هناك رجلٌ عليه دَيْنٌ حَلَّ موعدُ سداده، لكنه لا يَزال مُتعسِّرًا في السداد، فهل يُجبَر على أن يستدين ثانيًا لسَدَاد الدَّيْن الأول الذي حَلَّ أجَلُه؟
الواجب على المقترض سداد ما عليه من دَين متى جاء موعد السداد وكان قادرًا على السداد والوفاء، فإن حلَّ أجل السداد ولم يزل المدين متعثرًا فالدائن مخيَّر بين إسقاط الدَّيْن، أو إمهاله إلى حين تيسُّر أحواله دون فرض زيادة عليه، تحرزًا من الربا، وإذا أمهله فترة للسداد فلا يلزمه الاستدانة ثانيًا لسداد دَيْنه الأول ولا يُجبر على ذلك، لكِنَّه إن فَعَل واستدان صحَّ منه ولا شيء عليه، إذا كان يرى في نفسه القدرة على السداد، وكلُّ ذلك حيث ثبت عذره وعجزه عن السداد، فإن ثبتت المماطلة مع قدرته على السداد فيجوز للغرماء الدائنين أن يطلبوا منه سداد ما عليه من دين، فإن وفَّى فبها ونعمت، وإلا وسطوا أهل الخير والصلاح بينهم لسداد دينهم، فإن أصرَّ المدين على عدم سداد ما عليه مع قدرته على السداد جاز للدائنين حينئذ رفع الأمر إلى القضاء؛ للفصل فيه، ورد الحقوق إلى أصحابها.
المحتويات
مِن المقرر أنَّ الشريعة مبناها على التيسير وجلب المنفعة ودفع المفسدة، حيث شُرعت المعاملات المالية وغيرها لتحقيق منافع الخلق وتلبية احتياجاتهم.
ومن المعاملات التي مَقصُودُها تنفيس الكربات وإقالة العثرات وإعانة المحتاج: القرضُ؛ لما يرمي إليه من الرِّفْق بالمحتاج والإحسان إليه دون نفعٍ يبتغيه الـمُقرض أو مقابلٍ يعود عليه؛ ولذا يضاعف الله به الأجر والثواب، كما جاء في قول الله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: 245]، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ [الحديد: 11].
وهو أيضًا ما نَصَّت عليه السُّنَّة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» أخرجه الإمام مسلم.
الشَّرْع كما حثَّ الـمُقرِضَ على إغاثة المتعسرين بتفريج كُرُباتهم، فكذلك حثَّ المدين على حُسن الأداء وعدم المماطلة في السداد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ» متفق عليه.
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (4/ 465، ط. دار المعرفة): [والمعنى: أنَّه يجب وفاء الدَّيْن ولو كان مُستحقُّه غنيًّا، ولا يكون غِنَاه سببًا لتأخير حقه عنه، وإذا كان كذلك في حَقِّ الغني فهو في حق الفقير أَولَى] اهـ.
إذا حلَّ موعد سداد الدَّيْن وكان الـمدين لا زال متعسِّرًا فمن مكارم الأخلاق وأجَلِّ الصفات أن يتجاوز أصحاب الحقوق، إمَّا بإسقاط الدَّيْن عن الـمدين الـمُتعسِّر، أو بتأخير الأجل وإمهاله إلى حين تيسُّر أحواله دون فرض زيادة عليه، حذرًا من الوقوع في الربا؛ قال تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 280].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كَانَ الرَّجُلُ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ: إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، قَالَ: فَلَقِيَ اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ» متفق عليه.
ومعناه: إذا أتيتَ إلى مَدِينٍ مُعسِرٍ -وهو: من لم يجد ما يَسُد به دَينَهُ- فتجاوز عنه بنحو إنظَارٍ وحُسنِ تقاضٍ، والتجاوُزُ التَّسامحُ في التقاضي، وقبولُ ما فيه نقصٌ يسيرٌ. يُنظر: "فيض القدير" للعلامة المُناوي (4/ 545، ط. المكتبة التجارية).
وقد أوجب الشرع الشريف على الدائن أن يُنْظِرَ المدين الـمُعْسِر عند حلول أجل الدَّيْن، وتأجيل ما عليه من ديون حتى يُوفَّق لسدادها؛ ففي "الصحيحين" عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «تَلَقَّتِ الْمَلَائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَقَالُوا: أَعَمِلْتَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا. قَالُوا: تَذَكَّرْ. قَالَ: كُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ فَآمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا الْمُعْسِرَ وَيَتَجَوَّزُوا عَنِ الْمُوسِرِ. قَالَ: قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: تَجَوَّزُوا عَنْهُ».
قال الإمام تاج الدين السُّبْكِي في "الأشباه والنظائر" (1/ 186، ط. دار الكتب العلمية) عند كلامه على قاعدة "الفَرْض أفضل مِن النَّفْل"، وبيان المستثنيات من هذه القاعدة: [أحدها: إبراء الـمُعسِر؛ فإنَّه أفضل مِن إنظاره، إنظاره واجب، وإبراؤه مستحب] اهـ.
ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى أنَّه لا يُجْبَر الـمَدين على الاستدانة ثانية لسداد دَيْنه الأول، غير أنَّه إن فعل واستدان ثانيًا -من غير إلزامٍ- لسداد الدَّيْن الذي حلَّ أجله فهو أمر جائز شرعًا، بأن كان يرتقب تفريج كُربته أو قدوم مالٍ له.
قال العَلَّامة أبو الحسين القُدُوري الحنفي في "التجريد" (6/ 2886، ط. دار السلام): [لا نُسلِّمُ أن المدين يلزمه بيع ماله، وإنما يلزمه قضاء الدَّيْن، ويجوز أن يستدينَ ويستقرض ويقضي الدَّيْن] اهـ.
وقال الشيخ الدسوقي المالكي في "حاشيته على الشرح الكبير" (3/ 270، ط. دار الفكر): [(قوله أي: لا يلزمه أن يتسلف) أي: يطلب مالًا على وجه السَّلَف لأجل وفاء غرمائه، وقوله: ولا قبوله أي: من غير طلب (قوله: فيه فضلٌ) أي: زيادة على الشراء (قوله: لأنه ابتِدَاء مِلك) أي: وابتداءُ المِلكِ واستحداثه لا يلزمه] اهـ.
وقال العَلَّامة ابن قاسم العَبَّادي الشافعي في "حاشيته على الغرر البهية" (3/ 73، ط. المطبعة الميمنية): [وعبارة العراقي: الثالثةُ أَنْ يحتاج إلى الاقتراض لمنفعةٍ أو لوفاءِ ما يلزمه من دَيْنٍ أو لإصلاحِ ضِياعه، ارتقابًا لارتفاع غَلَّاته أو لحلولِ دَيْنه أو لنَفاقِ أعيان ماله؛ فيَقْتَرِض] اهـ.
وقال الإمام ابن قُدَامة الحنبلي في "المغني" (4/ 337، ط. مكتبة القاهرة) عند كلامه عن الـمُفلِس: [ولا يُجْبَر على قبول هدية، ولا صدقة، ولا وصية، ولا قرضٍ] اهـ.
والدليل على ذلك: ما ورد عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا، فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: «تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ» فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ لِغُرَمَائِهِ: «خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ» أخرجه الإمام مسلم.
ومعنى هذا: أنه إذا ثبت إفلاس الرجل فيُمهِلُه الغرماء إلى أن يحصلَ له مالٌ، فيأخُذُوه، أو يأخذوا ما وجدوه من مال تحت يده، وليس لهم إلا ذلك، وما بقي لهم من دَيْن عليه يأخذوه بعد الإنظارِ وحصولِ المال للمُفلِس، وهو معنى قوله: «وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ». يُنظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمُظهِري (3/ 463، ط. دار النوادر).
فليس للغرماء إجبار المدين على التكسُّب أو الاستدانة لاستيفاء ما لهم عليه من دَيْن؛ قال الإمام الرَّمْلِي في "نهاية المحتاج" (4/ 330، ط. دار الفكر) في كلامه عن المفلس بعد تقسيم ماله وقد بقي عليه دَيْن: [(وليس عليه بعد القسمة أن يكتسب أو يُؤَجِّرَ نفسه لبقية الدَّيْن) لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: 280]، أمر بإنظاره ولم يأمر باكتسابه، وللخبر المارِّ في قصة معاذ: «وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ»] اهـ.
غير أن عدم الإجبار محله حيث ثبت عذره وعجزه عن السداد، أما حيث ثبتت المماطلة مع قدرته على السداد فحينئذ يجوز للغرماء الدائنين أن يطلبوا منه سداد ما عليه من دين، فإن وفَّى فبها ونعمت، وإلا وسطوا أهل الخير والصلاح بينهم لسداد دينهم، فإن أصرَّ المدين على عدم سداد ما عليه مع قدرته على السداد جاز للدائنين رفع الأمر إلى القضاء؛ للفصل فيه، ورد الحقوق إلى أصحابها.
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فعلى المقترض سداد ما عليه متى جاء موعد السداد وكان قادرًا على السداد والوفاء، فإن حلَّ أجل السداد ولم يزل المدين متعثرًا فالدائن مخيَّر بين إسقاط الدَّيْن، أو إمهاله إلى حين تيسُّر أحواله دون فرض زيادة عليه، تحرزًا من الربا، وإذا أمهله فترة للسداد فلا يلزمه الاستدانة ثانيًا لسداد دَيْنه الأول ولا يُجبر على ذلك، لكِنَّه إن فَعَل واستدان صحَّ منه ولا شيء عليه، إذا كان يرى في نفسه القدرة على السداد، وكلُّ ذلك حيث ثبت عذره وعجزه عن السداد، أما حيث ثبتت المماطلة مع قدرته على السداد فيجوز للغرماء الدائنين أن يطلبوا منه سداد ما عليه من دين، فإن وفَّى فبها ونعمت، وإلا وسطوا أهل الخير والصلاح بينهم لسداد دينهم، فإن أصرَّ المدين على عدم سداد ما عليه مع قدرته على السداد جاز للدائنين حينئذ رفع الأمر إلى القضاء؛ للفصل فيه، ورد الحقوق إلى أصحابها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
ما حكم اشتراط جميع الربح للمضارِب؟ فرجلٌ أعطى لآخرَ مبلغًا من المال ليتجر فيه مضارَبَةً، ونظرًا لقرب العلاقات بينهما والظروف المالية التي يمر بها هذا الآخَر (المُضَارِب)، اشترط عليه الرجلُ صاحبُ المال أن يكون جميع الربح له (للمُضَارِب)، واتفَقَا على ذلك وتراضَيَا عليه، فهل تصح هذه المعاملة شرعًا؟
ما هو حق الورثة في أسهم مات والدهم قبل سداد ما عليها من ديون؛ فوالدي استدان مبلغًا من شريكه مقابل نصيبه في المصنع، و لم يتمكن من السداد حتى مات، ولم يترك أيّ مبالغ نقدية تسمح بالسداد، ثم قام أحد الورثة بصفته وكيلًا عنهم بسداد هذا الدين، واسترجع ما كان يملكه والده في المصنع، فدفع بعض الورثة ما يخصّه في الدين، وامتنع بعضهم؛ فهل للورثة الذين لم يساهموا في دفع مبالغ الدين حقّ في هذه الأسهم؟ أو هي عملية بيع خارج قسمة الميراث؟
ما حكم رد الأمانة ناقصة؟ فقد كان لشخصٍ ما على شخصٍ آخر مبلغ ما على سبيل الأمانة، وحينما طالبه برد الأمانة ما كان من الشخص المُؤتمَن إلا أن رده إليه بعد أن خصم منه قيمة أشياء كان قد أعطاها لصاحب الأمانة قبل هذا على سبيل الهدية. فهل يحقُّ له ذلك؟
ما حكم انتقال الدين من ذمة المتوفى إلى ذمة أحد أقاربه؟ فقد توفي أخي، وقلت عند الصلاة عليه: "أيُّ دَيْنٍ على المرحوم في ذمَّتي"، وبعد الدفن صرفت أرملته مستحقاته من عمله بخلاف ما ترك من أموال وهي سيارة خاصة، فهل يسدد الدين من ماله أم أنا ملزم به؟ ويطالبني أخوها بمؤخر الصداق وعدَّه دَينًا على المتوفى وألزمني به، فهل أسدده، أم يؤخذ من ماله؟
هل الأفضل إعطاء فقير واحد ما يكفيه لإقامة مشروع كبير أو إعطاء أكثر من فقير قروضًا صغيرة؟ فنحن جمعية خيرية، ضمن أنشطتها منح قروض حسنة (بدون أي فائدة) لبعض الفقراء القادرين على العمل بهدف إقامة مشروعات تدرُّ عليهم دخلًا يعينهم على الحياة.
ما حكم صرف مبلغ مؤخر صداق الزوجة من مستحقات زوجها المتوفى قبل توزيعها على الورثة؟ فنحن شركة تعمل في مجال الخدمات البترولية وقد توفي أحد العاملين بالشركة وتقدمت زوجته بطلب للشركة مرفق به وثيقة عقد زواجها من المتوفى مثبت بها صداق وقدره عشرون ألف جنيه، وكذا إشهاد وفاة ووراثة مثبت به أنها أحد الورثة، ويتضمن طلبها أن تقوم الشركة بصرف مبلغ مؤخر الصداق لها من مستحقات زوجها والتي تتضمن: (صافي مستحقات (التركة)، ومكافأة نهاية الخدمة، وقيمة التعويض المستحق من التأمين الجماعي، ومصاريف الجنازة) قبل توزيعها على الورثة، وفي ضوء ما سبق نلتمس من سيادتكم إفادتنا بفتوى في تلك الحالة حتى يتسنى للشركة استقطاع مبلغ مؤخر الصداق المشار إليه من التركة وصرفه للمذكورة من عدمه.