18 مايو 2022 م

حبل الوداد

حبل الوداد

(1) أهل الفضل:

يسعد مركز الإرشاد الزواجي بدار الإفتاء المصرية، أن يقدم لحضراتكم سلسلة من المقالات التنويرية، بعنوان "حبل الوداد". وهي عبارة عن موضوعات منفصلة، ولكن يربطها خيط فكري واحد؛ هو الدعوة للحب، وضبط المشاعر، والتعامل الحاني بين الزوجين. بهدف تنمية الأسرة المصرية، وتحقيق الاستقرار الأسري، أملًا في الحصول على رفاهية الحياة. ونسأل الله تعالى أن يفتح لنا ولكم من خزائن فضله، ورحمته، وبركته، وعلمه، وتوفيقه- ما تطيب به الأنفس، وتقرُّ به الأعين، ويتحقق به النفع للجميع.

كما يُسعدنا أن يكون الموضوع الأول في هذه السلسلة المباركة عن "أهل الفضل"؛ لا سيما في العلاقة بين الزوجين. فلا شكَّ أننا جميعًا نتوق إلى أن يُعاملنا الله سبحانه وتعالى بفضله الكبير وخيره العميم، ولا نتمنى أبدًا أن يعاملنا الله تعالى بقانون العدل فيُحاسبنا على الكبير والصغير والنقير والقطمير، وتكون النتيجة في غير صالحنا، دون شك. كما أنه في تعاملاتنا الإنسانية مع غيرنا من الأفراد نتوق أيضًا إلى أن يعاملنا الآخرون برحمتهم وعطفهم ولينهم ورفقهم، ولا نرغب أبدًا في أن يُعاملنا غيرنا بالقسوة والشدة والصرامة والتجهُّم.

وإذا كان الأمر كذلك في علاقاتنا مع غيرنا، فمن باب أولى أن تكون العلاقة بين الزوجين تحت غطاء الفضل، وتخرج عن نطاق العدل؛ لأن العدل نسبي، ولأنه يستوجب أن يكون الزوجين أضدادًا بالمعنى الفسيح للكلمة، وأن يكون كل منهما كيانًا منفصلًا بالكلية عن الآخر، وتطغى "الأنا" لكل من الزوجين في علاقته بالطرف الآخر. أما الفضل فهو المسار الحقيقي لتحقيق السعادة بين الزوجين؛ باعتبار أن الفضل مظلة كبيرة تكمن في طياتها: الرحمة في التعامل، والتسامح مع الأخطاء، والهدوء في تناول الموضوعات، والتعامل الحاني مع الطرف الآخر، والتغافل عن العيوب، وتعظيم الإيجابيات والتركيز عليها.

وعود على بدء، فقد يستطيع الفرد أن يحصل على ما يريد بالعنف، والقسوة، والقوة، والعدوان، ولكنه في مقابل ذلك يدفع أثمانًا باهظة من الانفعالات السلبية التي تتبدى في التحفز، والتشنج، والحيطة، والحذر، والفعل ورد الفعل، والمؤامرة، وغيرها. مما يُنهك القوة التفكيرية للفرد ويستنفذ رصيد الطاقة النفسية لديه، ويكون سببًا في تشويه صورته لدى الآخرين. ولكن الأفضل هو حصول الفرد على ما يُريد عن طريق الود، والملاطفة، واللين. وحال الفشل في الحصول على شيء ما بهذه الطرق الوديعة والجميلة، تبرز حالة الرضا عن أن الطلب ليس في محله، أو أنه ليس في وقته، أو أنه سيتأخر لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى.

لقد خلق الله الإنسان مفطورًا على تحمُّل بعض المشاق، فـ"لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها"، وبالتالي فالإنسان يُمكنه تحمُّل بعض الذي لا يريده، وإذا كان هذا التحمل في نطاق العلاقة الزوجية فيكون من باب الفضل، ومن قيمة الاحتواء، وأسوة بتعاليم الدين الحنيف والخلق النبوي الكريم.

وفي هذه الموازنة، يُلاحظ أن أهل الفضل يتفوقون بكثير على أهل العدل؛ لأنهم يتفوقون على أنفسهم أولًا، ويكبحون جماحها، ويكسرون سُمها، بل يُميتون الأنفس، ويسمون ويتسامون بالأرواح. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلة الأرحام "ليس الواصل بالمكافئ". أي ليس الفرد الكامل في صلة الرحم الذي يُقابل الإحسان بالإحسان، ويقابل الود بالود، ولكن الفرد الكامل في صلة الرحم هو الذي إذا قُطعت رحمه وصلها، حتى لو أساؤوا إليه. وهذا من باب الفضل وضرب المثال للخلق القويم.

من الحكم الذهبية في هذه الحياة أن الفرد السوي "يقاوم ما يحب، ويتحمل ما يكره". وهذا ما دلنا عليه الهديُ النبوي الكريم "... فإذا كره منها خلقًا، ارتضى منها خلقًا آخر". فالزوجان ليسا شخصية واحدة ذات ملامح واحدة، وليس كل منهما نسخةً مكررة من الآخر، ولكنهما شخصيتان منفصلتان ومختلفتان عن بعضهما، يجمعهما كيان واحد هو "الأسرة" والمطلوب من الزوجين معًا أن يعملا في إطار تنمية هذا الكيان باعتبار أنه اللبنة التي يتكون منها المجتمع، فصلاح المجتمع وتطويره مرهون بصلاح الأسرة، وصلاح الأسرة يعتمد بالكلية على صلاح الزوجين، وطريقة تعاملهما وتعاونهما في تحقيق السعادة والرفاهية.

إن أهل الفضل هم الذين يتمتعون بالحلم إذا ما جُهل عليهم، ويلوذون بالصبر إذا ما ضُيق عليهم، ويقدمون العفو إذا ما أُسيء لهم. وبالتالي يتسامحون في الحقوق، ويتنازلون عن كل ما هو زال -والحياة كلها زائلة- فتطيب نفوسهم وتمتلئ قلوبهم بنور اليقين، فيكونوا في حالة من الصفاء النفسي والسلام الداخلي، التي تؤهلهم ليكونوا مهبط التجليات، ومصدر الأنوار والإشراقات. وحينما يكون ذلك داخل الأسرة، فتتحول البيئة الأسرية إلى واحة من الأمن بالنسبة للزوجة، وميدانًا للبطولة بالنسبة للزوج، وهو ما ينعكس حتمًا على تربية الأولاد وتنشئتهم التنشئة النافعة لأنفسهم ومجتمعهم ووطنهم.

يمثِّلُ الزَّواج حاجةً اجتماعيَّةً تعكس مطلوب الأفراد والمجتمعات من الحياة؛ حيث أداءُ الوظائفِ والمسئوليات المتعلِّقَة بالنَّوعِ بحسب الخصائص والطَّبيعة، وكذلك الوظائف الشَّرعية؛ لكونها محلًّا تتعلق به التكاليف والأحكام الضابطة لأفعال المكلَّف وتصرفاتِه، والناظمة لسائر العلاقات والدوائر المحيطة بالإنسان.


يتناول بعض الباحثين قضية تنظيم النسل بصورة معكوسة؛ حيث يتوهم أنها تتعارض مع قضية الرزق، مع استشهادٍ ببعض النصوص الشرعيَّة المحرِّمة لقتل الأولاد من أجل الفقر والعجز عن الاكتساب؛ كما في قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ [الأنعام: 151].


قرر الإسلامُ كرامة المرأة وأعلى شأن الأنثى إلى أرفع مقام، وعصم بالزواج البشريةَ من استغلال الغرائز واتِّباع الشهوات؛ لأنه عقد غليظ في حقيقة أمره ليس من مقصودِه تمتع الرجل بالمرأة أو المرأة بالرجل فحسب، بل المقصود منه إلى جانب ذلك المحافظةُ على الإنسان وتحقيقُ التناسل وبقاء النوع الإنساني، ويكون به الأنس والسكن الروحي والنفسي وفرح النفس وسط شدائد الحياة ومتاعبها؛ كما ورد في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21].


أرشد الله تعالى كلًّا من الزوجين إلى ضرورة زيادة مساحة التفاهم والتشاور ومد جسور التواصل ودعم مسيرة التراحم والتوافق الزوجي بينهما؛ انطلاقًا من مسئولية كل واحد منهما في الأسرة التي وردت في التوجيه النبوي الشريف في قوله صلى الله عليه وسلم: «الرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ» متفقٌ عليه.


أودع الله تعالى في الإنسان فطرة طبيعية تُولِّد بين كلا نوعيه -الذكر والأنثى- مَيْلًا إلى الآخَر؛ ومن ثَمَّ كان الرباط المخصوص والميثاق الغليظ الذى ينظِّم حياتهما معًا، حتى يكون أحدهما للآخر بمنزلة جُزئِه وبعضِه المُتَمِّم لوجودِه، ومن أجل المحافظة على الإنسان واستمرار نوعه، وتوفير حواضن اجتماعية يحقق فيها حاجاته الطبيعية.


مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 03 أغسطس 2025 م
الفجر
4 :37
الشروق
6 :15
الظهر
1 : 1
العصر
4:38
المغرب
7 : 47
العشاء
9 :13