16 يوليو 2024 م

تقسيم دار الكفر ودار الإسلام بين مقاصد الشَّريعة الإسلاميَّة ومقاصد المتطرِّفين

تقسيم دار الكفر ودار الإسلام بين مقاصد الشَّريعة الإسلاميَّة ومقاصد المتطرِّفين

       لقد جاء الإسلام لتحقيق مقاصد ساميَّة، ومعان شريفة، وحكم عظيمة، قاصدًا إعمار الكون، وتحقيق السعادة لبني الإنسان في الدُّنيا والآخرة، وهذه المعاني هي ما عبَّر عنه علماء الدِّين الحنيف بـ(مقاصد الشَّريعة الإسلاميِّة)، وحصروها في خمسة مقاصد كبرى وهي: حفظ النَّفس، والدِّين، والمال، والنَّسب، والعقل، والعرض، والَّتي جمعها اللقَّانيُّ رحمه الله في الجوهرة بقوله:

وحفظ دين ثمَّ نفس مال نسب
 

ومثلها عقل وعرض قد وجب([1]).
 

ومقاصد الشَّريعة الإسلاميَّة هي ما شرعت الشَّرائع لأجله وهي حفظ الدِّين والنَّفس والمال والنَّسب والعقل والعرض، وهي مسماة بالكليات الخمس، قال البيجوريُّ: «لأنَّها وجبت في كلِّ ملَّة فلم تبح في ملَّة من الملل»([2]).

هذه المقاصد دار في فلكها علماء الأمَّة، وسعوا إلى حفظها وتطبيقها من خلال ما أودعوه كتبهم فيما يتعلَّق بتعامل البشر بعضهم مع بعض، وترتَّب على سعيهم هذا ابتكار أمور لم تكن موجودة على عهد سابقيهم؛ ومثال ذلك بيت المال؛ والَّذي لم يكن موجودًا على عهد النَّبيِّ ﷺ ، وإنَّما أنشأ في الخلافة الراشدة لأبي بكر رضي الله عنه لحفظ المال العام، وحفظ الكيان الاقتصادي لبلاد المسلمين([3])، ولم يكن موجودًا على عهد النَّبيِّ ﷺ بهذا المعنى، وأصبح هذا المصطلح (بيت المال) ذا أهميَّة بالغة للغاية في كتب الفقه، وانبنت عليه من الأحكام والمسائل الفقهية ما لا يحصى، وقد استعيض عن بيت المال في عصرنا الحاضر بأنظمة اقتصادية أكثر إحكامًا وتطورًا، وذلك تبعًا لتطوُّرات علميَّة، وتغيُّرات في أوضاع المجتمعات البشريَّة، فناسب ذلك استحداث أنظمة أخرى تتوافق وهذا التغيُّر، ولم ينكر أحد من العلماء ذلك الاستحداث، ولا يقول عاقل إن (بيت المال) كيان واجب وجود رسمه شرعًا كما هو في عهد الخلافة، وأنَّه يحرم علينا أن نستبدله بأنظمة أخرى، ذلك أنَّ الأنظمة المستحدثة تحقق الغرض الَّذي أقيم له وتتناسب مع الواقع المعيش.

وإذا كان هذا على الجانب الاقتصادي، فإنَّ ظهور مصطلحي (دار الإسلام) و(دار الكفر) جاءا ليعبِّرا عن كيان البلاد الإسلاميَّة السياسيِّ؛ وسط معترك محتدم بينها وبين من يريدون استئصال شأفتها، فهما مصطلحان مرهونان بحالة دوليَّة عالميَّة اتسمت بالصِّراع الدَّائم دون توقف، فناسب ذلك استحداث اعتبارات سياسيَّة، تقوم على حفظ مصالح رعايا بلاد المسلمين، وتتناسب مع هذا الصِّراع، وبطبيعة كونهما أمرين اجتهاديين اعتورهما شيء من التغيُّر باختلاف الحالات السياسيَّة للبلاد الإسلاميَّة، وذلك لأنَّهما وكافَّة المعاملات البشريَّة في الشَّريعة خاضعان لقواعد خاصَّة، مبنيَّة على الفارق بين مفهومي الشَّريعة والفقه، وإليك بيانهما:

- مفهوم الشريعة والفقه

أما الشَّريعة فقد جاء في لسان العرب: «الشَّريعة والشِّراع والمشرعة: المواضع الَّتي ينحدر إلى الماء منها، قال الليث: وبها سمِّي ما شرع الله للعباد شريعة من الصَّوم والصَّلاة والحجِّ والنِّكاح وغيره»([4]).

 ثم قال: «والشَّريعة موضع على شاطئ البحر تشرع فيه الدَّواب. والشَّريعة والشِّرعة: ما سنَّ الله من الدِّين وأمر به كالصَّوم والصَّلاة والحجِّ والزَّكاة وسائر أعمال البرِّ، مشتق من شاطئ البحر؛ عن كراع؛ ومنه قوله تعالى: ﴿ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ﴾[الجاثية: 18]»([5]).

وأمَّا الفقه: فهو في اللغة: يأتي بمعنى الفهم، ومنه قول النَّبيِّ ﷺ: «من يرد الله به خيرًا يفقِّهه في الدِّين»([6]).

وفي الاصطلاح: العلم بالأحكام الشَّرعيَّة العمليَّة المكتسب من أدلتها التَّفصيليَّة ([7]).

وجاء في الموسوعة الفقهيَّة الكويتيَّة أيضًا: «الشَّريعة والشِّرعة في اللغة: مورد الماء للاستسقاء، سمِّي بذلك لوضوحه وظهوره، والشَّرع مصدر شرع بمعنى: وضح وظهر، وتجمع على شرائع، ثمَّ غلب استعمال هذه الألفاظ في الدِّين وجميع أحكامه، قال تعالى: ﴿ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ﴾[الجاثية: 18]، وقال سبحانه: ﴿ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ﴾[المائدة: 48].

وفي الاصطلاح: هي ما نزل به الوحي على رسول الله ﷺ من الأحكام في الكتاب أو السنَّة مما يتعلق بالعقائد والوجدانيَّات وأفعال المكلَّفين، قطعيَّا كان أو ظنيَّا.

وبين الشَّريعة والفقه عموم وخصوص من وجه؛ يجتمعان في الأحكام العمليَّة الَّتي وردت بالكتاب أو بالسنَّة أو ثبتت بإجماع الأمَّة، وتنفرد الشَّريعة في أحكام العقائد، وينفرد الفقه في الأحكام الاجتهاديَّة الَّتي لم يرد فيها نص من الكتاب أو السنَّة ولم يجمع عليه أهل الإجماع»([8]).

والمعنى اللغوي للكلمتين كأنه يدلنا على هذا الفارق، فالفقه فهم بشريٌّ؛ وهذا الفهم البشريُّ غير متصف بالعصمة من الخطأ، بل هو قابل لكلا الأمرين، وذلك بخلاف الشَّريعة الَّتي عرَّفها ابن حجر: «وضع إلهيٌّ سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى ما يصلح معاشهم ومعادهم»([9]) فقوله: وضع إلهي. ينبهنا إلى هذا المعنى الدقيق الَّذي تصير به الشَّريعة مقدَّسة لأنَّ واضعها هو الله، أمَّا الفقه فهو معرفة الأحكام وهذه المعرفة يتوارد عليها الخطأ قطعًا، لأنَّها قائمة بذات غير معصومة، ويتوارد عليها تارة عدم المناسبة للزَّمان أوالمكان أوالأحوال أوالأشخاص.

يقول مصطفى الزَّرقا: «ولا يجوز الخلط وعدم التَّمييز بين مفهوم الشَّريعة الإسلاميَّة، ومفهوم الفقه الإسلاميِّ؛ لأنَّ الشَّريعة معصومة، وهي في العقيدة الإسلاميَّة صواب وخير كلُّها تهدي الحياة الإنسانيَّة إلى الطَّريق السَّليم المستقيم.

أمَّا الفقه فهو من عمل الفقهاء في طريق فهم الشَّريعة وتطبيق نصوصها وفقًا لغرض الشَّارع والقواعد الأصوليَّة في استنباط الأحكام منها، وفي هذا يختلف فهم فقيه عن فهم فقيه آخر، وفهم كلِّ واحد مهما علا قدره يحتمل الخطأ والصواب لأنَّه غير معصوم، وليس معنى ذلك أنَّه لا قيمة له، بل له قيمة عظيمة وتقدير كبير؛ ولكن المقصود أن ليس له القدسيَّة الَّتي للشَّريعة نفسها المتمثِّلة بنصوصها من الكتاب والسنَّة الثَّابتة، فالفقه وهو فهم الفقيه ورأيه؛ ولو كان مبنيًّا على النَّص الشَّرعيِّ، هو قابل للمناقشة والتَّصويب والتَّخطئة، ولكن التَّخطئة تنصرف إلى فهم الفقيه لا إلى تخطئة النَّص الشَّرعي، ومن ثمَّ اختلفت آراء الفقهاء، وردَّ بعضُهم على بعض، وخطَّأ بعضهم بعضًا.

على أنَّ هناك نقطة مهمَّة محلُّ اشتباه ينبغي تجليتها والتَّنبيه عليها، وهي أنَّ الفقه الإسلاميَّ يتضمَّن نوعين من الأحكام مختلفين في طبيعتهما:

النوع الأول: أحكام قرَّرتها نصوص قطعيَّة الثُّبوت والدَّلالة تمثل إرادة الشَّارع الإسلاميِّ الواضحة فيما يفرضه على المكلَّفين نظامًا للإسلام ملزمًا لهم، لم يترك لتفسيرهم وفهمهم واستنتاجاتهم، وذلك مثل أصل وجوب الصَّلاة والزَّكاة وصوم رمضان والوفاء بالعقود، والجهاد بحسب الحاجة وقدر الطَّاقة، ونحو ذلك ممَّا جاءت به النُّصوص في الكتاب والسنَّة المتواترة.

النوع الثاني: أحكام سكت عنها الكتاب والسنَّة وتركت للاجتهاد واستنتاج علماء الشَّريعة، أو جاءت بها نصوص غير قطعيَّة الثُّبوت أو الدَّلالة، تحتمل اختلاف آراء العلماء في ثبوتها أو في دلالتها، وهي محلُّ اجتهادهم في فهمهم واستنتاج الأحكام منها.

فالفقه الإسلاميُّ ومدوَّناته تتضمن كلَا النَّوعين هذين، فما قلناه عن الفرق بين الشَّريعة والفقه منصرف إلى هذا النَّوع الثَّاني من الأحكام الفقهيَّة الَّذي هو استنتاج الفقهاء واجتهادهم في تفسير النُّصوص المحتملة غير القطعيَّة الدَّلالة، أو من أقيستهم، أو ما قرَّروه بطريق الاستحسان حيث يرون سببًا يقتضي الخروج عن حكم القياس، أو ما قرَّروه بطريق الاستصلاح والمصالح المرسلة حيث لا نص يحكم في الموضوع، وإنَّما قرَّروا فيه الحكم نتيجة للموازنة بين ما فيه من مصلحة أو ضرر، ونحو ذلك من الأحكام الاجتهادية، وهي أكثر ما يتضمَّنه فقه المذاهب.

فهذا النَّوع هو الَّذي من عمل الفقهاء واستنتاجهم، ولا يتمتع بالقدسيَّة الَّتي للنصوص التشريعيَّة، أما النَّوع الأوَّل فله قدسيَّة النُّصوص التشريعيَّة نفسها، وثباتها»([10]).

وبناء على ما ذكرناه فإنَّ الأمور المتعلِّقة بالعلاقات الدَّوليَّة هي من باب الفقه لا من باب الشَّريعة، وهي تدور في مجملها حول مبادئ عامَّة نستطيع رصدها في نقطتين:

الأولى:  أنَّ القاعدة في أمور المعاملات أنَّها غير مشروعة لذاتها بل مراعاةً لمقاصد الشَّريعة الإسلاميَّة.

وهذه الأمور مراعاة في جانب المعاملات بمعناه الذي يشمل تعامل المسلم مع المسلم، وتعامله مع غير المسلم، سواء كان هذا التعامل في تبادل المنافع، أو في طلب الحقوق، أو في دفع ظلم إلى غير ذلك، وعلى هذا يدخل فيها أمور الجنايات، والحدود، والسيَّر، ويشير الكمال ابن الهمام إلى هذا المعنى المذكور في وضع الجهاد عقيب الحدود قائلًا: «أورد الجهاد عقيب الحدود؛ لأنَّه بعد أن ناسبها بوجهين باتِّحاد المقصود من كلٍّ منها ومن مضمون هذا الكتاب، وهو إخلاء العالم من الفساد، وبكون كل منهما حسن لحسن غيره، وذلك الغير، وهو إعلاء كلمة الله تعالى يتأدَّى بفعل نفس المأمور به، وهو القتال وجب تأخيره عنها لوجهين: كون الفساد المطلوب الإخلاء عنه بالجهاد أعظم كلِّ فساد وأقبحه، والعادة في التَّعاليم الشُّروع فيها على وجه التَّرقِّي من الأدنى إلى ما هو أعلى منه، وكونه معاملة مع الكفَّار، والحدود معاملة مع المسلمين، وتقديم ما يتعلَّق بالمسلمين أولى »([11]).

قال الشاطبي: «والمعاملات راجعة إلى حفظ النَّسل والمال من جانب الوجود، وإلى حفظ النَّفس والعقل أيضًا، لكن بواسطة العادات، والجنايات- ويجمعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- ترجع إلى حفظ الجميع من جانب العدم»([12]).

فأنواع التَّعاملات على اختلافها لم تشرع لذاتها بل شرعت مراعاة لهذه المقاصد ملاحظ فيها هذه الأمور بالجملة؛ ومن ضمن هذه الأمور التي تراعى فيها مقاصد الشَّريعة جميع الأحكام الشَّرعية الواردة في التَّعامل مع غير المسلم، وآتية لتحقيقها.

والثَّانية: أنَّها ليست بأمور نصيَّة؛ بل جعل الشَّارع لها مبادئ عامَّة تحكمها وتنظمها؛ تتوافق مع اختلاف الأزمنة والأمكنة.

وتلك رحمة من الله سبحانه وتعالى بعباده؛ خاصَّة أنَّ هذه الأمور لا تتصف بالثَّبات في أحكامها كالعبادات؛ فهي- أي العبادات- تتَّصف بالثَّبات غالبًا بمعنى: عدم التغيُّر؛ بخلاف تلك الأمور الخاصَّة بالتَّعامل مع الغير مسلمًا كان أو غيره؛ فهي تتَّصف بالتغيُّر الدَّائم تبعًا لتغيُّر الزَّمان والمكان والأحوال والأشخاص؛ ولذا وضع الله سبحانه وتعالى لها مبادئ عامَّة وخطوطًا عريضة واجبة الاعتبار، يصير بها المسلم موافقًا لما أمر الله وليس مخالفًا لشريعته.

 فعلى سبيل المثال اعتبر في البيوع انتفاء الغرر الجهالة والغبن إلى غير ذلك وهكذا في أمور المعاملات، الأمر فيها قائم بالأصالة على الجواز بشرط عدم المنافي مما حظره الشَّارع الشَّريف، ويترتب على ذلك ما لا ينحصر من الأمور الجزئية إلى غير ذلك، مع كون الأصل في جميع هذه الأمور (الإباحة والجواز).

قال ابن تيميَّة في مجموع الفتاوى: «القول الثَّاني أنَّ الأصل في العقود والشُّروط الجواز والصِّحَّة ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشَّرع على تحريمه وإبطاله نصًا أو قياسًا عند من يقول به وأصول أحمد المنصوصة عنه أكثرها يجري على هذا القول ومالك قريب منه لكن أحمد أكثر تصحيحًا للشُّروط فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحًا للشُّروط منه...»([13]).

ثم قال رحمه الله: «وعلى هذا فمن قال هذا الشَّرط ينافي مقتضى العقد قيل له أينافي مقتضى العقد المطلق أو مقتضى العقد مطلقًا؟ فإن أراد الأول: فكل شرط كذلك. وإن أراد الثاني لم يسلم له؛ وإنَّما المحذور أن ينافي مقصود العقد كاشتراط الطَّلاق في النِّكاح أو اشتراط الفسخ في العقد. فأمَّا إذا شرط ما يقصد بالعقد لم يناف مقصوده. هذا القول هو الصَّحيح بدلالة الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار مع الاستصحاب وعدم الدليل المنافي»([14]).

وقال ابن القيم في إعلام الموقعين: «الخطأ الرابع لهم: اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان حتى يقوم دليل على الصِّحَّة، فإذا لم يقم عندهم دليل على صِّحَّة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بطلانه، فأفسدوا بذلك كثيرًا من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله بناء على هذا الأصل. وجمهور الفقهاء على خلافه، وأن الأصل في العقود والشروط الصِّحَّة إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه، وهذا القول هو الصَّحيح فإن الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتَّأثيم، ومعلوم أنَّه لا حرام إلَّا ما حرَّمه الله ورسوله، ولا تأثيم إلَّا ما أثَّم الله ورسوله به فاعله، كما أنَّه لا واجب إلَّا ما أوجبه الله، ولا حرام إلَّا ما حرَّمه الله، ولا دين إلَّا ما شرعه، فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر، والأصل في العقود والمعاملات الصِّحَّة حتَّى يقوم دليل على البطلان والتَّحريم.

والفرق بينهما أنَّ الله- سبحانه- لا يعبد إلَّا بما شرعه على ألسنة رسله، فإن العبادة حقه على عباده، وحقه الَّذي أحقه هو ورضي به وشرعه، وأمَّا العقود والشُّروط والمعاملات فهي عفو حتَّى يحرِّمها، ولهذا نعى الله- سبحانه- على المشركين مخالفة هذين الأصلين- وهو تحريم ما لم يحرِّمه، والتَّقرُّب إليه بما لم يشرِّعه- وهو- سبحانه- لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه لكان ذلك عفوًا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله، فإنَّ الحلال ما أحلَّه الله، والحرام ما حرَّمه، وما سكت عنه فهو عفو، فكلُّ شرط وعقد ومعاملة سكت عنها فإنَّه لا يجوز القول بتحريمها، فإنَّه سكت عنها رحمة منه من غير نسيان وإهمال، فكيف وقد صرَّحت النُّصوص بأنَّها على الإباحة فيما عدا ما حرَّمه؟ وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود والعهود كلِّها، فقال تعالى: ﴿ﯚ ﯛ﴾[الإسراء: 34]، وقال: ﴿ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ﴾[المائدة: 1]، وقال: ﴿ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ﴾ [المؤمنون: 8]، وقال تعالى: ﴿ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ﴾ [البقرة: 177]، وقال تعالى: ﴿ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ﴾ [الصف: 2،3]، وقال: ﴿ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ﴾ [آل عمران: 76]، وقال: ﴿ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ﴾ [الأنفال: 58] وهذا كثير من القرآن.

وفي صحيح مسلم من حديث الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله ﷺ: «أربعٌ من كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهنَّ كانت فيه خصلة من النِّفاق حتى يدعها، إذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر»([15]) وفيه من حديث سعيد بن المسيِّب عن أبي هريرة عن النَّبيِّ ﷺ: «من علامات المنافق ثلاث وإن صلَّى وصام وزعم أنَّه مسلم: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان»([16]) وفي الصحيحين من حديث ابن عمر عن النَّبيِّ ﷺ: «يرفع لكلِّ غادر لواء يوم القيامة بقدر غدرته، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان»([17]) وفيهما من حديث عقبة بن عامر عن النَّبيِّ ﷺ: «إن أحقَّ الشُّروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفروج»([18]) وفي سنن أبي داود عن أبي رافع قال: «بعثني قريش إلى رسول الله ﷺ، فلما رأيته أُلقي في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول الله، والله إنِّي لا أرجع إليهم أبدًا، فقال رسول الله ﷺ: إنِّي لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرد، ولكن ارجع إليهم، فإن كان في نفسك الَّذي في نفسك الآن فارجع قال: فذهبت ثم أتيت النبي ﷺ فأسلمت»([19]) وفي صحيح مسلم عن حذيفة قال: ما منعني أن أشهد بدرًا إلَّا أنِّي خرجت أنا وأبي حسيل فأخذنا كفَّار قريش فقالوا: إنَّكم تريدون محمدًا فقلنا: ما نريده، ما نريد إلَّا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفنَّ إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله ﷺ فأخبرناه الخبر، فقال:«انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم»([20]) وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن عامر قال: «دعتني أمِّي يومًا ورسول الله ﷺ قاعد في بيتها، فقالت: تعال أعطك، فقال لها رسول الله ﷺ ما أردت أن تعطيه؟ فقالت: أعطيه تمرًا، فقال لها رسول الله ﷺ: أما إنَّك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة»([21]).

وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة «عن النَّبيِّ ﷺ قال: قال الله عز وجل:  ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره»([22]). وأمر النَّبيُّ ﷺ عمر بن الخطاب أن يوفي بالنَّذر الَّذي نذره في الجاهلية من اعتكافه ليلة عند المسجد الحرام وهذا عقد كان قبل الشرع([23]).

وقال ابن وهب: ثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم «أنَّ رسول الله ﷺ قال: وأي المؤمن واجب»([24]) قال ابن وهب: وأخبرني إسماعيل بن عياش عن أبي إسحاق «أنَّ رسول الله ﷺ كان يقول: ولا تعد أخاك عدة وتخلفه، فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة»([25]) قال ابن وهب: وأخبرني اللَّيث بن سعد، عن عقيل بن خالد، عن ابن شهاب عن أبي هريرة أن النَّبيَّ ﷺ قال: «من قال لصبي تعال هذا لك ثمَّ لم يعطه شيئا فهي كذبة»([26]) وفي السنن من حديث كثير بن عبد الله بن زيد بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده يرفعه: «المؤمنون عند شروطهم»([27])...»([28]).

إذن فما يحكم أمور المعاملات خطوط عريضة، ويسير على هذا النَّسق بالتبع أمر التعامل مع غير المسلمين، والأمور الخاصة بالعلاقات الدوليَّة.

وفي ضوء ما سبق نقول: إنَّ التقسيم الَّذي ظهر في كتب الفقه للأرض إلى (دار إسلام) و(دار كفر) كان له أسباب فرضها الواقع العملي عند الفقهاء، ويمكن أن تجمل فيما يلي:

تنظيم شئون المسلمين؛ نظرًا لحاجتهم حكامًا ومحكومين إلى توحيد جهودهم وتوجيه قواهم نحو عدو خارجي؛ حفاظًا على كيان الأمَّة الإسلاميَّة لا سيما في بدء تشكلها وتكونها.

بيان ما يترتَّب على هذا التَّقسيم من ثبوت الولاية أو عدمها في تطبيق الأحكام الشَّرعيَّة ضمن الحدود الجغرافيَّة لدار الإسلام وغيرها من الدور المقابلة لها.

التأصيل الفقهي لواقع العلاقات الَّتي كانت تسود بين المسلمين وغيرهم كالرُّوم والفرس، وتبيين الأحكام الشَّرعيَّة المنظِّمة لهذه العلاقات، وذلك  كالأحكام المتعلِّقة بالسِّلم والحرب والمعاهدات، وغيرها من التفاصيل المعروفة في وقتنا الراهن بقانون العلاقات الدوليَّة العامَّة.

ما يترتب على عدم إيمان جميع سكان المعمورة بتعاليم الشَّريعة الإسلاميَّة وأحكامها من عدم تطبيق أحكامها عليهم؛ لعدم دخولهم تحت سلطة ونفوذ (دار الإسلام) وهذا ما يظهر واضحًا جليًا في الاجتهاد الحنفيِّ على وجه الخصوص، وهو ما أدى إلى اعتبار كثير من أحكام الشَّريعة الإقليميَّة من حيث التطبيق والنفاذ؛ وبما يتناسب طردًا وعكسًا مع امتداد (دار الإسلام) الإقليميِّ.

ولكن كلُّ هذه المسوِّغات لا تقتضي حتميَّة المنظور الفقهي لجغرافيا العالم على النحو الَّذي رأوه– أعني الفقهاء- ولذا فهي لا تعدو أن تكون اعترافًا واقعيًا أفرزته الحالة الطبيعيَّة لوجود دار إسلاميَّة.

وهذه الحتميَّة هي الَّتي نفاها ابن تيميَّة رحمه الله حيث يقول: «كون الأرض  دار كفر، أو دار إسلام أو إيمان، أو دار سلم أو حرب، أو دار طاعة أو معصية، أو  دار المؤمنين  أو  الفاسقين ؛ أوصاف عارضة لا لازمة. فقد تنتقل من وصف إلى وصف كما ينتقل الرَّجل بنفسه من الكفر إلى الإيمان والعلم وكذلك بالعكس»([29]). ويقول أيضًا: «الثَّغر قد يكون مكانًا ثم يفتح المسلمون ما جاورهم فينتقل الثَّغر إلى حد بلاد المسلمين؛ ولهذا يكون المكان تارة ثغرًا وتارة ليس بثغر؛ كما يكون تارة دار إسلام وبر وتارة دار كفر وفسق؛ كما كانت مكة دار كفر وحرب وكانت المدينة دار إيمان وهجرة ومكانًا للرباط فلما فتحت مكة صارت دار إسلام ولم تبق المدينة دار هجرة ورباط كما كانت قبل فتح مكة؛ بل قد قال ﷺ: «لا هجرة بعد الفتح؛ ولكن جهادٌ ونية وإذا استنفرتم فانفروا» وصارت الثغور أطراف أرض الحجاز المجاورة لأرض الحرب: أرض الشَّام وأرض العراق. ثم لما فتح المسلمون الشَّام والعراق صارت الثغور بالشَّام سواحل البحر؛ كعسقلان وعكَّة وما جاور ذلك. وبالعراق عبادان ونحوها؛ ولهذا يكثر ذكر (عسقلان) و (عبادان) في كلام المتقدمين؛ لكونهما كانا ثغرين وكانت أيضا (طرطوش) ثغرًا لما كانت للمسلمين ولما أخذها الكفَّار صار الثغر ما يجاور أرض العدو من البلاد الحلبيَّة»([30]).

وبناءً على ذلك فإنَّا نراه رحمه الله يحدث تقسيمًا ثالثًا مع التقسيمين الأوليين (دار الإسلام) و(دار الكفر) وهو المسمى بـ(الدار المركَّبة) ففي سؤال جاء إليه رحمه الله عن بلد (ماردين) هل هي بلد حرب أم بلد سلم؟ قال:

 «أمَّا كونها دار حرب أو سلم فهي مركَّبة: فيها المعنيان؛ ليست بمنزلة دار السِّلم الَّتي تجري عليها أحكام الإسلام؛ لكون جندها مسلمين؛ ولا بمنزلة دار الحرب الَّتي أهلها كفَّار؛ بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقُّه ويعامل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقُّه»([31])([32]).

 إذن فالأساس الَّذي قام عليه تقسيم الأقاليم إلى دار إسلام ودار كفر أو حرب أساس اجتهادي لا نصَّ عليه صريح، ولهذا لم يتوقف رحمه الله في إحداث اسم جديد لدار ثالثة سمَّاها بالمركَّبة وإن كان رحمه الله من المتحفظين في مجال المحدثات.

وبالإضافة إلى ذلك أن تحقق وصف الإسلام أو (السِّلم) إنما يكون بحصول الأمان بإقامة الشَّعائر، لا بما يدعيه المتطرِّفون من غلبة الأحكام.

وإنَّ الإصرار على استخدام المصطلحين في هذه العصر الذي عرف تطورًا ملحوظًا في الأنظمة السياسيَّة وفي المعاهدات الدوليَّة الَّتي تحفظ حقوق الناس في ممارسة شعائرهم، وذلك مما لم يكن متوفرًا من قبل، لممَّا يؤكِّد على تشهٍّ مقصودٍ لهذه الجماعات.

 

([1]) انظر: حاشية البيجوري على الجوهرة المعروفة بـ: تحفة المريد على جوهرة التوحيد(ص 322) تحقيق: أ.د علي جمعة، دار السلام، القاهرة، الطبعة الأولى، 1422هـ- 2002م.

([2]) المرجع السابق، نفس الصفحة.

([3]) انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (8/ 242) الصادرة من وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية الكويتية، دار السلاسل، الكويت، الطبعة الثانية.

([4]) انظر: لسان العرب. (باب العين، فصل الشين مع الراء).

([5]) المرجع السابق.

([6]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (71)، ومسلم في كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة (1037) من حديث معاوية.

([7]) انظر: حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع (50- 57) دار الكتب العلمية.

([8]) انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (32/ 194) الطبعة الأولى، مطابع دار الصفوة، مصر.

([9]) انظر: المنهاج القويم شرح المقدمة الحضرمية (ص 8) لابن حجر الهيتمي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1420هـ- 2000م.

([10]) انظر: المدخل الفقهي العام (1/ 153، 154) مصطفى الزرقا، دار القلم، دمشق، الطبعة الثانية، 1425هـ- 2004م.

([11]) انظر: فتح القدير (5/ 434) للكمال ابن الهمام، دار الفكر، بيروت.

([12]) انظر: الموافقات (2/ 9) للشاطبي، تحقيق: عبدالله دراز، دار المعرفة، بيروت.

([13]) انظر: مجموع الفتاوى (29/ 133) لابن تيمية عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1416هـ- 1995م.

([14]) المرجع السابق (29/ 138).

([15]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب، باب إذا خاصم فجر (2459)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان خصال النفاق (58).

([16]) متفق عليه بنحوه؛ أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب علامة المنافق (33)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق (59) من حديث أبي هريرة.

([17]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب الفتن، باب إذا قال عند القوم شيئا ثم خرج فقال بخلافه (7111)، ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب تحريم الغدر (1735).

([18]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب في الرجل يشترط لها دارًا (2139)، ومسلم في كتاب النكاح، باب الوفاء بالشروط في النكاح (1418).

([19]) أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب في الإمام يستجن به في العهود (2758)، وابن حبان (4877).

([20]) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب الوفاء بالعهد (1787).

([21]) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في التشديد في الكذب (4991). قال العراقي: « رواه أبو داود وفيه من لم يسم وقال الحاكم أن عبد الله بن عامر ولد في حياته ﷺ ولم يسمع منه. قلت: وله شاهد من حديث أبي هريرة وابن مسعود ورجالهما ثقات إلا أن الزهري لم يسمع من أبي هريرة» انظر: المغني عن حمل الأسفار في الأسفار (ص 1026) لأبي الفضل زين الدين عبد الرحيم العراقي، دار ابن حزم، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1426هـ- 2005م.

([22]) أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب إثم من باع حرًّا (2227).

([23]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب الاعتكاف، باب الاعتكاف ليلًا (2032)، ومسلم في كتاب الأيمان، باب نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم (1656).

([24]) أخرجه أبو داود في مراسيله (519). قال المناوي: «رواه ابن وهب عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم قال في المنار: وهشام ضعيف». انظر: فيض القدير (6/ 360) للإمام زين الدين المناوي، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، الطبعة الأولى، 1356هـ.

([25]) أخرجه ابن وهب في الجامع في الحديث (208).

([26]) أخرجه أحمد في مسنده (9836) من حديث أبي هريرة. قال الهيثمي: «رواه أحمد من رواية الزهري عن أبي هريرة ولم يسمعه منه». انظر: مجمع الزوائد (1/ 143) للهيثمي، تحقيق: حسام الدين القدسي، مكتبة القدسي، القاهرة، 1414هـ- 1994م.

([27]) أخرجه بلفظ «المسلمون» الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما ذكر عن رسول الله ﷺ في الصلح بين المسلمين (1352) وابن ماجه في كتاب الأحكام، باب الصلح (2353). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

([28]) انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 261) لابن القيم، تحقيق: محمد عبد السلام إبراهيم، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1411هـ-1991م.

([29]) مجموع الفتاوى (27/ 45).

([30]) المرجع السابق (27/ 249).

([31]) المرجع السابق (28/ 241).

([32]) ما أثبتناه في كلام الشيخ ابن تيمية هو الصواب وهو قوله: «يعامل» بدلًا من «يقاتل». يقول الدكتور أسامة الأزهري: « ثم بدأ عدد من العلماء المعاصرين بدراسة هذه الفتوى من مدخل آخر، وهو تنويع ابن تيمية بين كلمة «يقاتل» مقابل كلمة «يعامل» وتأكَّد أنَّ هناك التباسًا، خصوصا أنه عن البحث في هذه الزاوية ومراجعة المصادر، فوجد العلماء أن ابن مفلح وهو محرِّر ومتقنٌ في نقل مذهب الحنابلة ويحكي عبارات ابن تيمية، قد نقل الفتوى، فإذا بها: «يعامل المسلم بما يستحق ويعامل الخارج عن الشريعة بما يستحق» وفارق كبير بين «يعامل» و يقاتل» ، «يعامل» تعنى دراسة للوضع الاجتماعي والقانوني والتركيبة الثقافية والفكرية ومراعاة أعرافها وتقاليدها وهذا شيء مختلف تماما عن مدلول كلمة «يقاتل». وكان الشيخ رشيد رضا قد نقلها في مجلة المنار على الصواب، لكن هذا التَّصحيف قد وقع أوَّل ما وقع في طبعة فتاوى ابن تيمية التي أخرجهَا فرج الله الكردي، سنة 1327هـ ثم تبعه على ذلك الخطأ عبد الرَّحمن القاسم في مجموع الفتاوى، ج 28، ص 248، وأصبح النَّص المحرف هو المشهُور والمتداول لشهرة تلك الطَّبعة وتداولها. وغيابُ التوثيق وافتقاد قواعد العلم ومفاتحيه تؤدي إلى كوارثَ، ونصفُ العلم أخطَر من اللَّاعلم. فإنَّ غياب التوثيق في هذه الفتوى أدَّى إلى تحريفها بشكل أهدر دمَاء المسلمين وغيرهم، وأضرَّ بمقاصد الشريعة وأهدافها، وتسبَّب في تشويه صورة الإسلام والمسلمين، وخاصَّة أنَّ ترجمة الفتوى إلى اللُّغة الإنجليزية والفرنسيَّة قد اعتمدَتْ على النَّص المحرَّف. فقام العلَّامة الكبير الشَّيخ عبد الله بن بيَّة بترتيب عملٍ بحثيٍّ دقيقٍ، استعانَ فيه بعددٍ من الخبراء للوصول إلى النُّسخة المخطوطَة من تلك الفتْوَى لابنِ تيمية، في المكتبة الظَّاهرية بدمشق، رقم 2757 مكتبة الأسد فإذا بها «يعامل» وليست «يقاتل». ثم انعقَدَ مؤتمر في مدينة ماردين بتركيا، بتاريخ ربيع الثاني سنة 1431هـ بحضور عددٍ من العلماءِ والفقَهاء وصدر عنه بيانٌ يشْرَح ذلك. وشارك الأزهرُ الشَّريف في ذلك من خلال دراسةٍ تؤكِّد ذلك، ومن خلال بيانٍ علميٍّ، أعدَّها مفتي الدِّيار المصرية فضيلة العلَّامة الكبير علي جمعة وكان بحث فضيلتِه من ضمن مرتكزات مؤتمر ماردين.

فكفى اعتمادًا على كتابات المتحمِّسين والهواة والمحبين والمندفعين، الذين لا يعتمدُون إلَّا على ملكة أدبيَّة أو حماسيَّة، فيخوضون بها في أحكام دقيقة شديدة الصُّعوبة، ويخرجُون بأفهام خاطئة، وتأويلات منحرفة، ثم يحوِّلون بها دينَ الله إلى شقاء في أعين العباد ». انظر: الحق المبين في الرد على من تلاعب بالدين (80- 84) دار الفقيه، أبو ظبي- الإمارات العربية المتحدة، الطبعة الثانية، 1436هـ- 2015م.

جاءت الشريعة الإسلامية لرفع الظلم بين الناس، والنهي عن سيء الأخلاق كسوء الظن، واتهام الغير والحكم عليه دون وجه حق؛ لتحقق العدل وترفع من شأنه، ولتؤكد على حقوق الفرد في المجتمع وحريته وحرمته التي كفلها له الشرع الشريف، بل وجعلت لمن يجترئ على هذه الحدود والحقوق عقوبة شديدة في الدنيا والآخرة


يعدُّ تقسيم الأرض إلى قسمين: دار حرب ودار إسلام؛ من المسائل ذات الأهمية البالغة عند الجماعات المتطرفة، وهي مع كونها ظهرت كمسألة فقهية في تراثنا الإسلامي؛ إلا أنها برزت عند المتشددين كمسألة أشبه بمسائل العقيدة التي يجب الإيمان بها والعمل بمقتضاها حتى ارتقت عندهم لمرتبة الضروري من الدين، فلا تقبل النقاش والاجتهاد، وهذا العوار الفكري ما كان إلا لفهم سقيم اتسموا به، وشهوة لأفعال وجدوا في هذه المسألة ورقة تبرير لمداراتها تحت عباءة الشرع.


جعل الله سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وجعل رسالته خاتمة الرسالات السَّماوية، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ [الأحزاب: 40] وإذا كان الحال كذلك فإنَّ شريعته صلى الله عليه وسلم خاتمةُ الشَّرائع، وهذا يعني أن هذه الشريعة شريعةٌ باقية، شريعة ممتدة لم تكن لوقته صلى الله عليه وسلم وزمنه المبارك فحسب، بل هي صالحةٌ في زمننا هذا وصالحة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها يوم القيامة.


خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان في هذه الحياة الدنيا لغاية كبرى وهي العبودية لله جل وعلا، وسخر له هذا الكون من أجل هذه الغاية، وأمره بالسعي لإقامة مصالحه والأخذ بأسباب السعادة في الدنيا والآخرة، وأودعه النفس البشرية التي جعلها بعيدة الأغوار مختلفة المنازع والمشارب، ووهبه عقلًا يدرك به الأشياء على حقيقتها، وعلم سبحانه أنه لا يهتدي إلى تحقيق الغاية وإصلاح معاشه والتأهُّب لمعاده إلا بمنهج مستقيم واضح، يوضح له تلك الغاية، ويبين له سُبُلها، ويكبح جماح نفسه عن سبل الغواية والضلال، ويضبط موازين عقله فلا يجنح إلى الأهواء والفساد.


في هذا المبحث سنتناول الكلام عن دار الإفتاء المصرية في الحد من الفتاوى الشاذة، وهذا المبحث يستلزم في بدايته أن نمهد تمهيدًا يسيرًا عن دار الإفتاء وأنَّها جزء من النسيج المصري.


مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 27 أبريل 2025 م
الفجر
4 :42
الشروق
6 :16
الظهر
12 : 53
العصر
4:29
المغرب
7 : 30
العشاء
8 :53