16 يوليو 2024 م

من له الحق في الحكم على الناس؟

من له الحق في الحكم على الناس؟

جاءت الشريعة الإسلامية لرفع الظلم بين الناس، والنهي عن سيء الأخلاق كسوء الظن، واتهام الغير والحكم عليه دون وجه حق؛ لتحقق العدل وترفع من شأنه، ولتؤكد على حقوق الفرد في المجتمع وحريته وحرمته التي كفلها له الشرع الشريف، بل وجعلت لمن يجترئ على هذه الحدود والحقوق عقوبة شديدة في الدنيا والآخرة، يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ۞ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات: 11، 12]، ويقول سبحانه أيضًا: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ [النور: 15]، ويقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث». وجعلت الشريعة الحق في الحكم على الناس يختص فقط بالقضاء حسما للزاع والوقوع في الفوضى وإطلاق الاتهامات الباطلة بين الناس، والانفلات من ضوابط الأحكام.

كما أن الأصل بين الناس بعضهم البعض في تعاملهم هو عدم الحكم على الآخر إلا بظاهر قول أو فعل خاصة فيما يتعلق بالعقائد، بل الواجب حسن الظن بالآخر، وحمل أفعاله على أفضل المحامل ما وجد لذلك سبيلا، يقول الإمام مالك رضي الله عنه فيما ينسب إليه: «من صدر عنه ما يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجهًا ويحتمل الإيمان من وجه حُمِل أمره على الإيمان». ويؤكد كلامه ما قاله الملا علي القاري في شرح كتاب (الشفا) حيث قال: «قال علماؤنا: إذا وجد تسعة وتسعون وجها تشير إلى تكفير مسلم، ووجه واحد إلى إبقائه على إسلامه، فينبغي للمفتي والقاضي أن يعملا بذلك الوجه، وهو مستفاد من قوله عليه السلام: «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة» (رواه الترمذي) اهـ.  إلا أن بعض الجهلة والمتعصبين جعلوا الأصل في التعامل هو الحكم على الآخر والاستعلاء عليه؛ حتى وصل بهم الأمر للرمي بالفسق والكفر الصريح دون وجه حق أو علم يقيني، كما سارعت إلى ذلك الجماعات الإرهابية والتيارات المتشددة واتخذوه ذريعة لبسط نفوذهم، فجعلوا من أنفسهم حكما على الآخرين فمن يرونه مسلما فهو المسلم ومن يرون عدم صحة إيمانه وعقيدته فهو كافر عندهم وإن كان من أهل القبلة، وقسموا المجتمعات وأثاروا الفتن بأفعالهم بين الناس، ووصل بهم الأمر إلى استباحة الدماء والحرمات بسبب تنصيب أنفسهم حكاما على الغير وعلى عقائدهم، وجعلوا سبيلهم ومرجعهم في ذلك إلى الدين وأحكامه، والحق أن الدين بريء منهم، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ [النساء: 94] فالله سبحانه وتعالى يحذر من رمي الناس بالظن، والحكم عليهم بعدم الإيمان أو الإسلام؛ لأن ذلك اعتقاد قلبي لا يطلع عليه إلا الحق سبحانه وتعالى لا غيره من البشر، خصوصا وأن المسلم مطالب بالتثبت والتوثق قبل إصدار حكمه لا سيما عند تعلق هذا الحكم بحرمة الآخرين، يقول الحق سبحانه: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: 6]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم من أحد أصحابه عن الشهادة، فقال: «هل ترى الشمس؟» قال: نعم، قال: «على مثلها فاشهد أو دع» (رواه الحاكم وصححه) أي أن المسلم يجب ألا يشهد على شيء أو يعطي حكمًا إلا على ما هو واضح له كوضوح الشمس في النهار بلا ظن أو تأويل، خصوصا وأن ذلك يتعلق بحرمة غيره كما أشرنا.

ولأجل ذلك قال العلماء إنه لا يعد شيء من الأفعال أو الأقوال كفرًا أو مُخرجا لصاحبه من الإسلام إلا ما كان بتعمد فاعله له، عالما به، مختارا لما يقول أو يفعل، غير مجبر عليه، ولذا فإن الحكم على أحد من المسلمين بالفسق أو الكفر- أو غير ذلك من الأحكام التي تطلقها الجماعات الإرهابية أو التيارات المتشددة- متعسر جدا ولا يتحقق إلا باستقصاء القضاء، فالتكفير حكم قضائي؛ وأمر خطير يترتب عليه إجراءات تتعلق بالأموال وعصمة الدماء وحفظ الحقوق وحرمة الإسلام، فليس بالأمر الهين بل هو خطب جلل وفتنة عظيمة تهدد أمن الناس والمجتمع ككل، ولأن المؤسسات غير قضائية ليست مؤهلة للقيام بإجراءات التحقق من وجود شروط التكفير، أو انتفائها وعدم صحتها، كما أنها تفتقر إلى القوة الشرعية التي تمكنها من الخوض في هذا الشأن الخطير، فالمؤسسات القضائية هي وحدها المخولة من قبل الحاكم والمُنصَّبةُ للبتِّ والنظر في مثل هذه القضايا، فالحاكم قد أناب القاضي مكانه للقيام بهذه الوظيفة ومن ثَمَّ فإن حكم القاضي ليس حكمه وحده بل هو حكم الأمة؛ لأن القاضي يستمد  سلطته من الحاكم الذي يستمد سلطته من الأمة، والقاضي هنا كأنه نائب عن الله في حكمه سبحانه وتعالى فهو المبلغ لحكم العدل فيما ينظر فيه ويراه، ولذا وجب قيامه لهذا الشأن دون غيره، ليقيم العدل ويحمي الحقوق، ويصون عصمة الدماء، ويحرس المجتمع من خوض الخائضين وفساد المفسدين في الأرض بغير الحق، وبذلك يحفظ المجتمع من الوقوع في زلل العبثية والفوضى والفُرقة.

ويجب على المسلم أن يتحرز ما أمكنه عن الوقوع في مثل هذا الزلل وأن يعلم أن إطلاق الأحكام على الغير خطره عظيم خصوصا إذا تعلق الحكم بتكفير الغير أو تفسيقه وإخراجه عن دائرة الإيمان؛ فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في الصحيح عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما: «أيما رجل قال لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما» فلأجل ماذا يعرض المرء نفسه لهذا الخطر في دينه ودنياه، ويتحمل حكم الكفر بالله بغلبة ظنه وهوى نفسه، ولا شك أن من يُصدِّر نفسه للحكم على الناس فإنه يفتأت بذلك على دور الحاكم والقاضي إذ هو المخول إليه فقط النظر في هذه الأحكام وإطلاقها.

كذلك فإن من حسن إسلام المرء ألا ينشغل بغيره وألا ينصب من نفسه حكما على غيره، فقد نهت الشريعة عن ذلك، كما جاء في صحيح مسلم عن سيدنا جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال، حدَّث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان. وإن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك». وقال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المشهور: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» (متفق عليه)، فلا يطلق لسانه على أهل القبلة بشيء يسوءهم دون وجه حق، بل الواجب على المسلم منع نفسه من الخوض في إطلاق الأحكام، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (رواه الترمذي) ولا شك أن الحكم على الناس مما لا يعني المسلم في شيء، وأنه إذا دعته الضرورة إلى ذلك لجأ إلى القضاء، ولا يتصدر لذلك من تلقاء نفسه، وإلا فسد المجتمع وسادت الفوضى وقال من شاء ما شاء دون مساءلة أو رقابة.

كذلك فإن الداعي إلى الله ليس من شأنه أن يصرف همته إلى الحكم على غيره وتقييمه، فإن ذلك شاغل له عما أقامه الله فيه، بل الواجب عليه التوجه بالإصلاح وتصحيح أفعال وأقوال الناس ما أمكنه، وأن يكون دليله في ذلك خلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وطريقته في الدعوة بالإصلاح والموعظة الحسنة والإشفاق على الخلق، لا الجنوح إلى إطلاق الأحكام والاتهامات كما تمارس ذلك تيارات التشدد، ومن يصدرون أنفسهم زورا باسم الإسلام، وألا يكون الداعي عونا للشيطان على الناس بتبديعهم وتفسيقهم وتكفيرهم، فإن ذلك من المهلكات للداعي وللمدعو، فلا يتخذ إطلاق الأحكام سبيلا لتنصيب نفسه حكما ومرجعا، ولا يجعل فهمه للدين حكمًا على تصرف الناس وقاضيًا عليهم؛ فإن ذلك من البلاء الذي يصيب الداعي وينفر المدعوين، فالأصل في الإنسان حسن النية والاعتقاد وسلامة الصدر، والإخلال بذلك المسلك هو من فهم وفعل الخوارج وأهل الهوى والضلال، وقد أوضح ذلك سيدنا ابن عمر رضي الله عنه كما نقل عنه البخاري قوله في الخوارج: إنهم  انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار، فجعلوها على المؤمنين بزعمهم، فكانوا بذلك شرار الخلق وكلاب أهل النار.

فالواجب على المسلم أن يتحرز عن هذا الصنيع الذي هو من فعل الجهال ما أمكنه فلا يخوض في عرض غيره، ولا يحكم عليه، وإن اضطر إلى ذلك لجأ إلى القضاء فهو الذي من حقه إطلاق الأحكام وإنزالها على مراد الشارع وفق سياج من الضوابط الشرعية، دون إدخال هوى أو عصبية مذهبية، لما يترتب على هذه الأحكام من إجراءات تتعلق بالأموال وعصمة الدماء وحفظ الحقوق وحرمة الإسلام وسلامة المجتمع كله. 

من مقومات الأمم التي لها تاريخ حضاري أنها ترتبط بثقافتها وتراثها اللذين يمثلان خصائص وجودها وهويتها، فتاريخ الأمم هو المعبر عن ثرائها وخبرتها الحضارية في الوجود الإنساني، ومدى تفاعلها مع القضايا الإنسانية المختلفة، ولا يمكن إهمال ذلك التاريخ وتلك الخبرة أثناء السعي لبناء واقع أفضل في كل المجالات، لأن هذه الخبرة تتداخل في كل الجوانب الإنسانية، المعرفية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية، وهي ذاتها الجوانب التي يسعى الإنسان إلى تطويرها والتقدم فيها في عالمه المعاصر.


لقد جاء الإسلام لتحقيق مقاصد ساميَّة، ومعان شريفة، وحكم عظيمة، قاصدًا إعمار الكون، وتحقيق السعادة لبني الإنسان في الدُّنيا والآخرة، وهذه المعاني هي ما عبَّر عنه علماء الدِّين الحنيف بـ(مقاصد الشَّريعة الإسلاميِّة)، وحصروها في خمسة مقاصد كبرى وهي: حفظ النَّفس، والدِّين، والمال، والنَّسب، والعقل، والعرض، والَّتي جمعها اللقَّانيُّ رحمه الله في الجوهرة بقوله: وحفظ دين ثمَّ نفس مال نسب ومثلها عقل وعرض قد وجب( ). ومقاصد الشَّريعة الإسلاميَّة هي ما شرعت الشَّرائع لأجله وهي حفظ الدِّين والنَّفس والمال والنَّسب والعقل والعرض، وهي مسماة بالكليات الخمس، قال البيجوريُّ: «لأنَّها وجبت في كلِّ ملَّة فلم تبح في ملَّة من الملل»( ).


جعل الله سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وجعل رسالته خاتمة الرسالات السَّماوية، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ [الأحزاب: 40] وإذا كان الحال كذلك فإنَّ شريعته صلى الله عليه وسلم خاتمةُ الشَّرائع، وهذا يعني أن هذه الشريعة شريعةٌ باقية، شريعة ممتدة لم تكن لوقته صلى الله عليه وسلم وزمنه المبارك فحسب، بل هي صالحةٌ في زمننا هذا وصالحة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها يوم القيامة.


أكَّد فضيلة الأستاذ الدكتور شوقي علام -مفتي الجمهورية- أنَّ التعاون والتنسيق بين المؤسسات الدينية يُسهم بقوة في بناء الوعي الديني، ونَشْر رسالة السلام والتسامح التي يحملها الدين الإسلامي، ويصحِّح الكثير من الأفكار المغلوطة التي تروجها الجماعات المتطرفة.


تقدَّم فضيلة الأستاذ الدكتور شوقي علام -مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء فى العالم- بخالص التهنئة إلى رئيس مجلس إدارة المنظمة العالمية لخريجي الأزهر والسادة الأعضاء، بعد اعتماد تشكيله الجديد برئاسة فضيلة الأستاذ الدكتور/ عباس شومان -وكيل الأزهر الأسبق، الأمين العام لهيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف- وفضيلة الأستاذ الدكتور سلامة داود، رئيس جامعة الأزهر، نائبًا لرئيس مجلس ‏الإدارة، والسيد اللواء وائل محمود بخيت، نائبًا لرئيس مجلس الإدارة.


مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 24 أبريل 2025 م
الفجر
3 :45
الشروق
5 :18
الظهر
11 : 53
العصر
3:29
المغرب
6 : 28
العشاء
7 :51