يعدُّ تقسيم الأرض إلى قسمين: دار حرب ودار إسلام؛ من المسائل ذات الأهمية البالغة عند الجماعات المتطرفة، وهي مع كونها ظهرت كمسألة فقهية في تراثنا الإسلامي؛ إلا أنها برزت عند المتشددين كمسألة أشبه بمسائل العقيدة التي يجب الإيمان بها والعمل بمقتضاها حتى ارتقت عندهم لمرتبة الضروري من الدين، فلا تقبل النقاش والاجتهاد، وهذا العوار الفكري ما كان إلا لفهم سقيم اتسموا به، وشهوة لأفعال وجدوا في هذه المسألة ورقة تبرير لمداراتها تحت عباءة الشرع.
نرى هذا الانحراف في نصوصهم كما جاء عند أبي عبدالله المهاجر في كتابه (مسائل من فقه الجهاد) يقول:
«من قطعيات أهل الإسلام التي من أنكرها أو جادل فيها كان كافرًا كفرًا أكبر مخرجًا من الملة، عموم بعثته ﷺ للنَّاس كافَّة، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فرسول الإسلام محمد صلوات ربي وسلامه عليه أرسله الله تعالى للنَّاس جميعًا أين كانوا، ومتى كانوا، وجعل دينه الدين الخاتم المهيمن على ماسبقه، فهو ﷺ مرسل للعرب والعجم، والأبيض والأسود، وكل أجناس البشر من بني آدم بل مرسل للثقلين معًا، الإنس والجن، في كل زمان ومكان، لا استثناء في ذلك بأيِّ وجه من الوجوه... وكما هي سنَّة الله تعالى القدرية في جميع الدَّعوات السَّابقة بانقسام الخلق إزاءها إلى قسمين مستجيبين ومعرضين: أي مؤمنين وكفَّار، فآمنت به طائفة وهم المسلمون، وكفرت به طائفة وهم الكفَّار على اختلاف أجناسهم وألوانهم وديارهم.
وبانعقاد العداوة بين الفريقين، تسلَّط الكفَّار بما يملكون من القوَّة والشوَّكة على المسلمين بشتَّى أنواع الأذى ليفتنوهم عن دينهم، ويردُّوهم عن دعوة النَّبيِّ ﷺ، فأمر الله تعالى رسوله بالتحوُّل عن مكة- دار الكفر- حيث الكلمة للكفَّار بقوتهم وغلبتهم، والهجرة إلى المدينة حيث آمن به ﷺ رجال لهم قوَّة ومنعة، بايعوه على نصرة الإسلام –بيعة الحرب- بكل ما أوتوه من قوَّة في وجه الخلق كافَّة: عربهم وعجمهم.
فانحاز المسلمون إلى المدينة، وصارت القوة والشوكة فيها لهم بصورة مطلقة، فأصبح للمسلمين دار خاصَّة بهم يتميزون فيها عن غيرهم، وتنسب لهم، ويطبقون فيها أحكام دينهم التي ارتضاها الله لهم، ويعلون فيها كلمته، ووجبت الهجرة على كلِّ مسلم إلى هذه الدار كونها غدت (دار الإسلام)... قال تعالى: ﴿ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ﴾[النساء: 97].
وقال تعالى كذلك: ﴿ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ﴾[الأنفال: 72].
وعن بريدة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله ﷺ إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصَّته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا ثم قال: «اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله؛ اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوَّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيَّتهن ما أجابوك، فاقبل منهم، وكفَّ عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكفَّ عنهم ثم ادعهم إلى التحوُّل من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنَّهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين؛ فإن أبوا أن يتحوُّلوا منها فأخبرهم أنَّهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلَّا أن يجاهدوا مع المسلمين...»([1]).
وبذلك انقسم العالم وإلى أن يأتي أمر الله إلى دارين: دار إسلام، ودار كفر، غير أن الهجرة الخاصَّة إلى المدينة انقطعت بفتح مكة، وبقي حكم الهجرة العامَّة إلى دار الإسلام من دار الكفر ما قامت أسبابه لعموم الأدلة السابقة...» إلى أن قال بعد عدة نصوص نقلها عن المفسرين: «وهذا كلُّه ظاهر في انقسام العالم إلى دارين: دار إسلام ودار كفر وحرب، واستقرار هذا التقسيم، وترسُّخه كمعلوم من الدِّين بالضَّرورة»([2]).
ويقول محمَّد عبد السَّلام فرج في كتابه (الفريضة الغائبة) تحت عنوان «الدَّار الَّتي نعيش فيها»:
«ويبدو هنا تساؤل، هل نحن نعيش في دولة إسلامية؟ من شروط الدَّولة الإسلامية أن تعلوها أحكام الإسلام، وأفتى الإمام أبو حنيفة أنَّ دار الإسلام تتحوَّل إلى دار كفر إذا توفَّرت ثلاث شروط مجتمعة:
أن تعلوها أحكام الكفر.
ذهاب الأمن للمسلمين.
المتاخمة أو المجاورة. وذلك بأن تكون تلك الدار مجاورة لدار الكفر بحيث تكون مصدر خطر على المسلمين وسببًا في ذهاب الأمن.
وأفتى الإمام محمَّد والإمام أبو يوسف- صاحبي أبي حنيفة- بأنَّ حكم الدَّار تابع للأحكام التي تعلوها، فإن كانت الأحكام الَّتي تعلوها هي أحكام الإسلام (فهي دار الإسلام)، وإن كانت الأحكام الَّتي تعلوها هي أحكام الكفر (فهي دار كفر)، وأفتى شيخ الإسلام ابن تيميَّة في كتابه الفتاوى؛ عندما سئل عن بلد تسمى (ماردين) كانت تحكم بحكم الإسلام، ثم تولَّى أمرها أناس أقاموا فيها حكم الكفر، هل هي دار حرب أو دار سلم؟فأجاب أنَّ هذه مركَّب فيها المعنيان؛ فهي ليست بمنزلة دار السِّلم التي يجري عليها أحكام الإسلام، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفَّار، بل هي قسم ثالث، يعامل المسلم فيها بما يستحق، ويعامل الخارج على شريعة الإسلام بما يستحقه، والحقيقة أنَّ هذه الأقوال لا تجد تناقضًا بين أقوال الأئمة، فأبو حنيفة وصاحبيه لم يذكروا أنَّ أهلها كفَّار، فالمسلم لن يستحق السلم والحرب»([3]).
وقال سيِّد قطب في تفسيره الظِّلال: «ينقسم العالم في نظر الإسلام وفي اعتبار المسلمين إلى قسمين لا ثالث لهما:
الأوَّل: دار إسلام، وتشمل كلُّ بلد تطبق فيه أحكام المسلمين، وتحكمه شريعة الإسلام سواء كان أهله كلُّهم مسلمين، أو كان أهله مسلمين وذميين، ولكن غلب على بلادهم حربيُّون، غير أنَّ أهل البلد يطبِّقون أحكام الإسلام، ويقضون بينهم حسب شريعة الإسلام، فالمدار كله في اعتبار بلد ما (دار إسلام) هو تطبيقه لأحكام الإسلام وحكمه بشريعة الإسلام.
الثاني: دار الحرب، وتشمل كلُّ بلد لا تطبق فيه أحكام الإسلام، ولا يحكم بشريعة الإسلام؛ كائنًا أهله ما كانوا، سواء قالوا: إنَّهم مسلمون، أو إنَّهم أهل كتاب، أو إنَّهم كفَّار. فالمدار كلُّه في اعتبار بلد ما (دار حرب) هو عدم تطبيقه لأحكام الإسلام، وعدم حكمه بشريعة الإسلام، وهو يعتبر (دار حرب) بالقياس للمسلم وللجماعة المسلمة»([4]).
وقال رفاعي طه أحد أشهر قياديِّ الجماعة الإسلامية المتطرِّفة: «دار الإسلام: هي الدَّار الَّتي تقبل منهج الله عزَّ وجلَّ دينًا وسلوكًا وقانونًا وتشريعًا وسياسةً واقتصادًا، ويحكمها أئمة العدل لا الجور، وقد اختارتهم الأمة اختيارًا صحيحًا وسطًا بواسطة أهل الحلِّ والعقد، وهم الذين حازوا رضى الأمَّة من أهل العلم والرَّأي والصَّلاح وأصحاب الشَّوكة وغيرهم»([5]).
وقال أيضًا: «إنَّ الدُّور تأخذ حكم الأحكام التي تعلوها فإن علتها أحكام الكفار وصارت قوانينهم نافذة وهي الَّتي تحكم البلاد والعباد صارت هذه البلاد دار حرب وكفر، وإن كان أكثر أهلها من المسلمين ووجب على المسلمين استنقاذها ممن تغلَّب عليها من الكافرين؛ وإن تسمَّوا بأسماء المسلمين، وإن علت البلاد أحكام الإسلام وصارت قوانينهم قوانين الإسلام وتشريعاته نافذة، وهي التي تحكم البلاد والعباد صارت هذه البلاد دار إسلام وإن كان أكثر أهلها من الكافرين ووجب على المسلمين حمايتها والدفاع عنها»([6]).
إن القارئ المتمعِّن لكلام هؤلاء الذين توحَّدت مذاهبهم وآثارهم من الفساد والإفساد في الأرض يلاحظ الآتي:
أولًا: أن تسمية البلد بأنها دار إسلام أو كفر عندهم مبنية على ظهور أحكام الشَّريعة الإسلامية من عدمه، ومن المعلوم أن مرادهم بظهور تلك الأحكام في تلك البلاد أنَّها أحكام لا تكون بنصوص قانون أو دستور، بمعنى عدم التدخل البشري في عمل قانون أو وضع دستور، وإن نصَّ هذا القانون أو الدستور أن الشَّريعة الإسلامية هي مصدر التشريع، أو استقاء القانون، وقد اختصت الأحكام عندهم كما هو معلوم من كتبهم بالإجراءات العقابية وهي الحدود، فما لم تطبق الحدود فإن هذه الدار دار كفر!
ثانيًا: أنَّ انقسام البلاد إلى دار إسلام ودار كفر انقسام نصَّ عليه الشرع عندهم فهو أمر ثابت لا يتغير، وأنَّ إنكاره لا يجوز كما يقول منظِّرهم أبو عبدالله المهاجر المعروف بـ (فقيه الدم) بعد نقله لعدة نصوص من كتب الفقهاء والمفسرين: «وهذا كله ظاهر في انقسام العالم إلى دارين: دار إسلام ودار كفر وحرب، واستقرار هذا التقسيم وترسُّخه كمعلوم من الدين بالضرورة»([7]). ومن المعلوم أن ما يسمى بالضروري من الدين أمر عقدي.
ونحن في هذا المبحث نتعرَّض لهذا الانحراف الفكري في فهم نصوص الفقهاء من خلال هذه النقاط:
النقطة الأولى: مفهوم مصطلحي دار الكفر ودار الإسلام عند الفقهاء، ومدار التَّسمية.
النقطة الثَّانية: مصطلحا دار الإسلام ودار الكفر بين الشَّريعة والفقه.
النقطة الثالثة: مصطلحا دار الإسلام ودار الكفر بين مقاصد الشَّريعة ومقاصد المتطرِّفين.
([1]) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث، ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها (1731).
([2]) مسائل من فقه الجهاد (ص 15، 16) عبد الرحمن العلي المعروف بأبي عبدالله المهاجر، والكتاب متوفر على شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت).
([3]) الفريضة الغائبة (ص 4، 5) محمد عبدالسلام فرج، والكتاب متوفر بشبكة المعلومات الدولية (الإنترنت).
([4]) في ظلال القرآن (2/ 873، 874) سيد قطب إبراهيم حسن الشاربي، دار الشروق، بيروت، القاهرة، الطبعة السابعة عشر، 1412هـ.
([5]) إماطة اللثام عن بعض أحكام ذروة سنام الإسلام (ص 121) رفاعة طه، والكتاب متوفر على شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت).
([6]) المرجع السابق (ص 128).
([7]) مسائل من فقه الجهاد (ص 16).