في هذا المبحث سنتناول الكلام عن دار الإفتاء المصرية في الحد من الفتاوى الشاذة، وهذا المبحث يستلزم في بدايته أن نمهد تمهيدًا يسيرًا عن دار الإفتاء وأنَّها جزء من النسيج المصري.
تمهيد:
دار الإفتاء المصرية حصن من حصون حفظ الشريعة في جمهورية مصر العربية الذي يحمل على عاتقه عبء الإفتاء والقائم عليها هو مفتي الديار المصرية، وتحته لفيف من العلماء والمشايخ المتخصصين في الفتوى والمسائل والأحكام الشرعية، ومنصب مفتي الديار المصرية يعد من أجَلِّ المناصب في الدولة فهو الذي يرى أمورًا كثيرة في واقعه ويكون شاهدًا على أحداث عظيمة وجسيمة تستدعي منه وممَّن تحت إدارته من العلماء والمشايخ الأناة والصبر في صدور الفتوى الشرعية.
ولسنا في هذا المضمار فقط نعظم من شأن الفتوى داخل مؤسسة دار الإفتاء، بل إننا نذكر ذلك لنبين أن أمر الإفتاء من الأمور العظيمة بالفعل، وقد شهد الزمان على ذلك من خلال تتبع الإفتاء في مصر على وجه الخصوص من عهد الصحابي عقبة بن عامر إلى يومنا هذا، وخاصة في تاريخ مصر الحديث؛ فعندما تكوَّنت وزارة الحقانية- العدل حاليًّا- كان على رأسها الفقيه الحنفي الكبير قدري باشا، وكان لهذه الوزارة مفتٍ قائمٌ على أمورها وهو في وقت قدري باشا الشيخ محمد البنا، وكانت هناك وظيفة مفتي صعيد مصر والتي تولاها في وقت من الأوقات الشيخ مخلوف المنياوي المالكي، وكان مفتي الديار المصرية الشيخ محمد المهدي العباسي صاحب الفتاوى المهدية([1])، وتعدُّد هذه الوظيفة في بدايتها ينم عن حرص القائمين على الشأن الديني على مراعاة مصالح العباد وجَعْل كل قطر من أقطار الدولة المصرية يمتثل لما تقوله الشريعة ويفصل فيه العلماء وتتبعه العباد، بل وتلجأ إلى أولئك العلماء في أمورهم كلها صغيرها قبل كبيرها، ومن ثَمَّ فإن هذا الاستمساك العظيم بتلالبيب الحياة الدينية لا يُسوِّغ بأي حال من الأحوال صدور فتوى شاذة من غير متخصص أو حتى من متخصص لا يعمل بالهيئة الإفتائية، ومن هنا أيضًا ينعم المجتمع بالاستقرار وتهدأ أوضاع أفراده، من أجل ذلك كان لابد لنا أن نعرج على البحث حتى يتسنى لنا بيان دور دار الإفتاء في الحد من الفتاوى الشاذة، وهذا يقتضي أن نتكلم عن هذا الموضوع من خلال الآتي:
1- نشأة دار الإفتاء ودورها الريادي في صون الفتاوى الشرعية.
2- دور الدار في مواجهة الفتاوى الشاذة.
1- نشأة دار الإفتاء ودورها الريادي في صون الفتاوى الشرعية:
تُعدُّ دار الإفتاء المصرية من أول دور الإفتاء في العالم الإسلامي؛ حيث أنشئت عام 1895م بالأمر العالي الصادر من حضرة خديوي مصر عباس حلمي؛ الموجَّه لنظارة الحقانية بتاريخ 21 نوفمبر عام 1895م، ومنذ إنشائها وإلى الآن، تقف دار الإفتاء المصرية شامخةً في طليعة المؤسسات الإسلامية التي تتحدث بلسان الدين الحنيف، وترفع لواء البحث الفقهي بين المشتغلين به في كل بلدان العالم الإسلامي، فتقوم بدورها التاريخي والحضاري في وصل المسلمين المعاصرين بأصول دينهم وتوضيح معالم الطريق إلى الحق، وإزالة ما التبس عليهم من أحوال دينهم ودنياهم؛كاشفةً عن أحكام الإسلام في كل ما استجدَّ على الحياة المعاصرة، وهي أيضًا أحد أعمدة المؤسسة الدينية في مصر، بهيئاتها الأربع الكبرى: الأزهر الشريف، وجامعة الأزهر، ووزارة الأوقاف، ودار الإفتاء المصرية. وهي تقوم بدور مهمٍّ وكبير في إفتاء القاعدة الجماهيرية العريضة، وفي المشورة على مؤسسات القضاء في مصر.
بيد أنه في هذا الأمر لابد أن نتكلم عن الدور الرِّيادي الذي تحققه دار الإفتاء المصرية، ويمكن التعرُّف على ذلك الدور بمطالعة سجلات الفتاوى منذ نشأة الدار وإلى الآن؛ حيث ترد إليها الفتاوى من جميع أنحاء العالم الإسلامي، وترد إليها البعثات من طلاب الكليات الشرعية من جميع بلدان العالم الإسلامي لتدريبهم على الإفتاء ومهاراته لتأهيلهم للاشتغال بالإفتاء في بلادهم، وتقوم كذلك باستقبال قضاة الأحوال الشخصية في البلاد الإسلامية للتدريب على أعمال الإفتاء فنيًّا وإداريًّا([2])، ولا شك أن هذا الدور نشأ من مرجعيتها العلمية ومنهجيتها الوسطية في فهم الأحكام الشرعية المستمدة من الفقه المتوارث على نحو من التوافق بين الرؤية الشرعية وحاجة المجتمع؛ وذلك لضبط العملية الإفتائية، ومع التطور الحاصل في وسائل الاتصالات والمواصلات في العالم ظلَّت دار الإفتاء المصرية تواكب هذا التطور الهائل وتضطلع بمهام جسام أملتها عليها تلك النقلة النوعية، وذلك الاتساع الضخم في الحوادث والنوازل المستحدثة في شتَّى المسائل العلمية.
أمَّا عن مهام الدار فإن للدار نوعين من المهام:
النوع الأول: المهام الدينية:
- وهي التي تكمن في إجابة الأسئلة والفتاوى باللغات المختلفة؛ سواء أكان ذلك عن طريق الإجابة المكتوبة أو الإجابة الشفوية أو الإجابة الهاتفية.
- وتكمن أيضًا في إصدار البيانات الشرعية المختلفة؛ فإنه من المعلوم أنه تَمرُّ من آن لآخر ظروف بالأمة الإسلامية تجعل من الواجب على أولي الأمر من العلماء أن يبيِّنُوا للناس القول الفصل في القضايا التي تُثَار على الساحتين الإقليمية والدولية؛ وذلك لمنع محاولات التضليل والتشكيك في ثوابت الدين، وإزالة أسباب الشِّقَاق والفتنة في المجتمعات المسلمة التي تأتي من قبل الجماعات المتطرفة بفتاويها الشَّاذة.
- وتكمن أيضًا في إعداد الأبحاث العلمية المتخصصة؛ حيث تقوم الدار بإعداد الأبحاث العلمية الشرعية بأسلوب أكاديمي متخصص في المسائل المستجدات وغيرها، مع عرض الأدلة ومناقشتها بتوسع واستفاضة، بما يسد ثغرة أساسية في مجال البحث العلمي الشرعي.
- وتكمن أيضًا في رد الشبهات عن الإسلام؛ فإنه نظرًا للهجمات الشرسة التي لا تتوقف على دين الإسلام، فإنه كان من اللازم القيام بالرد على مثل تلك الشبهات التي تشغب على الناس عقائدهم، وتساعد في إنشاء عقلية الخرافة التي جاء الإسلام لمواجهتها والقضاء عليها. وقد تم تخصيص فريق من الباحثين في الدار لتجميع تلك الشبهات، والرد عليها بالحكمة والبراهين العلمية.
النَّوع الثاني: المهام القانونيَّة:
وتتمثل تلك المهام في تقديم المشورة الشرعية للمحاكم المختصة في قضايا الإعدام؛ حيث تُحيلُ محاكم الجنايات وجوبًا إلى المفتى القضايا التي ترى بالإجماع وبعد إقفال باب المرافعة وبعد المداولة إنزال عقوبة الإعدام بمقترفها، وذلك قبل النطق بالحكم، وهذا الإجراء معمول به منذ صدور القانون الجنائي الوضعي ولائحة الإجراءات الجنائية في مصر في أواخر القرن التاسع عشر، وعمل المفتي فيه يتمثل في عرض الواقعة والأدلة التي تحملها أوراق الدعوى على الفقه الإسلامي، دون الالتزام بمذهب معين، وعند اختلاف الفقهاء يختار ما فيه صالح المجتمع([3]).
2- دور دار الإفتاء المصرية في مواجهة الفتاوى الشاذة:
لعل من أجل الأمور التي تعمل عليها دار الإفتاء المصرية في قضية مواجهة الفتاوى الشاذة هو ضبط الفتوى وتنظيمها الذي أصبح واجب الوقت ومهمة العقلاء الربانيين من علماء ودعاة وقادة مخلصين، وهذا التَّنظيم رسخته دار الإفتاء من خلال النظام الصارم الذي يدلل لنا أن الفتوى ليست سوطًا مُسلطًا على الرقاب والأعناق، وهي كذلك ليست صكوك عفو وغفران للمتلاعبين والعابثين بالمبادئ والقيم؛ لذلك رأت دار الإفتاء أن من أوجب الواجبات إعادة الاعتبار للفتوى ابتداءً باقتصارها على أهلها الشرعيين، ثم تطوير وظائفها من خلال اعتماد الهيئات والمؤسسات الخاصة بها، وإعداد الدراسات والبحوث المطورة لها، وعقد المؤتمرات والملتقيات والندوات المنظمة لشئونها على المستوى القُطْري والإقليمي والدولي، وذلك لأن الفتوى تضطلع بدور كبير في مواجهة الإفساد والتخريب من خلال النظر في تلك المتغيرات.
ورأت أيضا أنه ينبغي للفتوى أن تخصص لها منابر وقنوات ومواقع معتبرة تليق بوظيفتها وتُناسب مقامها، ويتفرغ لنقلها والتوسط بينها وبين جمهورها إعلاميون محترفون يتميزون بحسن الخُلق وسحر البيان، وعلى العلماء ورجال الثقافة والإعلام وأصحاب الكلمة والتأثير أن يصنعوا هيبة الفتوى في القلوب والضمائر، وأن لا يسمحوا لغير أهلها بالاشتغال بها صيانةً لجوهرها وحرصًا على قداستها.
ومن أجل إعادة هذا الاعتبار للفتوى ومن أجل مواجهة الفتاوى الشاذة فقد تم بدار الإفتاء المصرية إنشاء أمانة الفتوى في عهد الأستاذ الدكتور/علي جمعة حفظه الله، وهي لجنة تضم الهيئة العليا لكبار علماء دار الإفتاء المصرية؛ وذلك نظرًا لكثرة النوازل وتعدد الوقائع، والحاجة إلى الاجتهاد الجماعي الذي هو أبعد عن الخطأ من الاجتهاد الفردي، وتلبيةً لما أحدثته ثورة التكنولوجيا من كثرة الفتاوى الواردة إلى دار الإفتاء وتنوعها، وهذه الأمانة تقوم على تدريب المرشحين للانضمام لأمانة الفتوى، وذلك انطلاقًا من توجُّه الدار لرفع الكفاءة العلمية لأمناء الفتوى عن طريق التدريب العملي وتوارث الخبرة الإفتائية بين أجيال أمناء الفتوى بالدار، وقد أضحت هذه الأمانة أشبه بالمجمع الفقهي المتكامل؛ حيث تضم نخبة من علماء الشريعة الإسلامية، ويعاونها فريق من الباحثين الشَّرعيين في قسم الأبحاث الشرعية، وكل هؤلاء يصدرون الفتاوى التي تناسب الواقع، وتعمل على الحد من انتشار الفتاوى الشاذة التي تصدر في واقعنا المعاصر من قبل الجماعات المتطرفة. وفي سبيل إدراك الواقع الذي تصدر فيه الفتاوى الشاذة قامت دار الإفتاء المصرية بعمل عدد من البروتوكولات مع مجموعة من المؤسسات العلمية والأكاديمية؛ كي تمكّن أمانة الفتوى من الاستعانة بالخبرة العلمية عند الاحتياج إليها؛ لضمان أن تخرج الفتوى على أساس علمي مبني على تصور صحيح للواقع؛ حيث إن الفتوى مركَّبةٌ من الحكم الشرعي والواقع، وهي تختلف باختلاف الزمان والمكان والأشخاص والأحوال.
وأيضا تعمل الدار من خلال أقسامها على إصدار الأبحاث الشرعية الذي يضم مجموعة من الباحثين المتخصصين في العلوم الشرعية، وظيفتهم العمل على إنشاء الأبحاث المتخصصة وتأصيل الفتاوى تأصيلا شرعيًّا وتعميقها فقهيًّا خدمة للعملية الإفتائية على النحو المطلوب، لمواكبة التطور المستمر للواقع المعاش الذي أدَّى إلى اتساع حالات الاستفتاء وتنوعها، وإلى ظهور حالات جديدة، لم تكن موجودة في واقع المسلمين من قبل، ولا شك أن تلك الأبحاث بتنوعها الذي يعمل على تأصيل الفتاوى الشرعية، وهذا التأصيل لا شك أنه يعمل على تأكيد جانب الموثوقيَّة في الفتوى، ومن ثم يعمل أيضًا على عدم قبول الفتوى الشاذة وغيرها من الفتاوى التي تصدر من غير المتخصصين أو من غير المؤسسات الدينية.
ومن أجل الحد من الفتاوى الشاذة فإن دار الإفتاء تعمل من خلال مركز الاتصالات بها على تيسير العمل داخل الدار وتطويره، وذلك عن طريق إنشاء وإدارة مجموعة من أحدث النُّظم التقنية التي تخدم العملية الإفتائية؛ من حيث الربط بين طالبي الفتوى والقائمين على العملية الإفتائية بواسطة أحدث نُظُم الاتصالات الهاتف، والفاكس، وشبكة الإنترنت، وغيرها من وسائل الاتصال، و تيسير استخدام القائمين على العملية الإفتائية والبحثية بدار الإفتاء وتعامل مع الأدوات الحديثة التي تخدم البحث والتعامل مع المصادر الشرعية، واستخدام التقنية الحديثة في الجانب الإعلامي وفي الاتصال بالمؤسسات الأخرى؛ بغية توصيل رسالة دار الإفتاء على المستويين المحلي والعالمي، على النحو المطلوب، وهو النحو الذي يجعل المتلقي يثق تمام الثقة بتلك الفتاوى ويدع الفتاوى المضللة التي تهدم حياته.
([1]) انظر تفصيل ذلك الأمر في: منهج دار الإفتاء في المستجدات الفقهية (ص 59) وما بعدها- تأليف: مسعود صبري إبراهيم- صوت القلم العربي- مصر- الطبعة الأولى- 2010م.
([2]) انظر: منهج دار الإفتاء المصرية في المستجدات الفقهية (ص 77).
([3]) انظر أشكال الوظائف بدار الإفتاء المصرية في: منهج دار الإفتاء في المستجدات الفقهية (ص 69) وما بعدها.