد الموجود الذي هو لها مع جواز غيره من الزيادة والنقصان إنما كان لإرادة بارئها جل جلاله كذلك.

وكذا أشكالها ومقاديرها، فإنه يمكن أن تكون المجتمعة منها مفترقة، والمفترقة مجتمعة، والصغير كبيرا وبعكسه، والخفي جليا وبعكسه، فاختصاصها بهذه الحالات مع جواز غيرها في العقل، يدل على إرادة القديم تعالى.

ثم النكتة التي حيرت الفلاسفة وأفحمتهم: هي أن جرم الفلك عندهم كروي، وأجزاء الكرة في العقل متناسبة، فلا يكون جزء منها إلا ويجوز أن يكون قطبا، فاختصاص هذين القطبين الشمالي والجنوبي بالنقطتين المعلومتين دليل قاطع على إرادة الله تعالى وتخصيصه إياهما بالقطبية دون غيرهما من ا لأجزاء المتشابهة الممكنة لجعلها قطبا وهذا دليل مسكت لنفاة الأدلة.

وكذلك ينظر إلى عدد أوراق الورد، فيرى بعضها أربعة، وبعضها خمسة، وبعضها ستة، وبعضها أكثر إلى أربعين وإلى مئة، والعقل يجوز تخميس الأربعة، وتربيع الخمسة، وتثمين الستة، إلى غيرها، فاختصاصها بهذه الأعداد دون غيرها مع الجواز، دليل على ثبوت الإرادة لله تعالى وأنه يريدها كذلك.

وأيضا إن العقل يجوز تقديم المؤخر من هذه الأشياء، وتأخير المقدم منها بأوقات وأزمنة، فاختصاصها بالوقت المعين، دليل على أن الله سبحانه فعال لما يريد وهذه أيضا قطرة من بحار وذرة من قنطار.

ثم يقصد إلى معرفة حياته القديمة:

وذلك سهل بعد سلوك الناظر هذه الطرق التي بيناها، إذ قد حصل له العلم بالقدرة والإرادة، فيترقى منها إلى إثبات الحياة، فيعلم قطعا أنه حي، إذ شرط العلم والقدرة والإرادة هو الحياة، كما أن شرط الحياة الذات الموجودة، فإذا قد ثبت أنه الحي لا إله إلا هو.

ثم يقصد إلى معرفة السمع والبصر:

وطريقها من الصنع أن المتفكر إذا أحاط علمه بأن أصوات الحيوانات والجمادات وألوان المتلونات مخلوقة بما بيناه من الأدلة العقلية، يعلم قطعا أن خالقها سميع بصير، إذ يستحيل أن يخلق شيئا وهو لا يدركه، ولا طريق إلى إدراك الأصوات إلا بالسمع، ولا إلى إدراك الألوان إلا بالبصر، فيعلم من ذلك أنه سميع بصير.

وبهذا الطريق أيضا يعلم أنه مدرك طعم المطعومات، وروائح المشمومات ولمس الملموسات من حرارتها وبرودتها ولينها وخشونتها، بإدراك هو صفة له، وليس بذوق وشم ولمس لأنها اتصالات وذلك في حقه محال.

ثم يقصد إلى معرفة كلامه:

وذلك أنه لما تحقق العلم من سلوك النهج المذكور بأن هذه الصنائع كلها صنعة صانع وملك مالك تام الملك، متصرف في ممالكه كما شاء، ومن ضرورة الملك أن يكون آمرا ناهيا في رعيته، ليستتب ملكه، والأمر والنهي كلام فيجب أن يكون متكلما.

ولأن ضد الكلام خرس، كما أن ضد السمع صمم، وضد البصر عمى، وهي آفات ونقائص، والرب سبحانه منزه عن الآفة والنقص، فيجب أن يكون سميعا بصيرا متكلما.

ثم يقصد إلى معرفة قدمه وبقائه:

وذلك أيضا بتحقق العلم بحدث العالم وافتقاره إلى محدث، وأن المحدث لو كان أيضا حادثا، لافتقر بحدوثه إلى محدث آخر يحدثه، وهلم جرا حتى يتسلسل وما يتسلسل لا يتحصل.

فيعرف من ذلك يقينا أن الإله جل جلاله قديم دائم الوجود، مستمر البقاء، لا أول لوجوده ولا آخر لبقائه، إذ لو جاز عدم القديم، لجاز في العقل تقدير إعادته ثانيا، فكان من حيث تقدير الإعادة حادثا، ومن عدم الأولية قديما، فيلزم أن يكون الشيء الواحد حادثا قديما، وهو محال قطعا.

وبهذا يتحقق أن ما ثبت قدمه استحال عدمه.

ثم يقصد إلى معرفة قيامه بنفسه بلا نهاية.

وعلم ذلك من طريق الصنع أيضا هو أنا رأينا العرض مفتقرا إلى محله، غير قائم بنفسه، والجوهر قائما بنفسه متناهيا، مفتقرا إلى موجود أوجده، فيتحقق من ذلك أن الصانع قائم بنفسه بلا نهاية، غير مفتقر إلى موجد، ليمتاز بقيامه بنفسه عن قبيل الأعراض، وبعدم تناهيه واستغنائه عن الموجد عن قبيل الجواهر، فيفارق بذلك الصنع الذي هو جوهر وعرض، تعالى الله علوا كبيرا.

ثم يقصد إلى معرفة وحدانيته من طريق الصنع أيضا:

وهو أنا نشاهد أمور العالم مستقيمة، جارية على النظام الحسن، فلو قدر للعالم إلهان، لجاز في العقل تقدير خلافهما في تدبير المملكة، ومتى تخالفا اختل نظام السموات والأرض ومن فيهن، لأن أحدهما يمكن أن يريد مثلا طلوع الشمس من المشرق، والآخ يريد طلوعها من المغرب، فبالضرورة يبطل أحد المرادين، ويعجز الواحد منهما، لاستحالة طلوع الشمس الواحدة من المشرق والمغرب معا في وقت واحد، فحينئذ من حصل مراده، كان إلها، ومن عجز كان منحطا عن رتبة الإلهية، كما قال تعالى ﴿لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِد﴾[النحل:61].

قال الترمذي: (اثنين) ليس لمجرد التأكيد، ولكن في ضمنه دليل التوحيد.

وذلك أن الاثنين مشتق من (ثنيت) أي صرفت، معناه: لا تتخذوا إلهين ثانيين، أي صارفين، يثني كل واحد منهما صاحبه عن مراده، فإن قدرا كان مقهورين، وإن لم يقدرا كانا عاجزين.

ثم يقصد إلى معرفة تنزيهه عن المكان: وطريقها أنا لما تحققنا بالأدلة العقلية أن العالم- هول كل موجود سوى الله تعالى- حادث، ومن جملته المكان، يجب أن يكون الصانع قبل العالم، فيجب أنه كان قبل المكان.

ويستحيل أن يتغير وصفه بخلق المكان، فيحتاج إليه بعد الاستغناء، لأن التغير والحاجة تضاد صفة الكبرياء، وهذا معنى قول علي (كان ولا مكان ثم خلق المكان، ولم يتغير عما كان).

ثم يقصد إلى معرفة جواز رؤيته:

وطريقها من الصنع: البحث عن مصحح الرؤية في الجوهر والعرض، لأنهما مرئيان معا، فلا بد فيهما من مصحح للرؤية يجمعهما، وليس يجمعهما صفة إلا الوجود والحدوث، ولا معنى للحدوث إلا الإخبار عن عدم سابق، فلم يبق إلا الوجود، فدل على كون كل موجود مرئيا، والرب تعالى موجود، فيجب أن يكون مرئيا في نفسه.

فإذا قد ثبت بسلوك هذه الطرق الجلية في معاريج الصنع، أن الله تعالى موجود، قادر، عالم، مريد، حي، سميع، بصير، مدرك، متكلم، قديم، باق، قيوم، واحد، منزه عن المكان، ومرئي للعيون، فمن عرف الله سبحانه من هذه الطرق بهذه الصفات الواجبة الإلهية، فقد عرفه حق معرفته وكمل إيمانه»([40]).

ثم قال رحمه الله:

«ثم إن هاهنا دقيقة عميقة: وهي أن معرفة الله تعالى لما كانت متلقاة من معارف الصنع كما شرحناه، وأن من عرف الصنع عرف الصانع، ومن عرف نفسه عرف ربه، والله تعالى يقول ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِم﴾[فصلت:53].

والآفاق والأنفس محدثة مقدرة محدودة متصورة، ينتهي الفكر إلى نهايتها ويبتدر الوهم إلى بدايتها، ويتصور في الذهن تماثيلها، ويتشكل في الخيال تصاويرها، والنفس لعرفانها، معتادة، والعقل لتصويرها وتحديدها، إلف، فإذا ترقى العقل منها إلى معرفة الصانع تعالى، عن التمثيل والتصوير والتحديد، يكاد الفكر يتلوه لطلب التحديد، والخيال يسابقه لطلب التصوير، والوهم يساوقه لطلب التمثيل، وإنما يكون ذلك لتعود ملازمتها العقل في معلوماته المحسوسة، فيتلبد حينئذ الناظر، ويتوقف الخاطر، اللهم إلا من أدركته العصمة وساعده التوفيق، فيدارك نفسه في تلك الحال ويقول:

إن كل ما عرفته قبل هذا، كانت أجساما متناهية أو أعراضا فانية، يصورها الخيال ويكنفها الفكر، والآن قد انتهيت إلى معلوم قديم لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء.

فيا خيال اخنس فليس لك في مناله مطمع.

ويا وهم وراءك فليس لك في ذاته وصفاته مجال.

ويا فكر لو دنوت أنملة لاحترقت أما سمعت قول سيد البشر «لا فكرة في الرب».

ويا عقل اخلع حذاءك وودع رفقاءك، فإنك بالواد المقدس.

ويا علم: اشرب كأس المعرفة رويا هنيئا مريئا، وإياك أن تلتفت وراءك ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير﴾ [الشورى:11]»([41]).

ولهذا السبب كان الأئمة رضوان الله عليهم شديدي الحذر في التعامل مع الآيات التي وردت بشأن صفاته سبحانه وتعالى لا كما يتعامل المجسمة مثلا، فالسلف رحمهم الله كالإمام مالك وسفيان ابن عيينة وغيرهم الكثير من الذين أخذوا بمبدأ (أمروها كما جاءت) لم يكن ينقصهم علم باللغة أو حذقا في العقل بل كانوا من أذكياء العالم، بل كان اكتفاءهم من تفسير هذه الآيات بمجرد تلاوتها، وأنه تعالى كما وصف نفسه لا يقال كيف والكيف عنه مرفوع.

1- فهم يعرفون ما لهذه المتشابهات- من نصوص الكتاب والسنة- من معان يستطيع البشر فهمها، سواء بمعرفة اللغة أو بمعرفة العقل، فلا يعقل أن يكونوا- وهم على مقربة من عصر النبوة- جاهلين بدلالات الألفاظ، وسياق الآيات وسباقها، ولحاقها.

2- ثم هم يعرفون أن لهذه المتشابهات معان أخرى حقيقية وراء مدارك البشر اللغوية أو العقلية، وتلك المعاني قد استأثر الله تعالى بعلمها، وتلك المعاني المكنونة هي حقائق تلك الظواهر ومآلها.

3- ثم هم يقطعون- في الآن نفسه- بعجز البشر عن إدراك هذه المعاني المكنونة، ومن ثم فلا يجهدون أنفسهم في تفسيرها، أو اكتناهها؛ أصلا وابتداء.

إذن فيجب- في هذا الصدد- الانكفاف عن إعمال اللغة أو العقل في فهم هذه النصوص، بل ينبغي- في نظر السلف- ان نضيف تلك المعاني الحقيقية المكنونة إليه تعالى إدراكا، كما نضيفها إليه تعالى اتصافا.

وهكذا يكون التنزيه في عين الإثبات، أي أن السلف قد أثبتوا ونزهوا في آن معا، لقد أثبتوا في عين التنزيه ونزهوا في عين الإثبات.

أما المثبتون- كابن خزيمة والذهبي وابن تيمية ومدرسته- فقد أعملوا اللغة البشرية في فهم هذه الظواهر وأضافوا تلك الأفهام البشرية إليه تعالى اتصافا، ثم نزهوه تعالى بعدئذ عن الكيف والمماثلة. وهكذا كان الإثبات لديهم يمثل خطوة، تعقبها خطوة أخرى هي التنزيه، فهم إذن قد أثبتوا أولا، ثم نزهوا بعدئذ.

أما المؤولون- كالجويني والرازي والآمدي وغيرهم- فقد أعملوا العقل في فهم هذه الظواهر، وحين انتهى بهم العقل إلى التنزيه أضافوا إليه تعالى ما انتهى إليه العقل اتصافا، وبهذا كان مرتكز اهتمامهم الأول هو التنزيه، بل إن بعض رجالات الحنابلة- كابن الجوزي مثلا- قد جعل العقل هو أساس فهم هذه الظواهر- لأنا على حد تعبيره- قد عرفنا به الله تعالى، فينبغي ألا يهمل ما ثبت به الأصل وهو العقل([42]).

موقف السلف- بهذا التقرير- موقف عقل متسق تمام الاتساق، نقول هذا برغم ما يبدو فيه من تناقض؛ إذ كيف يكون موقف أولئك الذين ألجموا العقل عقليا؟!

نقول: إن الصفة- أية صفة- إنما هي صفة لذات، وهي –إذن- لا تعلم إلا بمقدار ما تعلم الذات، فإذا كانت تلك المتشابهات منطوية على صفات فهي صفات لذات هي أجل من التصور وأرفع من الإدراك، ولا مناص من أن تكون صفاتها كذلك.

إنه إذا كانت تلك المتشابهات منطوية على صفات، فهي إذن صفات مكنونة أخفيت عن أفهامنا وراء حرم تلك المتشابهات، وسترت عنا بهان فأي دور يليق بالعقل ويجمل به سوى أن يوقن أنه عاجز عن التعقل؟ وفيم يبذل الجهد فيما لا يمكن إماطة اللثام عنه؟! وهكذا يكون العجز عن الإدراك هو ما يمكن إدراكه، لأنه إدراك أن تلك الصفات المستورة بتلك المتشابهات المحجوبة عنا بها، متعالية على التعقل، قصية عن الإدراك.

وهكذا يكون السؤال عنها بدعة، فهو بدعة في منطق العقل، قبل أن يكون بدعة في مقتضى الشرع.

بهذا أجاب الإمام مالك رضي الله عنه سؤال من سأله (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ) كيف استوى؟ فقال: «الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة».

وموقف السلف بهذا التقرير أسلم وأعلم في آن معا، أما أنه أسلم؛ فلأنه لم يغامر بزورق العقل أو بزورق اللغة في محيط لا ساحل له ولا قرار، بل أناط الأمر لمن هو أعلم به ابتداء وانتهاء.

وأما أنه أعلم؛ فلأنه عرف محدودية العارف، ولا محدودية المعروف، فآثر أن تظل المتشابهات: متشابهات، وألا يطرح هذا الوصف بوساطة احتمالات لغوية أو عقلية، وهذا شأن من لا يكفيه، وهذا شأن من لا يكفيه- في مثل هذا المقام الأجل- سوى اليقين، ولا يقين حيث يكون الاحتمال.

ولله در الشافعي رضي الله عنه حين قال عن السلف: «هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل، وكل سبب ينال به علم أو يدرك به هدى» ولله در ابن قدامة حين قال: «إن هذا مما لا يحتاج إلى معرفته؛ لأنه لا علم تحته، ولا يدعو إلى الكلام فيه حاجة ضرورية أو غير ضرورية»([43]).

«إن عدم إقدام السلف على التفسير ليس جهلا بدلالات الألفاظ ولا هو نفي لما يليق به سبحانه من معان وراء تلك الألفاظ، بل هو إجلال لقدر الله تعالى من تدخل التفسير اللغوي البشري بما هو عليه من نقص وقصور، حتى ولو قلنا بعد ذلك: «بلا كيف!» ألف ألف مرة»([44]).

يقول ابن قدامة في ذم التأويل: «أما العقل: فإنما يعرف صفة ما رآه أو رأى نظيره، والله تعالى لا تدركه الأبصار ولا نظير له ولا شبيه، لا تعلم صفاته ولا أسماؤه إلا بالتوقيف، والتوقيف إنما ورد بأسماء الصفات دون كيفيتها أو تفسيرها، فيجب الاقتصار على ما ورد به السمع منهما لعدم إمكان العلم بما سواه.

أما اللغة فإن اللفظ إذا احتمل معاني عدة فحمله على واحدة منها تخرص وقول على الله تعالى بغير علم، لأن تعيين أحد المحتملات- إذا لم يكن هناك توقيف- يحتاج إلى حصر المحتملات كلها، ولا يحصل ذلك إلا بمعرفة جميع ما يستعمل فيه اللفظ حقيقة أو مجازا، ثم يبطل جمعيها إلا واحدا، وهذا يحتاج إلى الإحاطة باللغات كلها، ومعرفة لسان العرب جميعه، ولا سبيل إليه، فكيف بمن لا علم له بهذا، ولعله لا يعرف سوى محملين أو ثلاثة بطريق التقليد، ثم معرفة المحتملات متوقف على ورود التوقيف به، فإن صفات الله تعالى لا تثبت ولا تنفى إلا بالتوقيف، فإذا تعذر هذا بطل تعيين محمل منها على وجه الصحة، ووجب الإيمان بها المعنى الذي أراده المتكلم بها»([45]).

وهذ المعنى هو الذي يقول به إمام الحرمين بقوله في الشامل: «إن بعض من يعزى إلى علم التوحيد ويتعلى بزعمه عن رذيلة التقليد قد صار إلى أن القديم مستو على عرشه، ويأبى من تأويل الاستواء وحمله على بعض المحامل المشهورة.

وسبيل الكلام مع هؤلاء أن نقول لهم: هل تعتقدون اختصاص القديم بجهة من الجهات أم تأبون ذلك؟ فإن صرحوا بإثبات الجهة قاطعناهم وألحقناهم بمثبتي الجهة من المشبهة، وإن لم يثبتوها ولم ينفوها كانوا متشككين حيث لا يسوغ الشك، إذ إثبات الجهة ونفيها أمران تحتوي عليهما قسمة بديهية، ولا رتبة بين الإثبات والنفي، والمتشكك عندنا في نفي الجهة وإثباتها بمثابة المصمم على إثبات الجهة، فإن كل معتقد يجب العلم به، فالتشكك فيه بمثابة الجهل.

وإن صرح هؤلاء بنفي الجهات فقد وافقونا في المذهب، وقالوا بأعظم ركني التأويل، فإن الذي يحاذره منكرو التأويل إزالة الظواهر، والذي نفي الجهة قد أزال ظاهر الاستواء، ولكنه لم يعين للفظ الاستواء بعد تعريته عن ظاهره محملا، والمتأولون عينوا له محملا، وإذ اآل الأمر إلى ذلك فهو سهل المرام»([46]).

يقول ابن الجوزي رحمه الله: «إن نفيت التشبيه في الظاهر والباطن فمرحبا بك، وإن لم يمكنك أن تتخلص من شرك التشبيه إلى خالص التوحيد وخالص التنزيه إلا بالتأويل فالتأويل خير من التشبيه» وكذلك حين قال: «التشبيه داء، والتأويل دواء، فإذا لم يوجد الداء فلا حاجة إلى استعمال الدواء»([47]).

ولذا كان التأويل وهو مسلك الرَّاسخين في العِلم لمن يفهم لغةَ العربِ وأساليبَ وتراكيب وأسرار القرآن الكريم، فيستطيع العالِم أن يفسِّر هذه الألفاظ تفسيرًا حسنًا لا يخلُّ بتنزيه الله سبحانه وتعالى ولا بمحكمات القرآن الكريم، وقد كان سيدنا ابن عباس تَرجُمان وحَبر القرآن يلتزم التَّأويل في هذه الآيات، فورد عنه أنه أوَّل قولَه تعالى: (ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ)  [القلم: 42] قال الإمام البيهقي في الأسماء والصفات: سُئل- أي ابن عباس- عن قولِهِ سُبحانه: (ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ) قال: إِذا اشتد الأمرُ فِي الحربِ قِيل: كشفتِ الحربُ عن ساقٍ. قال: فأخبرهم عن شِدةِ ذلك. قال أبُو سُليمان رحمه الله: فإِنما جاء ذِكرُ الكشفِ عنِ السَّاقِ على معنى الشدةِ، فيُحتملُ والله أعلمُ أن يكُون معنى الحدِيثِ أنهُ يبرُزُ مِن أمرِ القِيامةِ وشِدتِها ما ترتفِعُ معهُ سواتِرُ الامتِحانِ، فَيَمِيزُ عِند ذلِك أهلُ اليقِينِ والإِخلاصِ، فيُؤذنُ لهُم فِي السجُودِ، وينكشِفُ الغِطاءُ عن أهلِ النفاقِ فتعُودُ ظُهُورُهُم طبقًا لا يستطِيعُون السجُود.

وفيه أيضًا: عن عِكرِمة عنِ ابنِ عباسٍ أنهُ سُئل عن قولِهِ تبارك وتعالى: (ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ) [القلم: 42] قال: إذا خَفِي عليكم شيءٌ مِن القُرآنِ، فابتغُوهُ مِن الشِّعرِ، فإِنهُ دِيوانُ العربِ. أما سمِعتُم قول الشاعِرِ:

اصبِر عناق إِنهُ شر باقٍ
 

قد سن قومُك ضرب الأعناقِ
 

وقامتِ الحربُ بِنا على ساق
 

قال ابنُ عباسٍ: هذا يومُ كربٍ وشِدةٍ([48]).

وقد ورد التَّأويل عن بعض أئمَّة السَّلف الصالح كأحمدَ بنِ حنبل والبخاريِّ والبيهقيِّ مما يدلُّ على أنه مسلكٌ سلفيٌّ أصيلٌ تتابع عليه السَّلف والخلف.

قال الإمام الخطابي في أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري: «قال أبو عبدالله البخاري: معنى الضحك الرحمة» انتهى([49]).

وقال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ  ) [القصص: 88] إِلَّا مُلْكَهُ، وَيُقَالُ: «إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ الله»([50]).

روى الإمام البيهقي من طريق الميموني قال: خرج إِليَّ يومًا أبُو عبدِالله أحمدُ بنُ مُحمدِ اابنِ حنبلٍ، فقال: ادخُل فدخلتُ منزِلهُ فقُلتُ: أخبِرنِي عما كُنتَ فِيهِ مع القومِ وبِأي شيءٍ كانُوا يحتجون عليك؟ قال: بِأشياء مِن القُرآنِ يتأوَّلُونها ويُفسرُونها، هُمُ احتجوا بِقولِهِ: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ) [الأنبياء: 2] قال: «قُلتُ: قد يُحتملُ أن يكُون تنزِيلُهُ إِلينا هُو المُحدَثُ لا الذكرُ نفسُهُ هُو المُحدَثُ».

وروى أيضًا بسنده الصَّحيح عن أبِي إِدرِيس الخولانِي عنِ النواسِ بنِ سمعان الكِلابِي قال: سمِعتُ رسُولَ الله ﷺ يقول: «المِيزانُ بِيدِ الرَّحمنِ يرفعُ أقوامًا ويضعُ آخرِين، وقلبُ ابنِ آدم بين إِصبعينِ مِن أصابِعِ الرَّحمنِ إِن شاء أقامهُ وإِن شاء أزاغهُ» وكان رسُولُ الله ﷺ يقُولُ: «يا مُقلبَ القُلُوبِ ثبِّت قلبِي على دِينِكَ» فقد قرأتُ بِخط أبِي حاتِمٍ أحمد بنِ مُحمدٍ الخطِيبِ رحِمهُ الله فِي تأوِيلِ هذا الخبرِ قِيل: معناهُ تحت قُدرتِهِ ومُلكِهِ([51]).

وكتب التفاسير والسُّنة وشروح الحديث مليئةٌ ومشحونةٌ بمثل هذه النَّماذج من تأويلات السَّلف الصالح من الصَّحابة والتَّابعين، مما يدلُّ على أن التأويل منهجٌ ورثه الخلفُ الصالحُ عن السَّلف الصالحِ، وهذا الموقف كان فيه صيانةٌ كبيرةٌ للعقائد الإسلامية من مقالة التَّشبيه والتَّجسيم.

قال شيخُنا الإمام العلَّامة في كتاب البيان: «ومتأخروهم سلكوا مسلكَ التَّأويل حين رأوا أن الإثباتَ على طريقة المشبِّهةِ أفضى عند بعضِهم إلى القول بالجسمية ولوازمها، والمتقدِّمون من أهل السُّنة والمتأخرون كلُّهم متَّفقون على الإمرار وعدم التَّعرض للفظةٍ بالنَّفي، وكذلك عدم اعتقاد حقيقتها اللُّغوية التي من شأنها تشبيه الربِّ سبحانه وتعالى بخلقِه، ولكن زاد المتأخِّرون بأن هذه الألفاظ لا يجوز أن يُفهم منها إلَّا ما يليق بالله، فكأنهم يقولون للخَصم: إذا صمَّمت أن تتكلم عن معنى لهذه الصِّفاتِ؛ فقل أيَّ معنى إلا المعنى الذي يُنقص من قَدْرِ الرَّبِّ ويشبِّهُه بخلقِه، فقالوا: أيها الخصم قل: عين الله تعني رعايته وعنايته، كما في قوله تعالى: (ﭬ ﭭ ﭮ ) [طه: 39] ولكن إيَّاك أن تقول: إنَّها جارحةٌ؛ ولذا يصلح أن نقول: إن مذهب السَّلف مذهب اعتقادٍ، ومذهب الخَلف مذهب مناظرةٍ»([52]).

هكذا كان عمق أهل السنة والجماعة في التعامل مع اللغة العربية، والتي وضعوا لها عددا من القواعد الأخرى وذلك للحفاظ على قطعية دلالتها في البحث الكلامي، وهي تعد من معالم منهج أهل السنة والجماعة، نستعرضها فيما يلي:

1- الإمساك عن تبديل الكلمة بكلمة أخرى أو ترجمتها إلى لغة أخرى خاصة في باب الصفات الإلهية

إن اللغة بصفة عامة لها وظيفتان: الوظيفة الأولى: هي الأداء، وفيه يعبر المتكلم عما في ذهنه من معان بألفاظ لها دلالة متفق عليها بين أهل اللغة الواحدة؛ حيث وضعت هذه الألفاظ مقابل هذه المعاني، وواضع ذلك عند بعضهم هو الله قال سبحانه: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ)  ، وعند آخرين هم البشر، وفريق ثالث يرى أن أصول اللغات وقوانينها من عند الله، وأن الألفاظ المولدة من وضع البشر، وليس هذا مهماً الآن، ولكن المهم أن الوضع بمعنى جعل الألفاظ بإزاء المعاني أمر لا بد منه حتى يتم التفاهم بين البشر، وذلك أن المتكلم يقوم بنقل المعاني التي قامت في ذهنه إلى السامع الذي يحمل هذه الألفاظ على مقابلها من المعاني التي سبق للواضع أن تواضع عليها، وبذلك الحمل من السامع تتم الوظيفة الثانية للغة، وهي وظيفة التلقي.

فتحصل عندنا ثلاث عمليات: الأولى الوضع، والثانية الاستعمال، والثالثة الحمل، حتى قال علماء أصول الفقه: إن الاستعمال من صفات المتكلم، والحمل من صفات السامع، والوضع قبلهما.

واللغة العربية لغة لها من الصفات والخصائص التي لا تختلف فيها عن اللغات الأخرى، وذلك على مستوى كل مستوى المفردات، والتراكيب.

فمن ذلك على مستوى المفردات: (الاشتقاق الكبير) وهو أن يكون بين اللفظين تناسب في اللفظ والمعنى دون الترتيب([53])، فإذا ذهبنا مثلا إلى حروف (ق و ل) نرى ابن جني رحمه الله يوقعها كلها على معنى الخفوف والحركة، على أي طريقة شكلت، إذ جميع التراكيب المحتملة من هذه الثلاث حروف مستعملة كلها لم يهمل منها شيء وهي: (ق و ل)، (ق ل و)، (و ق ل)، (و ل ق)، (ل ق و)، (ل و ق)([54]). وهذه خصيصة لم تتوفر للغة أخرى، مما يزيد من الحقل الدلالي للكلمة الواحدة، فالكلمة كالوعاء لما تحمله من المعاني، كذلك فإن العربية فيها من الخصائص الأخرى على مستوى المفردات كـ(الاشتراك اللفظي) والذي يعني أن تكون اللفظة المفردة موضوعة لمعنيين أو أكثر على سبيل البدل من غير ترجيح([55]) وذلك كلفظة (العين) يقول الزبيدي في تاج العروس: «أوصل معانيها الشيخ بهاء الدين السبكي في قصيدة له عينية مدح بها أخاه الشيخ جمال الدين الحسين إلى خمسة وثلاثين معنى وأولها:

هنيأ قد أقر الله عيني
 

فلا رمت العدا أهلي بعين([56])
 

وهي طويلة، وأوصلها المصنف رحمه الله تعالى في كتابه هذا إلى سبعة وأربعين مرتبة على الحروف، وفي كتاب البصائر ما ينيف على خمسين رتبها على حروف التهجي، وللنظر مجال المناقشة في بعض ما ذكره، قال: والمذكور في القرآن سبعة عشر، وقال شيخنا، رحمه الله تعالى: معاني العين زادت عن المائة، قصر المصنف، رحمه الله تعالى، عن استيفائها»([57]).

وهذا كله يجعل اللفظة العربية لفظة غنية بمعانيها، هذا كله بالإضافة إلى ما يتولد من المعاني بانضمام الكلمة إلى غيرها، من المجاز وغير ذلك من الأمور البلاغية التي تفيد معان مختلفة لا تتوفر للكلمة من حيث ذاتها بل بانضمامها إلى غيرها وعلى على مستوى (التراكيب).

فإذا ذهبنا إلى تطبيق ذلك على القرآن الكريم خاصة فيما يتعلق بالذات الإلهية كقوله تعالى: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ). فكلمة (وجه) لها من المعاني المتعددة التي وضعت لها والتي تختلف عن ما وضعت له كلمة Face مثلا في اللغة الإنجليزية؛ إذ كلمة (وجه) غنية بالمعاني التي قد تشترك كلمة Face معها، فيكون بينهما عموم وخصوص وجهي، باشتراكهما في معاني واختلاف كلمة (وجه) عنها في معان أخرى، فالوجه في العربية: محل السمع والبصر واللسان، ومستقبل كل شيء، ونفس الشيء، والوجه من الدهر أوله كقول الإنسان وجه النهار أي أوله، والوجه سيد القوم، والوجه الجاه، والوجه الجهة([58])، فإذا تمت ترجمة قوله تعالى  (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) ترجمة حرفية بوضع كلمة Face مكان وجه كما جاء في بعض الترجمات القرآنية الهذيلة، فنكون قد نسبنا لله سبحانه وتعالى معنى ظنيًّا من إحدى تلك المعاني يحيله العقل ولا تستطيع اللغة الأخرى بهذا التركيب أن تفيد تنزيها للمولى سبحانه وتعالى، بل قد يحدث زيادة معنى لم يرده القرآن الكريم وهنا يزيد الإنسان معنى بظن وقد مر معنا أن علم الكلام هو علم القطعي، وذات الأمر يجري على تبديل الكلمة العربية بكلمة عربية أخرى، وفي ذلك يقول حجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله:

«يجب على عموم الخلق الجمود على ألفاظ هذه الأخبار، والإمساك عن التصرف فيها من ستة أوجه: التفسير، والتأويل، والتصريف، والتفريع، والجمع، والتفريق.

الأول: التفسير:

وأعني به تبديل اللفظ بلغة أخرى تقوم مقامها في العربية أو معناها بالفارسية والتركية، بل لا يجوز النطق إلا باللفظ الوارد، لأن من الألفاظ العربية ما لا يوجد لها فارسية تطابقها.

ومنها: ما يوجد لها فارسية تطابقها لكن ما جرت عادة الفرس باستعارتها للمعاني التي جرت عادة العرب باستعارتها فيها.

ومنها ما يكون مشتركا في العربية ولا يكون في العجمية كذلك.

أما الأول: فمثاله: لفظ (الاستواء) فإنه ليس له في الفارسية لفظ مطابق يؤدي بين الفرس المعنى الذي يؤديه لفظ الاستواء بين العرب بحيث لا يشتمل على مزيد إيهام، إذ فارسيته أن يقال (راسْت بإِسْتاد).

وهذان لفظان: الأول: ينبئ عن انتصاب واستقامة فيما يتصور أن ينحني ويعوج، والثاني: ينبئ عن سكون فيما يتصور أن يتحرك ويضطرب، وإشعاره بهذه المعاني وإشارته إليها في العجمية أظهر من إشعار لفظ (الاستواء) وإشارته إليها، فإذا تفاوتا في الدلالة والإشعار.. لم يكن هذا مثل الأول.

وإنما يجوز تبديل اللفظ بمثله المرادف له، الذي لا يخالفه بوجه من الوجوه، لا بما يباينه ويخالفه ولو بأدنى شيء وأدقه وأخفاه.

ومثال الثاني: أن الإصبع تستعار في لسان العرب للنعمة؛ يقال: لفلان عند فلان إصبع؛ أي نعمة، ومعناها بالفارسية: (أنكُشْتَ) وما جرت عادة العجم بهذه الاستعارة، وتوسع العرب في التجوز والاستعارة أكثر من توسع العجم، بل لا نسبة لتوسع العرب إلى جمود العجم.

فإذا حسن إرادة المعنى المستعار له في العرب وسمج ذلك في العجم.. نفر القلب عما سمج، ومجه السمع ولم يمل إليه، فإذا تفاوتا.. لم يكن التفسير تبديلا بالمثل، بل بالخلاف، ولا يجوز التبديل إلا بالمثل.

ومثال الثالث: (لفظ العين) فإن من فسره إنما يفسره بأظهر معانيه، فيقول بالفارسية: ﭼشِم، وهو مشترك في لغة العرب بين العضو الباصر وعين الماء والذهب والشمس، وليس للفظ ﭼشِم هذا الاشتراك.

وكذلك لفظ الجنْب والوجه يقرب منه، ولأجل هذا ترى المنع من التبديل والاقتصار على العربية.

فإن قيل هذا التفاوت إن ادعيتموه في جميع الألفاظ.. فهو غير صحيح، إذ لا فرق بين قولك (خبز) و(نان)وبين قولك لحم و (كوشت) وإن اعترفت بأن ذلك في البعض.. فامنع من التبديل عند التفاوت، لا عند التماثل.

فالجواب: أن الحق أن هذا التفاوت في البعض لا في الكل، فلعل لفظ (اليد) ولفظ (دست) يتساويان في اللغتين في الاشتراك والاستعارة وسائر الأمور ولكن إذا انقسم إلى ما يجوز وإلى ما لا يجوز، وليس إدراك التمييز بينهما والوقوف على دقائق التفاوت جليا سهلا يسيرا على كافة الخلق، بل يكثر فيه الإشكال، ولا يتميز محل التفاوت عن محل التعادل، فنحن بين أن نحسم الباب احتياطا، إذ لا حاجة ولا ضرورة إلى التبديل، وبين أن نفتح الباب ونقحم عموم الخلق ورطة الخطر.

فليت شعري! أي الأمرين أحزم وأحوط والمتصرف فيه ذات الإله وصفاته؟!

وما عندي أن عاقلا متدينا لا يقر بأن هذا الأمر مخطر، وأن الخطر في الصفات الإلهية يجب اجتنابه.

كيف وقد أوجب الشرع على الموطوءة العدة لبراءة الرحم، والحذر من خلط الأنساب، احتياطا لحكم الولاية والوراثة وما يترتب على النسب؛ فقالوا مع ذلك: تجب العدة على العقيم والآيسة والصغيرة وعند العزل، لأن باطن الأرحام إنما يطلع عليها علام الغيوب، فإنه يعلم ما في الأرحام، فلو فتحنا باب النظر إلى التفصيل، كنا راكبين متن الخطر، فإيجاب العدة حيث لا علوق أهون من ركوب هذا الخطر.

فكما أن إيجاب العدة حكم شرعي، فتحريم تبديل العربية حكم شرعي، ثبت بالاجتهاد وترجيح طريق الأولى، ونعلم أن هذا الاحتياط في الخبر عن الله صفاته وعما أراده بألفاظ القرآن أهم وأولى من الاحتياط في العدة ومن كل ما احتاط الفقهاء فيه من هذا القبيل»([59]).

2- عدم التصريف:

ومعنى ذلك أن أهل السنة والجماعة منعوا إذا جاء نص في باب ذات الله تعالى وصفاته أن يتعامل معه على جهة التصريف على ما هو معلوم في علم الصرف، من اشتقاق اسم الفاعل وغيره، وذلك لأن تصريفات الكلمة تزيد في المعنى الذي دلت عليه الكلمة الأصلية،  وهذه الزيادة مظنونة، والظنيات لا محل لها في باب العقائد.

يقول الإمام الغزالي: «التصرف الثالث الذي يجب الإمساك عنه: التصريف:

ومعناه: أنه إذا ورد قوله تعالى (استوى) فلا ينبغي أن يقال: مستو ويستوي؛ لأن المعنى يجوز أن يختلف لأن دلالة قوله (هو مستو على العرش) على الاستقرار أظهر من قوله (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ)،  وكقوله (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ)، فإن هذا يدل على استواء قد انقضى من إقبال على خلقه، أو على تدبير المملكة بواسطته، ففي تغيير التصاريف ما يؤثر في تغيير الدلالات والاحتمالات، فليجتنب التصريف كما يجتنب الزيادة، فإن تحت التصريف نقصانا أو زيادة»([60]).

وقال الإمام الرازي: «يجب الاحتراز عن التصريف، فإذا ورد قولنا: (استوى) فلا ينبغي أن نقول: إنه مستو؛ لما ثبت في علم البيان أن اسم الفاعل يدل على كون المشتق منه متمكنا ثابتا مستقرا، أما لفظ الفعل فدلالته على هذا المعنى ضعيفة، والذي يؤكده أنه ورد في القرآن أنه تعالى علم العباد فقال: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ )، (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ) وعلمناه من لدنا علما(ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) ثم أجمعنا على أنه لا يجوز أن يقال لله تعالى: يا معلم، فكذا ههنا»([61]).

عدم الجمع بين المتفرقات.

وذلك كما يفعل المجسمة فيأتون بالكلمات المفردة مما جاءت النصوص التي ورد فيها المتشابه على حدة، وهذا ما نجم إلا عن جهل بالعربية، فإن الكلمة تفيد مع كلمة ما معنى، لا تفيده إذا ضمت إلى أخرى، وهذا الفعل حدا بالبعض إلى أن قال: أثبت لكم كل شيء إلا الفرج واللحية

يقول الإمام الغزالي: ولقد بعد التوفيق مَن صنَّف كتابًا في جمع هذه الأخبار خاصة، ورسم في كل عضو بابا فقال: باب في إثبات الرأس، وباب في إثبات اليد، وباب في إثبات العين... إلى غير ذلك، فإن هذه كلمات مفرقة صدرت عن رسول الله ﷺ في أوقات متفرقة متباعدة، اعتمادا على قرائن مختلفة يفهم السامعمون معها معاني صحيحة.

فإذا ذكرت مجموعة على مثال خلق الإنسان.. صار جمع تلك المتفرقات في السمع دفعة واحدة قرينة عظيمة في تأكيد الظاهر وإيهام التشبيه، وصار الإشكال في أن رسول الله ﷺ لم نطق بما يوهم خلاف الحق، أعظم في النفس وأوقع.

بل الكلمة الواحدة الفردة يتطرق إليها الاحتمال، فإذا انظم إليها ثانية وثالثة ورابعة من جنسها وصار متواليا.. ضعف الاحتمال بالإضافة إلى الجملة.

ولذلك يحصل من الظن بقول مخبرين وثلاثة ما لا يحصل بقول الواحد، بل يحصل من العلم القطعي بخبر التواتر ما لا يحصل بالآحاد، ويحصل من العلم القطعي باجتماع القرائن ما لا يحصل بالآحاد، وكل ذلك نتيجة الاجتماع؛ إذ يتطرق الاحتمال إلى قول كل عدل وإلى كل واحدة من القرائن؛ فإذا اجتمع انقطع الاحتمال أو ضعف، فلذلك لا يجوز جمع المتفرقات»([62]).

وقال الإمام الرازي: «أنه لا يجوز جمع الألفاظ المتشابهة، وذلك لأن التلفظ باللفظة الواحدة أو باللفظتين قد يحمل على التكلم بالمجاز، فأما التكثير منها فقد يبعد حمله على التكلم بالمجاز، لأن الاستقراء دل على أن الغالب على الكلام التكلم بالحقيقة، فإذا جمعنا الألفاظ المتشابهة ورويناها دفعة واحدة أوهمت كثرتها أن المراد منها ظواهرها، فكان ذلك الجمع سببا لإيهام زيادة الباطل، وأنه لا يجوز، والله أعلم»([63]).

وهذا هو الذي شنعه ابن الجوزي رحمه الله على مجسمة الحنابلة بقوله: « اعلم وفقك الله تعالى أني لما تتبعت مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى رأيته رجلا كبير القدر في العلوم قد بالغ رحمة الله عليه في النظر في علوم الفقه ومذاهب القدماء حتى لا تأتي مسألة إلا وله فيها نص أو تنبيه إلا أنه على طريق السلف فلم يصنف إلا المنقول فرأيت مذهبه خاليا من التصانيف التي كثر جنسها عند الخصوم فصنفت تفاسير مطولة منها المغنى مجلدات وزاد المسير وتذكرة الأريب وغير ذلك  وفي الحديث كتبا منها جامع المسانيد والحدائق ونفي النقل وكتبا كثيرة في الجرح والتعديل وما رأيت لهم تعليقة في الخلاف إلا أن القاضي أبا يعلى قال كنت أقول ما لأهل المذاهب يذكرون الخلاف مع خصومهم ولا يذكرون أحمد ثم عذرتهم إذ ليس لنا تعليقة في الفقه  قال فصنفت لهم تعليقة  قلت وتعليقته لم يحقق فيها بيان الصحة والطعن في المردود وذكر فيها أقيسة طردية ورأيت من يلقي الدرس من أصحابنا من يفزع إلى تعليقة الإصطلام أو تعليقة أسعد أو تعليقة العاملي أو تعليقة الشريفة ويستعير منها استعارات فصنفت لهم تعاليق منها كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف ومنها جنة النظر وجنة الفطر ومنها عمدة الدلائل في مشهور المسائل ثم رأيت جمع أحاديث التعليق التي يحتج بها أهل المذاهب وبينت تصحيح الصحيح وطعن المطعون فيه وعملت كتابا في المذاهب أدخلتها فيه وسميته الباز الأشهب المنقض على مخالفي المذهب وصنفت في الفروع كتاب المذهب في المذهب وكتاب مسبوك الذهب وكتاب البلغة وكتاب منهاج الوصول إلى علم الأصول وقد بلغت مصنفاتي مائتين وخمسين مصنفا

 ورأيت من أصحابنا من تكلم في الأصول بما لا يصلح وانتدب للتصنيف ثلاثة أبو عبد الله بن حامد وصاحبه القاضي وابن الزاغوني فصنفوا كتبا شانوا بها المذهب ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام فحملوا الصفات على مقتضى الحس فسمعوا أن الله تعالى خلق آدم على صورته فأثبتوا له صورة ووجها زائدا على الذات وعينين وفما ولهوات وأضراسا وأضواء لوجهه هي السبحات ويدين وأصابع وكفا وخنصرا وإبهاما وصدرا وفخذا وساقين ورجلين وقالوا ما سمعنا بذكر الرأس وقالوا يجوز أن يمس ويمس ويدني العبد من ذاته  وقال بعضهم ويتنفس  ثم يرضون العوام بقولهم لا كما يعقل وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات فسموها بالصفات تسمية مبتدعة لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى ولا إلى إلغاء ما يوجبه الظاهر من سمات الحدوث ولم يقنعوا بأن يقولوا صفة فعل حتى قالوا صفة ذات ثم لما أثبتوا أنها صفات ذات قالوا لا نحملها على توجيه اللغة مثل يد على نعمة وقدرة ومجيء وإتيان على معنى بر ولطف وساق على شدة بل قالوا نحملها على ظواهرها المتعارفة والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين والشيء إنما يحمل على حقيقته إذا أمكن ثم يتحرجون من التشبيه ويأنفون من إضافته إليهم ويقولون نحن أهل السنة وكلامهم صريح في التشبيه وقد تبعهم خلق من العوام»([64]).

عدم التفريق بين المجتمعات:

يقول الإمام الغزالي: «فكما لا يجمع بين متفرقه.. لا يفرق بين مجتمعه؛ فإن كل كلمة سابقة على كلمة أو لاحقة له مؤثرة في تفهيم معناه ومرجحة الاحتمال الضعيف فيه، فإذا فرقت وفصلت، سقطت دلالتها.

مثاله: قوله تعالى (ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ) لا يسلط على أن يقول القائل (هو فوق) مطلقا؛ لأنه إذا ذكر (القاهر) قبله.. ظهرت دلالة الفوق على الفوقية التي للقاهر مع المقهور وهي فوقية الرتبة، ولفظ القاهر يدل عليه.

بل لا يجوز أن يقول: (وهو القاهر فوق غيره) بل ينبغي أن يقول: (فوق عباده) لأن ذكر العبودية في وصف من الله تعالى فوقه يؤكد احتمال فوقية السيادة؛ إذ يحسن أن تقول: السيد فوق عبده، وإن كان لا يحسن أن تقول: زيد فوق عمرو. قبل أن تبين تفاوتهما فيم معنى السيادة والعبودية أو غلبة القهر، أو نفوذ الأمر بالسلطنة أو بالأبوة أو بالزوجية»([65]).

وقال الرازي: « كما لا يجوز الجمع بين متفرقه فكذلك لا يجوز الفرق بين مجتمعه، فقوله تعالى (ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ) لا يدل على جواز أن يقال إنه تعالى فوق مطلقا؛ لأنه تعالى لما ذكر القاهر قبله ظهر أن المراد بهذه الفوقية الفوقية بمعنى القهر، لا بمعنى الجهة، بل لا يجوز أن يقال: وهو القاهر فوق غيره، بل ينبغي أن يقال: فوق عباده؛ لأن ذكر العبودية عند وصف الله تعالى بالفوقية يدل على أن المراد من تلك الفوقية فوقية السيادة والإلهية.

واعلم أن الله تعالى لم يذكر لفظة من المتشابهات إلا وقرن بها قرينة تدل على زوال الوهم والباطل.

مثاله: أنه تعالى لما قال (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ)   ذكره بعده (ﮮ ﮯ)   فأضاف النور إلى نفسه، ولو كان هو تعالى نفس النور لما أضافه إلى نفسه لأن إضافة الشيء إلى نفسه ممتنعة.

ولما قال تعالى: الرحمن على العرش استوى، ذكره قبله تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى، وبعده قوله (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ )  وقد ذكرنا هاتين الآيتين تدلان على أن كل ما كان مختصا بجهة فوق فإنه مخلوق محدث

فثبت بما ذكرنا أن الطريق في هذه المتشابهات الجمود على تلك الألفاظ وعدم التصرف فيها بوجه من الوجوه والله أعلم»([66]).

عدم قياس الغائب على الشاهد

من أساس منهج أهل السنة والجماعة عدم الاستناد إلى المحسوس في علم العقيدة، وذلك لأن القياس مظنون في نتيجته، وكما قلنا قبلا الظن لا محل له في باب العقائد، وهذا المعلم الهام هو الذي فرق بين أهل السنة وبين المجسمة على مدى العصور، فأهل السنة علموا أن الله سبحانه وتعالى (ﭡ ﭢ ﭣ ) قال الطبري: «المعنى: ليس كشيء، وليس مثله شيء، لأنه لا مثْلَ له»([67])، ولذا فقد قال العلماء أنه ينبغي لمن أراد أن يدخل في علم الإلهيات أن يستحدث لنفسه فطرة جديدة، بمعنى أنه لا مجال للقياس، والعجز عن الإدراك إدراك، وهذا ليس منهج أهل السنة والجماعة فقط بل هو منهج العقلاء العارفين ما يليق بمقام الألوهية!

قال الفخر الرازي- وهو يشيد أساس التقديس: «ونختم هذا الباب: بما روي عن أرسطوطاليس أنه كتب في أول كتابه في الإلهيات: من أراد أن يشرع في الإلهيات؛ فليستحدث لنفسه فطرة أخرى، فالإنسان- كما يتابع- إذا تأمل في أحوال الأجرام السفلية والعلوية، وتأمل في صفاتها فذلك له قانون.

وإذا أراد أن ينتقل منها إلى معرفة الربوبية وجب أن يستحدث له فطرة أخرى وعقلا آخر، بخلاف العقل الذي اهتدى به إلى معرفة الجسمانيات»([68]).

ومن هنا فقد استندت قضية التنزيه عند الأشاعرة على بحوث ضافية متأنية في نظرية المعرفة، جاسوا فيها خلال النفس البشرية، وخلال قواها الإدراكية المختلفة، ووضعوا أيديهم على ما يمكننا تسميته بـ (الصعوبات النفسية) التي قد تعكر صفو التنزيه، وتحول دون نقائه.

فإمام الحرمين مثلًا يقول في النظامية عن المشبهة: «إنهم يطلبون ربهم في المحسوسات، وما يتشكل في الأوهام، ويتقدر في مجاري الوساوس وخواطر الهواجس، وهذا حيد بالكلية عن صفات الإلهية. فأي فرق بين هؤلاء وبين من يعبد بعض الأجرام العلوية؛ إنه لو اجتمع الأولون والآخرون على أن يدركوا الروح- وهي خلق الله تعالى- بهذا المسلك؛ لم يجدوا إلى ذلك سبيلا، فإنه معقول غير محسوس، وقد قال تعالى(ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) »([69]). ويقول إمام الحرمين أيضا في موضع آخر: «إن أحدا من البشر لو أراد أن يتصور الأرض برحابها برا وبحرا؛ لما تمثل منها إلا قدرا صغيرا ومبلغا يسيرا، وإن أحدا من الأحياء لو فكر في حياته، وأراد أن يمثلها في فكره، لتمثلت له الحياة شكلا متشكلا. وهكذا تزل الأوهام عن كثير من المخلوقات، فكيف السبيل إلى أن ندرك بها الرب تعالى الذي لا يشبهه شيء ولا يشبه شيئا؟! فمن صفة الإله تقدسه عن التصور، فكيف يستقيم على منهاج الحق من يطلب معرفة من لا يتصور بالتصور؟!»([70]).

ويقول الآمدي- متابعا نفس المعنى: «إنه جل وتعالى لا ينبغي أن يكون مقيسا بالأشباه والنظائر، وما جاء التشبيه إلا من جهة الوهم، بإعطاء الغائب حكم الشاهد، والحكم على غير المحسوس بما حكم به على المحسوس، فاللبيب إذن من ترك الوهم والخيال جانبا، ولم يتخذ غير البرهان والدليل صاحبا»([71])([72]).

ويقول الإمام الغزالي رحمه الله في إلجام العوام عن امتناع قياس الغائب على الشاهد في باب ذات الله وصفاته:

التصرف الرابع الذي يجب الإمساك عنه القياس والتفريغ مثل: أن يرد لفظ اليد فلا يجوز إثبات الساعد والعضد والكف مصيرا إلى أن هذا من لوازم اليد، وإذا ورد الأصبع لم يجز ذكر الأنملة كما لا يجوز ذكر اللحم والعظم والعصب، وإن كانت اليد المشهورة لا تنفكّ عنه وأبعد من هذه الزيادة إثبات الرجل عند ورود اليد، وإثبات الفم عند ورود العين أو عند ورود الضحك، وإثبات الأذن والعين عند ورود السمع والبصر، وكل ذلك محال وكذب وزيادة، وقد يتجاسر بعض الحمقى من المشبهة الحشوية فلذلك ذكرناه([73]).

بقي أن نرد على ما ذكره الملاحدة من الشبه المتعلقة بهذه المسألة يقول الشيخ الدلجي: «الباب الرابع: فيما تمسكوا به من حججهم العقلية في نفي حقيقة المعرفة:

فمنها قولهم- وهو من معظم شببهم- إن عقولنا وأوهامنا أعراض حادثة متناهية، والقديم تعالى لا نهاية لذاته، ولا غاية لصفاته، والحادث كيف يبلغ إلى معرفة القديم، والمتناهي كيف ينتهي إلى ما لا نهاية له؟! وقد قال الله تعالى:   ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾[النجم:42] وان إلى ربك المنتهى. أخبر بأن منتهى الأشياء إليه، والعلوم من جملتها، وينشدون قول الشاعر:

أيحيط ما يفنى بما لا ينفد

ثم يقولون في تنجيح كلامهم: إنا لا نحيط علما بحقيقة جناح بعوضة، فلا ندي أهو من اللحم، أم من العظم، أم من الجلد، وهل فيه حس؟! وكيف قبضها وبسطها، ولونها ووزنها، وهي أقل خلق الله تعالى!

فإذا عجزنا عن معرفة حقيقة أقل الخلق، كان عجزنا عن معرفة حقيقة الخالق ومعرفة حقيقة جلاله وكمال عظمته أحق، وذلك العجز، هو عين المعرفة به تعالى.

والجواب عنه:

هو أن العلم لا يستتبع المعلوم، بل يتبع المعلوم ويتعلق على ما هو عليه به، بأن كان ذلك المعلوم ذا نهاية، عرفه بتناهيه، وإن كان مقدسا عن النهاية- كذات الله القديم تعالى- يعرفه بنفي تناهيه، ألا ترى أنه تعالى يعرف ذوي النهايات ولا نهاية لعلمه، فلذلك يجوز أن يعرفه العبد بلا نهاية، والعارف وعلمه متناهيان.

ثم المغالطة فيه هي: أنا إذا قلنا يعرفه بلا نهاية، يظن منه أنا ندعي أن علمنا الحادث أحاط بنهاية ما لا نهاية له! وهذا بين الاستحالة، ولذلك يشنعون علينا!

ولسنا ندعي الإحاطة به البتة، وإنما ندعي أنا نعرفه بعدم التناهي، وهذا كما نعلم قطعا أن تضعيف الواحد اثنان، ثم تضعيف الاثنين أربعة، ثم تضعيف الأربعة ثمانية، هكذا إلى ما لا نهاية له، فنستيقن أن تضاعيف الأعداد لا نهاية لها في العقل، وهذه معرفة لنا بذلك حقيقة، ولكنا لا نحيط بتناهيها؛ لاستحالة نهايتها، ثم عجزنا عن تلك الإحاطة لا يخرجنا عن كوننا عالمين بها حقيقة، وهذا غاية البيان في حل هذا الإشكال فافهمه.

وأما فصل جناح البعوضة وعجزنا عن حقيقة معرفتنا به:

فاعلم أن من طلب معرفة الله سبحانه من طريق معرفة جناح البعوضة، فقد ضل ضلالا بعيدا، وذلك لأنها في نفسها تقبل إحاطة العلم بها، إلا أن الله تعالى لم يقدرنا على معرفة جميع صفاتها، كتقسيم تفاصيلها وجملها، والاطلاع على بواطنها ودقائق حقائقها، فالمستبد بعلم ذلك هو خالقها اللطيف الخبير.

وإنما يقدر على معرفة ما أقدرنا الله عليه، كمعرفة شكلها، وصورتها وخفتها وسرعة حركتها.

وطريق معرفة ما علمنا منه وما لم نعلمه هو من طلب الكيفية والكمية والماهية والإحاطة بذلك.

وطريق معرفة الله سبحانه خارج عن هذه الطرق كما بيناه من قبل.

وأما الآية فيجوز أن يكون معناها أن منتهى المعارف إليه، ولا تتجاوزه، إذ لا شيء فوقه في الرتبة فتسند الإلهية إليه.

ومنها قولهم: إن العلم بوجود الشيء مطلقا، غير، والعلم بحقيقته غير فإنا ربما نعلم مثلا وجود شخص من أولاد العباس، وهو اليوم خليفة بغداد، ونعلم أنه حي عالم قادر، إلى معظم الصفات ولكنا لا نعرف حقيقته، حتى لو مر بنا، لا نعرفه.

وأيضا: إنا نعلم وجود سمعنا وبصرنا وشمنا وذوقنا، ولا ندرك حقيقتها، وندرك وجود الآلام واللذات، والخجل والوجل، والغم والسرور، والحب والبغض، والسكر والصحو، والنوم واليقظة، والحسد والشهوة إلى غير ذلك من صفات الباطن ولا ندرك حقائقها البتة.

الجواب عنه:

أما فصل الخليفة: فاعلم أن معرفة الخليفة وغيره من المخلوقين تخالف معرفة الله سحبانه من وجوه كثيرة؛ لأن الخليفة شخص له أجناس، ولجنسه أنواع، ولنوعه أشخاص، فيسأل حينئذ عن ماهيته؟ فيقال آدمي، ويسأل عن أي قبيلة؟ فيقال من قريش من أولاد العباس، ويسأل عن كيفيته فيقال طويل أو قصير، سمين أو هزيل، أشقر أو أسمر أو أبيض، إلى غير ذلك من الحلى والصفات التي يتميز بها عن أشباهه، فإنه تارة يشتبه بأجناسه، وتارة بأنواعه، وتارة بإخوته وبني عمه الذين لا يمتاز عنهم إلا بدقائق الحلى وخصائص الصفات، فمعرفته من هذه الوجوه وغيرها تفارق معرفة الله سبحانه لأن الله تعالى بذاته وصفاته مباين من جميع مخلوقاته، فإذا نفيت عنه خصائص المخلوقات وأثبت له صفات الإلهية، فقد عرفته حق معرفته.

ثم إن الخليفة لو وصف شخصه لإنسان بجميع صفاته وحلاه الجليلة منها والدقيقة بحيث لا يهمل منها شيء، لأمكن لذلك الإنسان أن يحضر صورته في خياله، فإذا رآه، لا شك يعرفه، كما نقرأ في الأخبار أن جماعة من اليهود والنصارى وجدوا صفات النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم عرفوه، فبعضهم آمنوا، وبعضهم كفروا حسدا من عند أنفسهم كما قال تعالى  ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِه﴾[البقرة:89] فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.

وكذلك لما بعث صلى الله عليه وسلم سمع طائفة في نواحي العرب بمجيئه عليه السلام، واستوصفوه من الذين أبصروه، فوصفوه لهم، فلما جاؤوا إليه وجدوه بين الأصحاب عرفوه في الحال.

كما ورد في الأخبار: أن فلانا لما وقع بصره على رسول الله ﷺ قال أشهد أنك رسول الله.

وأن فلانا قال: ليس هذا بوجه كذاب، إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا الباب.

وأما قولهم: إنا لا ندرك حقيقة السمع والبصر، والراحة والألم، والخجل والوجل، وغير ذلك من معاني الباطن:

فاعلم أن هذا القائل إنما وقع إشكاله من حيث إنه اعتقد أن ما لا يصوره الخيال ولا يقدره الفكر، لا تعلم حقيقته،، فلما تفكر في معرفة الألم واللذة مثلا، عجز عن أن يدرك صورتهما في خياله، أو يعرف مقدار كميتها في فكره، ظن أنه لا يعرف حقيقتهما!

وهذه مغلطة عظيمة، وأكثر من اعتقد أن الله تعالى لا يعرف حقيقة، إنما وقعت شبهتهم من هذا الوجه.

وبيان ذلك والكشف عنه هو:

أن التصوير والتقدير إنما يكون للأجسام فحسب، وههذه الإدراكات الباطنة من الخجل والوجل واللذة والألم والسرور والغم وغيرها، لا صورة لها فيصورها الخيال، لأنها معان وأعراض، وإنما يدرك وجودها والتمييز بين أغبارها وأضدادها، بالضرورة، وتدرك حقائقها بالعقل، إذ قد استخرج لكل معنى منها حد وحقيقة في كتب الحدود، ثم لو خلق لنا إدراكها؛ لأدركناها بالبصر، لكونها موجودة، وذلك الإدراك أيضا لا يقتضي صورها، بل إدراك لها على ما هي عليه من غير تصوير وتشكيك.

ومنها قولهم: إن الله تعالى إنما طلب منا الإيمان المطلق، ولم يكلفنا الاطلاع على حقيقة المعرفة فقال جل جلاله  ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾[النساء:136] يا أيها لاذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي أنزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل

وقال تعالى  ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِه﴾ [البقرة:285] آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله.

فلما صح إيماننا بوجود الملائكة على الإطلاق دون الاطلاع على طبقاتهم وأعدادهم وهيئاتهم، وصح إيماننا بالكتب المنزلة دون المعرفة بجميع آياتها وألفاظها ومعانيها حرفا حرفا، وصح إيماننا بالرسل مطلقا دون معرفة أعدادهم وهيئاتهم وحقائقهم في أنفسهم وكيفية معجزاتهم، كذلك يصح إيماننا بالله تعالى إذا قطعنا بوجوده ووجود صفاته المنزهة عن صفات الخلق، دون الاطلاع على حقائقها والإحاطة بها.

الجواب عنهم قريب من الأجوبة المتقدمة، والنكتة فيه هي:

أن معرفة الله تعالى بخلاف معرفة الملائكة والرسل والكتب المنزلة، لأن تلك المعارف خبرية؛ فإنا لم نشاهد تكليم الله جبريل وموسى عليهما السلام.

وإنما بلغنا ذلك الخبر، وعلمنا أن القرآن الذي نقرأه في المصاحف هو كلام الله المنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بطريق التواتر، وكذلك لم نشاهد الملائكة والرسل عيانا، ولا وجدنا إلى معرفتهم من الدلائل العقلية سبيلا، فوجب لذلك علينا الإيمان بهم عن ظهر الغيب كما جاء.

فأما معرفة الله تعالى، فبخلاف ذلك؛ إذ لا تصح من طريق الخبر؛ لأن تلك الأشياء إنما تثبت بأخباره تعالى، فإذا كان أيضا وجوده ثابتا بالخبر، انحل رباط المعارف كلها، وبطل التوحيد وتحتم التقليد، وعبد كل أحد ما يريد.

فإذا صحأن معرفة الله سبحانه وتعالى خارجة من طريق معرفة الملائكة والرسل والكتب المنزلة إذ طريقها عقلي نظري، وطريق تلك الأشياء نقلي خبري فإذا لم يعرفه العبد بحقائق صفاته الواجبة عقلا، كان متبلدا في المعرفة حيرة وجهلا!

ومنها دعوى بعضهم أنه لا يجوز لأحد أن يقول إن الله تعالى يعرف بالكمال؛ لأن الكمال في مقابلته النقصان، فمن استحال نقصه استحال كماله، ولم يكن الله ناقصا فكمل.

الجواب:

يقال لهم: إنما يستحيل على الله تعالى ما يناقض صفات الإلهية، كالنقص والجهل والعجز والصغر، وأما الكمال: فهو ما توجبه الإلهية ولا تضاده؛ كالجلال والعظمة والجمال والكبرياء والعزة والجبروت وغير ذلك، فيجب أن يوصف به الله تعالى كما يوصف بهذه الصفات وإن كانت لها أضداد تنافي الإلهية.

فهذه معظم ما تمسكوا به نفاة المعرفة على الحقيقة من دعاويهم وشبههم»([74]).

«ونختم الباب بسؤال لهم عظيم، وهو أصعب ما يوردونه وذلك قولهم:

إن لكلٍّ حقيقة كما جاء في الحديث وأنتم تزعمون أنا عرفنا الإله سبحانه حق معرفته، فأخبرونا ما حقيقة الإله إن عرفتموه بالحقيقة كما زعمتم؟

والجواب عنه: ما ذكره الشيخ الإمام أبو القاسم الأنصاري في كتابه المعروف بالغرر والدرر فقال رضي الله عنه:

إن عنيتم بالحقيقة الثبوت والوجود، فهو سبحانه موجود أزلي مقدس عن الأقدار والكيفيات الآيلة إلى التخصيص بالأقدار والنهايات، متعال عما لأجله افقتر إليه الحوادث، له الصفات العلى والأسماء الحسنى، التي هي مدلولات الأفعال ونعوت الجلال ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾[الروم:27].

وإن عنيتم بالحقيقة البحث عن النوع والجنس فلا هو نوع لجنس ولا جنس لنوع، لا يناسب الخليقة ولا يناسبه الخليقة، ولا يتاخم موجودا ولا يتاخمه موجود.

وإن عنيتم بالحقيقة ما يتعين به المحقق فيتعين ذاته وصفاته لعقول الطالبين.

ثم لا معنى للحقيقة سوى الوجود، وليس يصح قول من قال أعرف الوجود دون الحقيقة، فالحقيقة إنما هو المحقق، والوجود المعين هو الحقيقة والمحقق، فإن الوجود المطلق يشتمل الموجودات في ظن مثبتي الأحوال، والحقيقة تختص بالمحقق.

فإن قالوا: إنا نبحث عن الخاصية التي تميز ذاته تعالى عن غيرها؟

قلنا: قال بعض العقلاء: الذوات تتميز عن الإله، والإله يتعالى عن الاتصاف بالتميز عن غيره، لاستحالة التناهي عليه، وإنما تتميز الذات عن الذات، بالأقدار والأبعاد والنهايات وانحياز البعض عن البعض، وهذا لا بأس به.

ولو قال قائل: ذاته سبحانه تتميز للعقول دون الأوهام، لم يكن مبعدا.

وقد أثبت الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني لله سبحانه كونا يوجب له التقدس عن الأحياز.

وأشار بعض الناس إلى إثبات بينونة قديمة.

وقال القاضي رحمه الله تعالى: لله أخص وصف هو من الصفات النفسية النازلة منزلة الأحوال للمحدثين، يدرك الوجود عليها، وهل يعلم عند إدراك الوجود؟ له تردد فيه.

وقال ضرار من المعتزلة: لله تعالى ماهية تدرك بحاسة سادسة.

هذه مقامات الطالبين ومواقف السالكين طريق الحق، وقد قال رسول الله ﷺ «تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق» وقال النبي ﷺ: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» وجاء في وصف علي رضي الله عنه: أنه الممسوس في ذات الله.

وكان الخليل صلوات الله عليه في مقام الطلب، فكان ينظر في الأجرام العلوية ويرجح بعضها على بعض من الأفول والزوال، وكان يقول في اثناء الطلب ﴿لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾[الأنعام:77].

وهذا إنما قال بعدما حسم عروق الطمع، وعلم أن الصمدية تمتنع عن جولان الفكر وتتقدس عن تصرف الوهم، وتيقن أنه إن كان للعقل وصول؛ فليس إلا بتوفيق الله تعالى وتأييده، الذي هو واهب العقل، فقال ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا﴾[الأنعام:79] وعلم أن قصارى نظر الناظرين وطلب الطالبين الوقوف على احتياج المخلوقات وافتقارها إلى الله، وهو سبحانه ظاهر بآياته، متجل للعقول ببراهينه وبيناته، باطن بحقيقة صفاته وذاته»([75]).

هذا وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

 

([1]) تاج العروس من جواهر القاموس (باب الباء فصل الراء).

([2]) مقاييس اللغة (كتاب الراء، باب الراء وما معها في الثنائي والمطابق).

([3]) مقاييس اللغة: (كتاب الهمزة، باب الهمزة واللام وما يثلثهما).

([4]) طبقات الشافعية الكبرى (3/365) للإمام تاج الدين السبكي، تحقيق: د. محمود محمد الطناحي- د. عبدالفتاح محمد الحلو، دار هجر، الطبعة الثانية، 1413هـ.

([5]) طبقات الشافعية الكبرى (3/367).

([6]) معيد النعم ومبيد النقم (ص75) للإمام تاج الدين السبكي- مكتبة الخانجي- القاهرة- 1993م.

([7]) رد المحتار على الدر المختار (1/49) لخاتمة المحققين العلامة محمد أمين الشهير بابن عابدين- دار الفكر- بيروت- الطبعة الثانية- 1992م.

([8]) متن العقيدة الطحاوية (3 إلى 6) للإمام أبي جعفرٍ الطحاوي- المكتب الإسلامي- بيروت- الطبعة الثانية- 1414هـ.

([9]) متن العقيدة الطحاوية (ص7).

([10]) تحفة المريد على جوهرة التوحيد (ص38).

([11]) معيد النعم ومبيد النقم (ص75) للإمام تاج الدين السبكي، مكتبة الخانجي- القاهرة، 1993م.

([12]) تقدم تخريجه.

([13]) تقدم تخريجه.

([14]) الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب (2/95- 96) للشيخ برهان الدين ابن فرحون المالكي، تحقيق وتعليق: د.محمد الأحمدي أبو النور، دار التراث- القاهرة.

([15]) مجموع الفتاوى (3/102).

([16]) معالم التنزيل في تفسير القرآن (4/90) للإمام أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي، تحقيق: عبدالرزاق المهدي، دار إحياء التراث العربي- بيروت، الطبعة الأولى، 1420هـ. وهذا الخبر أخرجه عبدالرزاق في تفسيره (2/173) عن معمر في قوله:﴿ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ﴾ [الزمر: 36] قال: قال لي رجل: «إنهم قالوا للنبي ﷺ: «لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنأمرنها فلتخبلنك».

([17]) أخرجه الحاكم في مستدركه (2/429) وقال: «صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» ووافقه الذهبي.

([18]) جزء من حديث أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة أحد (4043) من حديث البراء بن عازب.

([19]) أخرجه الطبراني في الكبير (20/369)، والحاكم في مستدركه (3/ 451) وقال: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه» ووافقه الذهبي.

([20]) أخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب في المسألة في القبر وعذاب القبر (4753)، والترمذي في كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة إبراهيم عليه السلام (3120) من حديث البراء بن عازب مرفوعًا. وقال الترمذي: «حسن صحيح».

([21]) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب بيان ما أعده الله تعالى للمجاهد في الجنة من الدرجات (1884).

([22]) أخرجه الطيالسي في مسنده (241)، وأحمد في مسنده (1/ 435)، والدارمي في سننه (208)، والبزار في مسنده (1718)، والنسائي في الكبرى (11109)، وابن حبان في صحيحه (6)، والحاكم في مستدركه (2/ 318). وقال الحاكم: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه» ووافقه الذهبي.

([23]) انظر: المصباح المنير (ح ك م).

([24]) التعريفات (ص 92). وكشاف اصطلاحات العلوم والفنون (1/ 693)

([25]) انظر: حاشية الدسوقي على أم البراهين (ص 39) المطبعة العامرة، 1290هـ. الحكم الشرعي عند الأصوليين (ص 45- 49) أ.د علي جمعة، دار السلام للطباعة والنشر.

([26]) انظر: شرح الخريدة للدردير (ص 20).

([27]) انظر: شرح الخريدة للدردير (ص 21).

([28]) انظر: حاشية الدسوقي على شرح أم البراهين (ص 54، 55).

([29]) انظر: نور الحقيقة ونور الحديقة (ص 108، 109).

([30]) أخرجه مسلم  في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود (486).

([31]) انظر: نور الحقيقة ونور الحديقة (ص 117- 120).

 ([32])المطالب العالية في العلم الإلهي للرازي (1/ 41- 52).

([33]) نور الحقيقة ونور الحديقة (ص 218، 219).

 ([34]) نور الحقيقة (ص 220- 223).

 ([35]) نور الحقيقة (ص 223، 224).

 ([36]) المرجع السابق (ص 226، 227).

([37]) المرجع السابق (ص 227، 228).

 ([38]) انظر: نور الحقيقة (ص 242).

([39]) نور الحقيقة (ص 158).

([40]) انظر: نور الحقيقة (ص 141- 149).

([41]) المرجع السابق (ص 150).

([42]) انظر: موقف السلف من المتشابها بين المثبتين والمؤوليين (ص 12- 15) د. عبد الفضيل القوصي، دار البصائر، 2004م

([43])موقف السلف من المتشابها بين المثبتين والمؤوليين (ص 17).

([44]) المرجع السابق (ص 19).

([45]) انظر: ذم التأويل (ص 43) لابن قدامة المقدسي، تحقيق: بدر بن عبدالله بدر، الدار السلفية، الكويت، الطبعة الأولى، 1406هـ.

([46]) انظر: الشامل في أصول الدين (ص 512) لإمام الحرمين، تحقيق: علي سامي النشار وآخرون، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1969م.

([47]) مجالس ابن الجوزي في المتشابه من الآيات القرآنية (ص 12) تحقيق: ناصر محمدي محمد جاد، دار البخاري، القاهرة، 2002م- 1422هـ.

([48]) انظر الأسماء والصفات للبيهقي (2/186).

([49]) انظر: أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري ( 3 / 1921 ).

([50])  فتح الباري ( 8 / 505 ).

([51])الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 173).

([52])  البيان لما يشغل الأذهان (1/95).

([53]) التعريفات (ص 27) للجرجاني، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1403هـ.

([54]) انظر: الخصائص (1/ 5) لابن جني، تحقيق: محمد علي النجار، دار الكتب المصرية.

([55]) انظر: كشاف اصطلاحات العلوم والفنون (1/ 202).

([56]) انظر: طبقات الشافعية الكبرى (9/ 416) لتاج الدين السبكي، تحقيق: د. محمود الطناحي، وعبد الفتاح الحلو، دار هجر، الطبعة الثانية، 1413هـ.

([57]) انظر: تاج العروس (باب النون، فصل العين مع الياء).

([58]) انظر: تاج العروس (باب الهاء، فصل الواو مع الجيم).

([59]) انظر: إلجام العوام عن علم الكلام (ص 66- 69).

([60]) المرجع السابق (ص 84).

([61]) أساس التقديس (ص 329).

([62]) إلجام العوام عن علم الكلام (ص 85).

([63]) أساس التقديس (ص 340).

([64]) دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه (ص 97).

([65]) إلجام العوام (ص 84).

([66]) تأسيس التقديس (ص 340).

([67]) انظر: تفسير الطبري (16/ 470).

([68]) أساس التقديس (ص 81، 82).

([69]) انظر: العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية (ص 22) لإمام الحرمين، تحقيق: الشيخ محمد زاهد الكوثري، المكتبة الأزهرية للتراث، 1412هـ- 1992م.

([70]) الشامل لإمام الحرمين (ص 527، 528).

([71]) غاية المرام في علم الكلام (ص 185، 186).

([72]) موقف السلف من المتشابهات بين المثبتين والمؤولين (ص 9- 11).

([73]) إلجام العوام (ص 84) .

([74]) نور الحقيقة (ص 199- 205).

([75]) نور الحقيقة (ص 205، 212).

إن المحور الأهم لفكر الخوارج هو اتهام المسلمين بعدم تطبيق شرع الله سبحانه وتعالى وأوامره، ظهر ذلك مع أول خارجي وهو الأقرع بن حابس، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: بينما نحن عند رسول الله ﷺ وهو يقسم قسمًا، أتاه ذو الخويصرة، وهو رجل من بني تميم، فقال: يا رسول الله اعدل، فقال: «ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل». فقال عمر: يا رسول الله، ائذن لي فيه فأضرب عنقه؟ فقال: «دعه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فما يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه- وهو قدحه- فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر، ويخرجون على حين فرقة من الناس» قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله ﷺ، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به، حتى نظرت إليه على نعت النبي ﷺ الذي نعته( ).


في هذا المبحث سنتناول الكلام عن دار الإفتاء المصرية في الحد من الفتاوى الشاذة، وهذا المبحث يستلزم في بدايته أن نمهد تمهيدًا يسيرًا عن دار الإفتاء وأنَّها جزء من النسيج المصري.


أكَّد فضيلة الأستاذ الدكتور شوقي علام -مفتي الجمهورية- أنَّ التعاون والتنسيق بين المؤسسات الدينية يُسهم بقوة في بناء الوعي الديني، ونَشْر رسالة السلام والتسامح التي يحملها الدين الإسلامي، ويصحِّح الكثير من الأفكار المغلوطة التي تروجها الجماعات المتطرفة.


من مقومات الأمم التي لها تاريخ حضاري أنها ترتبط بثقافتها وتراثها اللذين يمثلان خصائص وجودها وهويتها، فتاريخ الأمم هو المعبر عن ثرائها وخبرتها الحضارية في الوجود الإنساني، ومدى تفاعلها مع القضايا الإنسانية المختلفة، ولا يمكن إهمال ذلك التاريخ وتلك الخبرة أثناء السعي لبناء واقع أفضل في كل المجالات، لأن هذه الخبرة تتداخل في كل الجوانب الإنسانية، المعرفية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية، وهي ذاتها الجوانب التي يسعى الإنسان إلى تطويرها والتقدم فيها في عالمه المعاصر.


جاءت الشريعة الإسلامية لرفع الظلم بين الناس، والنهي عن سيء الأخلاق كسوء الظن، واتهام الغير والحكم عليه دون وجه حق؛ لتحقق العدل وترفع من شأنه، ولتؤكد على حقوق الفرد في المجتمع وحريته وحرمته التي كفلها له الشرع الشريف، بل وجعلت لمن يجترئ على هذه الحدود والحقوق عقوبة شديدة في الدنيا والآخرة


مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 24 أبريل 2025 م
الفجر
3 :45
الشروق
5 :18
الظهر
11 : 53
العصر
3:29
المغرب
6 : 28
العشاء
7 :51