ما حكم الشرع فيمن بتعمَّد السخرية والاستهزاء من أصحاب الاضطرابات والمشاكل النفسية؛ كـ«مرضى التَّوحُّد»، و«مرضى متلازمة داون»؟
التنمّر والسخرية والاستهزاء من المرضى أصحاب الاضطرابات والمشاكل النفسية بجميع صوره مذمومٌ شرعًا، ومَجَرَّمٌ قانونًا؛ وذلك لما يشتمل عليه من الإيذاء والضرر الـمُحَرَّمين، إضافةً لخطورته على الأمن المجتمعي من حيث كونه جريمة.
وتناشد دار الإفتاء المصريَّة جميع فئات المجتمع بالتصدي لهذه الظاهرة، ومواجهتها، وتحَمُّل المؤسسات التعليمية والدعوية والإعلاميَّة دورها من خِلالِ بيان خطورة هذا الفعل والتوعية بشأنه؛ بإرساء ثقافة الاعتذار في المجتمع، ومراعاة حقوق الآخرين.
المحتويات
السخرية والاستهزاء من أصحاب الاضطرابات والمشاكل النفسية أمرٌ مذمومٌ شرعًا بكل صوره وأشكاله؛ وذلك لأنَّ الشريعة الإسلامية جاءت لحث الناس على مكارم الأخلاق والبُعد عن بذيء الأقوال والأفعال؛ ولذلك جاء الذمُّ والنهي عن السخرية واللَّمز والاحتقار، وذلك في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الحجرات: 11].
فهذا نهيٌّ عن هذه الأفعال الثلاثة؛ وأولها: السخرية، وهي في معنى الاستهزاء والاحتقار؛ يقول الإمام القرطبي المالكي في "تفسيره" (16/ 325، ط. دار الكتب المصرية): [ينبغي أن لا يجترئ أحدٌ على الاستهزاء بمن يقتحمه بعينِهِ إذا رآه رثَّ الحال، أو ذا عاهةٍ في بدن، أو غير لبقٍ في محادثته، فلعله أخلص ضميرًا أو أنقى قلبًا ممن هو على ضدّ صفته؛ فيظلم نفسه بتحقير مَن وقره الله، والاستهزاء بمَن عظمه الله، ولقد بلغ بالسَّلفِ إفراط توقيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمر بن شراحبيل: لو رأيت رجلًا يُرضِع عنزًا فضحكت منه لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبًا.. قال: «إنَّ الله لا ينظرُ إلى صُورِكُم وأمْوَالِكُم، ولكن ينظُرُ إلى قُلُوبِكُم وأَعْمَالِكُم»] اهـ.
أما الفعل الثاني: وهو الاحتقار؛ فالنهي عنه صريحٌ في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا؛ الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ» "صحيح مسلم"
ففي هذا الحديث شَدَّد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النهي عن الاحتقار، والمعنى: أي يكفي الإنسان من الشر وشدّته أن يحقرَ أخاه المسلم، فلا أشرّ من ذلك شرّ؛ قال الإمام الملا علي القاري في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (7/ 3106، ط. دار الفكر، بيروت - لبنان): [وقوله: «أن يَحْقِرَ أخَاهُ» خبره، أي: حسبه وكافيه من خلال الشرّ ورذائل الأخلاق تحقير أخيه المسلم] اهـ.
أما اللَّمْزُ ومعه الهَمْزُ -وهو الفعل الثالث-؛ فهما بمعنى العيب والطعن، والهمزُ يكون بالفعلِ، واللمز يكون بالقول، وقد نهانا الله عز وجل عن أن يعيبَ بعضُنا البعض، وأن يطعنَ بعضُنا البعض؛ قال الإمام ابن كثير في تفسيره (7/ 376، ط. دار طيبة للنشر والتوزيع): [وقوله: ﴿وَلَا تَلۡمِزُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ﴾ أي: لا تلمزوا الناس. والهمَّاز اللَّمَّاز من الرجال مذمومٌ ملعونٌ؛ كما قال تعالى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ [الهمزة:1]، فالهمز بالفعل واللَّمز بالقول، كما قال: ﴿هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ [القلم: 11]، أي: يحتقرُ الناس ويهمزهم طاعنًا عليهم، ويمشي بينهم بالنميمة وهي: اللَّمز بالمقال؛ ولهذا قال هاهنا: ﴿وَلَا تَلۡمِزُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ﴾، كما قال: ﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ﴾ [النساء: 29]، أي: لا يقتل بعضكم بعضًا] اهـ.
بل إنَّ الشريعة الإسلامية حَرَّمت كلّ ما يضرُّ الإنسان، وجرَّمَت إيصال الضرر إليه بشتى الوسائل؛ ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» سنن ابن ماجه؛ والإيذاء والاعتداء الحاصل من الساخر والمستهزئ تجاه المريض هو من الإضرار بالغير الممنوع شرعًا.
كما أنَّ السخرية من أصحابِ الأمراضِ قد تشتمل على السبِّ وبذاءة اللسان، وهو مَحرَّمٌ شرعًا أيضًا، ومُوجِبٌ لفسق صاحبه؛ ففي الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ».
قال الإمام ابن بطال في "شرحه على صحيح البخاري" (9/ 241، ط. مكتبة الرشد-الرياض): «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ»؛ لأن عرضه حرامٌ كتحريم دمه وماله، والفسوق في لسان العرب: الخروج من الطَّاعةِ، فينبغي للمؤمن أن لا يكون سبَّابًا ولا لعَّانًا للمؤمنين، ويقتدي في ذلك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنَّ السبَّ سبب الفرقة والبغضة] اهـ.
وقال الإمام النووي في "شرحه على صحيح مسلم" (2/ 54، ط. دار إحياء التراث العربي-بيروت): [وأما معنى الحديث: فسبُّ المسلم بغير حقٍّ حرامٌ بإجماع الأمة وفاعله فاسق] اهـ.
والسبُّ والتعدي على الإنسانِ وإيذاؤه كلُّ ذلك سببٌ لإفلاسِ الإنسانِ يوم القيامة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ»؟ قَالُوا: المُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: «المُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيَقْعُدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» "سنن الترمذي".
إضافةً لما سبق؛ فإنَّ السخرية من الآخرين التي تُلْحِق بهم الأذى -ولو معنويًّا-؛ هي فِعْلة مُجَرَّمةٌ قانونًا؛ فتنُصَّ المادة (375 مكرر) من قانون العقوبات رقم 58 لسنة 1937م طبقًا لآخر تعديلاته: "مع عدم الإخلال بأية عقوبة أشدّ واردة في نص آخر: يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة كل مَن قام بنفسه، أو بواسطة الغير باستعراض القوة، أو التلويح بالعنف، أو التهديد بأيهما، أو استخدامه ضد المجني عليه، أو مع زوجه، أو أحد أصوله، أو فروعه، وذلك بقصد ترويعه، أو التخويف بإلحاق أي أذى مادي أو معنوي به، أو الإضرار بممتلكاته، أو سلب ماله، أو الحصول على منفعة منه، أو التأثير في إرادته لفرض السطوة عليه، أو إرغامه على القيام بعمل أو حمله على الامتناع عنه، أو لتعطيل تنفيذ القوانين أو التشريعات، أو مقاومة السلطات، أو منع تنفيذ الأحكام أو الأوامر أو الإجراءات القضائية واجبة التنفيذ، أو تكدير الأمن أو السكينة العامة، متى كان من شأن ذلك الفعل أو التَّهديد إلقاء الرعب في نفس المجني عليه أو تكدير أمنه أو سكينته أو طمأنينته أو تعريض حياته أو سلامته للخطر أو إلحاق الضرر بشيءٍ من ممتلكاته أو مصالحه أو المساس بحريته الشخصية أو شرفه أو اعتباره".
الذي يستفاد مما سبق التالي:
1- السخرية والاستهزاء من أصحاب الاضطرابات والمشاكل النفسية بجميع صوره مذمومٌ شرعًا، ومَجَرَّمٌ قانونًا؛ وذلك لما يشتمل عليه من الإيذاء والضرر الـمُحَرَّمين، إضافةً لخطورته على الأمن المجتمعي من حيث كونه جريمة.
2- تناشد دار الإفتاء المصريَّة جميع فئات المجتمع بالعَملِ على التصدي لحل هذه الظاهرة، ومواجهتها، وتحَمُّل المؤسسات التعليمية والدعوية والإعلاميَّة دورها من خِلالِ بيان خطورة هذا الفعل والتوعية بشأنه؛ بإرساء ثقافة الاعتذار في المجتمع، ومراعاة حقوق الآخرين.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
ما ضابط التناجي المنهي عنه شرعًا؟ وهل الكلام الخاص مع شخصٍ ما في حضور ثالث يُعدُّ من التناجي الممنوع؟
ما حكم الكذب من أجل الحج؟ حيث يقوم بعض الناس بالكذب بشأن البيانات التي تطلب منهم من الجهات الرسمية، فيخبرون بغير الحقيقة من أجل السفر إلى الحج؛ كأن يخبر بأنه لم يسبق له الحج قبل ذلك، فهل الكذب في مثل هذه الحالات جائز؟ وهل يجوز لسائق مثلًا أن يدَّعي كذبًا أنه سبق له السفر إلى الحج من أجل الحصول على عقد للعمل كسائق خلال موسم الحج؟ وهل يجوز التخلف عن المدة المسموح بها لأداء الشعائر، والبقاء بالأراضي المقدسة من أجل العمل أو العبادة؟
هل الإكثار من الضحك والمزاح ممنوع شرعًا؟ لأن النفس تحتاج بين الحين والآخر إلى شيء من الترويح والمزاح؛ فما ضوابط الضحك والمزاح؟
ما حكم سرقة وصلات الأطباق الفضائية المشفَّرة؟ حيث يقوم بعض الناس بالاستيلاء على خدمة "الأطباق الفضائية المشفرة" عن طريق التوصيل بإشارة هذه الأطباق، ويُبرِّرون بأَنَّ ذلك لا يُعَدُّ من السرقة، فهل كلامهم هذا صحيح شرعًا؟
ما حكم اختراع آلات تساعد على الانتحار؟ حيث يقول السائل: سمعنا في وسائل الإعلام المختلفة عن اختراع آلة تُسمَّى«Sarco» تساعد -كما يقول مخترعها- على سَلْب حياة الأشخاص الذين يريدون إنهاء حياتهم بدون ألمٍ، وفي غضون دقائق.
فما الحكم الشرعي لمثل هذه الابتكارات العلمية؟ وهل يجوز إقدام الإنسان على استعمال مثل هذه الابتكارات؟
سائل يقول: أرجو من فضيلتكم التفضل بذكر نبذة مختصرة عن كيفية معاملة سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه.