من مقومات الأمم التي لها تاريخ حضاري أنها ترتبط بثقافتها وتراثها اللذين يمثلان خصائص وجودها وهويتها، فتاريخ الأمم هو المعبر عن ثرائها وخبرتها الحضارية في الوجود الإنساني، ومدى تفاعلها مع القضايا الإنسانية المختلفة، ولا يمكن إهمال ذلك التاريخ وتلك الخبرة أثناء السعي لبناء واقع أفضل في كل المجالات، لأن هذه الخبرة تتداخل في كل الجوانب الإنسانية، المعرفية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية، وهي ذاتها الجوانب التي يسعى الإنسان إلى تطويرها والتقدم فيها في عالمه المعاصر.
وبالنظر إلى تاريخ الحضارات القديمة فإنها تركت تراثًا إنسانيًّا لافتًا للنظر، خصوصًا في الجوانب المادية والعمرانية، التي ظل كثير من آثارها باقيًا إلى يومنا هذا، ويسعى الناس إلى اكتشاف حقائقه وأسراره، وهذا الأمر الحسي المشاهد يدفعنا إلى العناية والاهتمام بالتراث الحضاري في جوانبه المادية والمعنوية والثقافية؛ لأنه يضيف إلى المجتمعات خبرة جديدة يمكن تفعيلها في واقعنا المعاصر، ولا تكون هذه الاستفادة من جوانب التراث التاريخي إلا إذا كانت هناك أدوات صحيحة للتعامل مع ذلك التراث، والتمييز فيه بين ما تجاوزه الزمن، وبين ما يمكن أن يبنى عليه ويستفاد منه، ومن أهم أنواع التراث التي ينبغي دراستها وإحياؤها، هو الجانب الثقافي للتراث، خصوصًا ونحن أمة عربية لها تراث ثقافي عريق، لا يمكن تجاوزه؛ لأننا أمام لغة حية، ما زالت مفرداتها وتراكيبها حاضرة في الأذهان ومستعملة في واقع الناس، وقد ارتبطت هذه الثقافة العربية بالدين الخاتم الذي أرسل به سيدنا محمد ﷺ بلسان عربي مبين.
إن الثقافة العربية الإسلامية قد تخطت رقعتَها الجغرافية لارتباطها بالدين والشريعة المحمدية، وارتباطها بالوحي الشريف من القرآن الكريم والسنة النبوية، فاتسعت تلك الثقافة حتى أصبحت ثقافة عالمية، بنيت عليها حضارة، ونشأت حولها علوم حفظت الهوية العربية والإسلامية إلى يومنا هذا، فالخصيصة الكبرى للتراث الثقافي العربي والإسلامي هي اتساعه في كل الجوانب، من حيث جغرافيته، ومن حيث استيعابه لأجناس وأعراق كانت أجنبية عن الثقافة العربية، ومن حيث أنه شامل لكل أنواع العلوم المتداولة في زمانه التاريخي.
إن التراث الإسلامي- كما ذكرنا- له العديد من الخصائص التي يتميز بها دونًا عن التراث الإنساني كله، وهذه المميزات تفرض التعامل معه بقدر من الدقة والعمق، والنظر الواسع لمفرداته ومجالاته المتعددة، قبل الولوج إلى طرق التعامل المثمرة مع هذا الميراث الثقافي، فهو تراث نبع من قلب النص المقدس لأمة الإسلام، ومن قلب اللغة العربية، ثم تفاعل في عقوده الأولى مع حضارات الإنسانية وعوالمها المختلفة، ولكنه استلهم رسالة الإسلام في كونه دينًا إنسانيًّا جامعًا لكل البشرية في دعوته، فسقطت الحواجز الثقافية بين المسلمين وبين الدول التي دخلوا إليها برسالتهم، فأصبح التراث بفضل هذا التفاعل الذي استوعب ثقافات متعددة تراثًا جامعًا لجملة العلوم الإنسانية والتجريبية المعروفة في ذلك الزمان، فضلًا عن العلوم العربية التي خدمت اللغة في كل مستوياتها إفرادًا وتركيبًا وخصائص وبلاغة وأسلوبًا، والعلوم الشرعية التي نشأت لصيانة الوحي الشريف عن المطاعن والأفهام المغلوطة، من خلال توثيقه على مستوى الحرف، وضبط أدوات فهمه، وخدمة وسائله ومقاصده.
ولقد تجاوز التراث الإسلامي تعدد الأعراق وعنصرية الأجناس المختلفة، وذلك يعود إلى فضيلة العلم في هذا التراث، وأنه باب من أبواب الرفعة في الدنيا والقرب من الله في الآخرة، وغير خاضع لأي نوع من أنواع التمييز العنصري، فصرنا نرى كبار العلماء الذين خدموا اللغة العربية كانوا في الأصل من بلاد العجم التي فتحها المسلمون، وكذلك حركة الترجمة الواسعة لكتب اليونان التي قام بها العرب، بل صاروا سببًا في الحفاظ على تلك الثقافة من الاندثار، ولم يكتفوا بالنقل والترجمة وإنما قاموا بالشرح والبيان والنقد، وهم إلى جانب ذلك كله يطورون منهجهم الخاص ومبادئهم المعرفية المستقلة، تظهر في عدد من العلوم كأصول الفقه الذي هو علم إسلامي خالص يمثل منهجًا لفهم النصوص الدينية في الشريعة الإسلامية، بل هو أساس علمي متين لمناهج الفهم والتأويل مطلقًا، وعلوم الحديث التي لا مثيل لها في أمة من الأمم في ضوابط توثيق النصوص، وعلم المنطق الذي لم يكتفوا فيه بما نقلوه من ثقافة اليونان، وإنما كانت لهم نظرة نقدية لإعادة بناء هذا العلم على نسق يتخلص فيه من شوائب الفلسفة، وقد سار كل ذلك جنبًا إلى جنب مع تقدم التجربة في العلوم الطبيعية والعمرانية الذي يشهد له تاريخ تلك العلوم، وآثار الحضارة الإسلامية في مساجدها ومدارسها ومستشفياتها العريقة، وقد استمر ذلك التناغم بين أبناء أعراق وثقافات متعددة، تجمعهم وحدة الإسلام والثقافة العربية، ولم تتوقف تلك التجربة العلمية الواسعة، وإنما تباطأت مع كثرة الحروب التي خاضها المسلمون ضد من اعتدى عليهم وأراد محو وجودهم، ومحو ثقافتهم، وهذا التباطؤ هو الذي أدى إلى جمود وركود في الحركة العلمية داخل الثقافة الإسلامية، كانت حضارات أخرى في ذلك الوقت تقوم بنهضة شاملة في العلوم الطبيعية والتجريبية على وجه الخصوص، وترتكز على بناء مناهج معرفية جديدة أثرت في البشرية كلها.
لقد شغلت قضية التراث الثقافي للأمة الإسلامية بال الكثير من العلماء والمفكرين، خصوصًا بعد الاختلاط الثقافي الذي وقع بين العرب والغرب في أواخر القرن الثامن عشر مع قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر، وما شاهده العرب والمسلمون من تقدم في الجانب المادي والمدني لدى العالم الأوروبي، مما استدعى إعادة النظر في المنتج الثقافي للأمة العربية والإسلامية، وهنا نشأت قضية التراث، وهي واحدة من القضايا التي ظلت محل جدل فكري عميق، ونشأت بسببها العديد من المذاهب والأفكار، سواء تلك التي قللت من شأن التراث وأهميته، أو التي جعلت منه عملًا يسمو فوق النقد جملة وتفصيلًا، وهناك من حاول الجمع بين الأصالة والمعاصرة، وبحث في طرق المحافظة على الهوية الثقافية والموروث الحضاري والمعرفي الكبير دون انقطاع عن مفردات العالم الحديث وأدواته ووسائله.
إن القراءة الواعية الرشيدة للتراث من أجل الإفادة منه لابد أن تكون بضوابط منهجية، تعصمنا من الوقوع في ثنائية إهمال التراث أو الجمود عليه دون تطوير وتجديد، وأول هذه الضوابط إدراك محورية النص الديني واللغة في هذا التراث، وأنه قام على خدمتهما بمناهج وقواعد وأدوات علمية رصينة، فالوحي هو مركز بناء النموذج المعرفي المتكامل للحضارة الإسلامية بكل موروثها الثقافي، وهو الذي وضع التصورات الكلية لمعالم بناء الإنسان وعمران الكون، وهي معانٍ عميقة تجذرت في البناء المعرفي للعلوم والصنائع وجميع المجالات الإنسانية التي مارسها المسلمون، وأما اللغة فهي الوعاء الفكري الذي استوعب جميع التراث العلمي والثقافي، وكان معبرًا عنه بأرفع بيان وأبلغ عبارة، ولا يمكن تجاوز هذين المعنيين في أي نظرة فكرية تجاه هذا التراث.
ومن ضوابط قراءة هذا التراث كذلك استيعاب الفرق بين مسائله وقضاياه وبين مناهجه المعرفية المتجاوزة للزمان والمكان، والخلط بينهما هو أحد أوجه الشذوذ في قراءة التراث، ومنشأ ذلك أن بعض قضايا التراث ومسائله المتداولة في العلوم- خصوصًا الشرعية- ثابتة مستقرة، كمسائل العبادات، وبعض العقود الشرعية كالنكاح والأحوال الشخصية، وكذلك القضايا الأخلاقية والسلوكية، فظن البعض أن التراث كله يعامل جملة واحدة، فيمكن اجترار كل مسائله حتى وإن تجاوزها الزمن، أو تغيرت تصوراتها وحقائقها، والعجيب أن أولئك الذين تمسكوا باجترار المسائل والقضايا لم يهتموا بالمناهج التي هي أولى بالاستدعاء والإحياء، فالمناهج المعرفية التي زخر بها التراث والتي استوعبت طرق الاستدلال العقلي والنقلي والحسي التجريبي، بأقسامه المتعددة من البرهان والجدل والإقناع والخطابة، هي الأجدر والأولى باستلهام أفكارها ونماذجها في هذا العصر، حيث إنها بلغت الغاية في العمق والدقة والاستقراء والتتبع، والتفريق بين القطعي والظني، والثابت والمتغير، والأشباه والنظائر، والمعاني الكلية والأمثلة الجزئية، بما يجعلها من أرقى المناهج العلمية معرفيًّا وحضاريًّا.
إن هذا التراث كما لا يمكن الوقوف عند مسائله لا يمكن تجاوز إنتاجه الضخم الذي تتابعت على القيام به جملة من أكابر العقول المستنيرة من مشارق الأرض ومغاربها، ولا يمكن التجديد والبناء عليه إلا بعد استيعابه استيعابًا تامًّا، والقيام بعملية تجريد واعية لتعظيم أوجه الاستفادة منه نظريًّا وتطبيقيًّا، فإذا ضربنا مثلًا بجانب العلوم الشرعية، فنحن أمام صنفين؛ الصنف الأول علوم نظرية لا يمكن الاستغناء عنها واستبدالها في مجالها، كأصول الفقه وأصول التفسير وأصول الحديث، فهي معارف درست بدقة، وجربت مناهجها طوال تاريخ الثقافة الإسلامية، وأثبتت فاعليتها وجدارتها، وإن كانت لا تخلو من حاجة للتجديد والإحياء، من حيث التصوير والعرض، ومن حيث التوسع في بعض القضايا التي لم تأخذ حقها في الدراسة، أو تحرير بعض المسائل التي تحتاج إلى تحرير، أو الاشتباك مع كثير من الأفكار النظرية المعاصرة بحسب طبيعة كل علم ومجالات اهتمامه، والصنف الثاني هو علوم تطبيقية، بمعنى أنها تمس الواقع الإنساني وتتأثر به، ومثال ذلك الجانب الأكبر من علم الفقه الذي يتعلق بالمعاملات والأحوال الشخصية والنوازل والوقائع التي لا تتناهى في حياة الناس، وهذا الصنف لابد فيه من اهتمام بالقواعد والضوابط الكلية، وعدم التوقف عند الجزئيات التي تكون كثيرة التغير والاختلاف، ولا يمكن ضبطها من خلال تفاصيلها وجزئياتها، وكذلك يلزم في هذا الجانب التطور المستمر في عملية الربط بين الماضي والحاضر، وبين التراث والواقع؛ لأنه جانب شديد التركيب والتعقيد في الربط بين الأصول المنضبطة وتطبيقاتها السابقة وبين الواقع المتغير بما فيه من فلسفات وأفكار تؤثر فيه بشكل مستمر.
لا شك أن الحفاظ على الهوية هو أحد أولوياتنا في هذا العصر الذي يموج بالأفكار المضطربة، وأن بقاء تراثنا حيًّا نابضًا هو شأن حضاري يضمن لهذه الأمة البقاء والاستقرار، وكذلك قراءته قراءة واعية مستنيرة هي واجب شرعي؛ لأن فيه بقاء هذه الشريعة والحفاظ على ديننا الحنيف وعلى ثقافتنا العربية، دون انفصال عن عالمنا، وانعزال عن المشاركة العالمية في صناعة الحضارة الإنسانية، كما كان أسلافنا يتجاوزون التعدد العرقي والثقافي، ويسعون إلى البحث عن المشتركات الإنسانية خصوصًا في الجانب العلمي والمعرفي الذي هو أشرف جوانب العمل الإنساني، ويضيفون إليه روحًا جديدة بمناهجهم ولغتهم وأخلاقهم العلمية والسلوكية.