المفتي موقع عن الله سبحانه، وترجمان لمراده عز شأنه، وإذا كان قد نسب الفتوى لذاته العلية فقال: قل الله يفتيكم، فإنما ينزل الحكم على الواقع المفتي، مستخلفا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أول من قام بمنصب الفتوى عن الله بوحيه المبين، فكانت فتاواه جوامع الأحكام وفيها فصل الخطاب.
ويتتبع الكتاب على مدار صفحاته تاريخ الإفتاء بمصر من لدن الصحابة الأجلاء: عقبة بن عامر الجهني، وعبد الله بن عمر بن العاص، مرورا بنخبة من التابعين وتابعي التابعين، وتلاميذ مالك والشافعي، ويعرض للمفتين في عصر الفاطميين، مرورا بالأيوبيين والمملوكيين، حتى ظهور منصب مفتي دار العدل، وهي منظمة قضائية كانت أشبه بنظام قضاء المظالم العباسي، وأول من أنشأها في مصر السلطان الظاهر بيبرس بجوار القلعة على نظام المذاهب الأربعة. وبعد اختفاء منصب مفتي دار العدل، ظهر منصب مفتي السلطنة العثمانية بالديار المصرية، الذي لم يستطع أن يملأ الساحة ويغني الناس عن طلب الفتيا عند شيوخ المذاهب وأعلامها ممن لم يتقلدوا منصبا رسميا للفتوى. وهكذا تحولت وظائف الإفتاء التطوعية تحت ضغط الأمر الواقع إلى وظائف رسمية أصبح للمفتين فيها دور قضائي وسياسي هام. وكان أول من جمع بين منصبي مشيخة الأزهر والإفتاء الشيخ محمد العباسي المهدي، ثم يتلو الكتاب بعد ذلك سيرة السادة المفتين الذين تولوا تباعا منصب دار الإفتاء المصرية، ومن أبرزهم: الشيخ محمد عبده، والشيخ محمد بخيت المطيعي، والشيخ عبد الرحمن قراعة، والشيخ عبد المجيد سليم، والشيخ حسن مأمون، والشيخ جاد الحق علي جاد الحق، والدكتور محمد سيد طنطاوي ونصر فريد واصل، والشيخ أحمد الطيب، والشيخ علي جمعة، حتى المفتي الحالي الدكتور شوقي علام.
ثم تتبع الكتاب مقرات دار الإفتاء المصرية رغم الغموض الشديد المحيط بها؛ إذ كان الإفتاء يسير في مصر بشكل شخصي غير مؤسسي، سواء كان الإفتاء بشكل رسمي أو تطوعي، وكان المفتي يجلس للفتوى عادة في نفس مكان درسه بالأزهر، أو في المحكمة إذا سئل هناك، وإن كنا نعرف أن الشيخ العباسي هو أول من تولى مشيخة رواق الحنفية، واتخذه مقرا له، ثم انتقل المقر مع الشيخ محمد البناء إلى سراي الحقانية، وفي هذه الفترة تغير لقب مفتي الحنفية إلى لقب مفتي الديار المصرية، وهكذا حتى تولى الشيخ محمد عبده منصب الإفتاء وظلت مقراته تتغير بتغير المشايخ حتى استقر أخيرا في مقره الحالي بحديقة الخالدين بالدراسة بجوار مشيخة الأزهر ونقابة الأشراف.
وإذا كان لنا أن نقر بالدور التاريخي والحضاري الذي تقوم به دار الإفتاء المصرية من خلال وصل المسلمين المعاصرين بأصول دينهم من خلال بيان الأحكام الشرعية ومتابعة البحوث الفقهية والأصولية ومعالجة ما التبس على المسلمين شرقا وغربا من أمور دينهم ودنياهم، وكل ما استجد على الساحة المعاصرة وفق معالم هادية وضوابط رشيدة أسس لها السادة الفقهاء الأكابر عبر العصور؛ إذا كان لنا الإقرار بذلك من غير لجاجة أو تغبيش على هذا الدور الهام الواضح للعيان، فإن التعريف بتاريخ دار الإفتاء المصرية وما وصلت إليه من مكانة كبيرة عند المسلمين من المهمات الجليلة التي تفرضها اللحظة التاريخية التي تمر بها أمتنا، والمحن التي تكاد تعصف بهويتنا، وتطيح بقيمنا وثوابت ديننا...