26 أكتوبر 2017 م

الغَيْرَة

الغَيْرَة

 تُعَدُّ الغَيْرَةُ من الأخلاق المهمة التي ينبغي على الإنسان المسلم أن يتحلَّى بها، لكن عليه أن يُراعي أن لهذه الغَيرة ضوابط وحدود تجعلها غَيرة نافعة، تحافظ على الفضائل وتأبى الرذائل، أما الغَيرة المذمومة فهي تلك التي تدَّعي الحفاظ على الفضائل، ثم ترتكب في سبيل الحفاظ عليها مخالفات شرعية، كالحقد والحسد والإيذاء والاعتداء على الغير، فينقلب الحفاظ -الزائف- على الفضائل إلى رذيلة بما تتضمنه من مخالفات للشرع الشريف وللآثار النفسية والاجتماعية الضارَّة التي تترتب عليها.
والغَيْرَةُ اسمٌ مشتَقٌّ من تغيُّر القلب وهيجان الغضب، وهذا في حقِّ الآدمي، وقد وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم اللهَ عز وجل بأنه يَغَار، والمعنى بالنسبة لله تعالى وَرَدَ في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ يَغَارُ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ» رواه مسلم؛ فالله تعالى لا يرضى لعباده أن يرتكبوا المعاصي والفحشاء، ولذلك حَرَّم على الناس ارتكاب الفواحش، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيضًا: «مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ، وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ المَدْحُ مِنَ اللهِ» رواه البخاري، وقال: «يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، مَا أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللهِ أَنْ يَرَى عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ تَزْنِي، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» رواه البخاري.
وقد جاء هذا التوجيه النبوي في سياق بيانٍ ذيِ وَجهين:
- الأول: تعظيم حرمة ارتكاب الفواحش والمعاصي في النفوس.
- والثاني: بيان أن مواجهة ومنع ارتكاب هذه الفواحش والمعاصي لا ينبغي أن يتجاوز ما قرَّرَه الله سبحانه وتعالى في هذا الشأن؛ لأنه لا أحد أكثر غَيْرَةً من الله جلَّ وعَلَا؛ فلقد قال سعد بن عبادة رضي الله عنه: لو رأيتُ رجلًا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفحٍ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي» رواه البخاري. فقدَّرَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشاعر الغَيْرَة التي أبداها سيدنا سعد بن عبادة رضي الله عنه، ولكنه وجَّهه أيضًا لجانبٍ مهمٍّ، وهو أن النبي أكثر منه غَيرةً، وأن لا أحد أكثر غَيرةً من الله، ثم نزلت بعد ذلك آية الملاعنة، لتُبَيِّنَ للمسلمين الطريق الذي يُرْضي الله سبحانه وتعالى للتعامل مع مثل هذا الموقف الصعب.
وأشدُّ الخلق غيرةً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فهو خير خلق الله، ولأنه كان يغار لله ولدينه، ولهذا كان لا ينتقم لنفسه؛ فعن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: "وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ لله بِهَا" رواه البخاري.
فهذه هي الغَيْرَةُ المحمودة التي لا تتعلق بمصلحة ذاتية أو حسدًا لما أصاب شخصًا آخر من نعمة منحها الله إياه، ولكنها غيرة خالصة تتعلق بالله سبحانه وتعالى.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقدِّر مشاعر الغيرة عند أهل بيته وأصحابه رضي الله عنهم، فحين غضبت السيدة عائشة رضي الله عنها وضربت الإناء الذي أرسلته إحدى زوجات النبي إليه وهو في بيتها فانكسر هذا الإناء، فما كان منه صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن تفهَّم هذه المشاعر النَّفسيَّةَ وأخذ يجمع أجزاء الإناء الذي انكسر، ويقول: «غَارَتْ أُمُّكُمْ» رواه البخاري، وأخذ النبيُّ إناءً جديدًا وأرسله مع الخادم إلى زوجه التي أرسلتْ إليه الإناء الأول.
وحين رأى النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم السيدة أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما تحمل النوى على رأسها وتسير به، أشفق عليها ودعاها لركوب فرسه تخفيفًا عنها، فاستحيتْ وذكرت له غَيرة زوجها الزبير وأنه أغير الناس، فقدَّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الحال، وتركها، مع أن زوجها حين أخبرتها بهذه القصة قال لها: "والله لحملك النوى كان أشد عليَّ من ركوبك معه" رواه البخاري.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان شديد الغَيْرَة: «بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي فِي الجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا لِعُمَرَ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ، فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا»، فبكى عمر وهو في المجلس ثم قال: "أوعليك يا رسول الله أغار؟" رواه البخاري.
وللغيرة أنواع عديدة ذكرها العلماء، ومن ضمن أنواعها غيرة العبد لرَبِّهِ، وهي نوعان أيضًا كما يذكر ابن القيم في "مدارج السالكين"؛ غيرة من نفسه، وغيرة من غيره.
فالتي من نفسه: ألَّا يجعل شيئًا من أعماله وأقواله وأحواله وأوقاته وأنفاسه لغير ربه.
والتي من غيره: أن يغضب لمحارمه إذا انتهكها المنتهكون، ولحقوقه إذا تهاون بها المتهاونون.
والمسلم العابد لله يوجِّه غَيرته على ضائع يسترد ضياعه، ويستدرك فواته، ويتدارك قُواه، فغيرته تكون على ما ضاع عليه من عمل صالح، فهو يسترد ضياعه بأمثاله، ويجبر ما فاته من الأوراد والنوافل وأنواع القُرَبِ بفعل أمثالها، من جنسها وغير جنسها؛ فيقضي ما ينفع فيه القضاء، ويعوض ما يقبل العوض، ويجبر ما يمكن جبره، ويتدارك قوته ببذلها في الطاعة قبل أن تتبدل بالضعف، فهو يغار عليها أن تذهب في غير طاعة الله.
إن عدم الغَيْرَةِ وبرودة الطبع أمرٌ مذمومٌ في الإسلام؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالْمَرْأَةُ الْمُتَرَجِّلَةُ، وَالدَّيُّوثُ، وَثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالْمُدْمِنُ عَلَى الْخَمْرِ، وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى» رواه النسائي، والديوث هو الذي لا غَيرة له على أهله، ولذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن إفشاء أسرار الحياة والعلاقات الخاصة بين الزوجين، ونهى عن التهاون في أمور إظهار العورات ولو بين الجنس الواحد؛ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ، وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا» رواه مسلم.
وقال: «لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَلَا الْمَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ، وَلَا يُفْضِي الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَلَا تُفْضِي الْمَرْأَةُ إِلَى الْمَرْأَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ» رواه مسلم.
المصادر:
- "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" لابن حجر (9/ 320 وما بعدها).
- "شرح النووي على صحيح مسلم" (10/ 131 وما بعدها).
- "حاشية السندي على سنن النسائي" (5/ 80).
- "مدارج السالكين شرح منازل السائرين" لابن القيم (3/ 44).
- "الغيرة" للدكتور طه عبد السلام خضير، ضمن "موسوعة الأخلاق" (ص: 475-479، ط. المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية).

الفأل هو قَول أَو فعل يُستبشرُ بِهِ، وهو انشراح قلب الإنسان وإحسانه الظَّنَّ، وتوقُّع الخير بما يسمعه من الكلام والحديث. والفأل فيه تقوية للعزائم، وباعث على الجدِّ والعمل، فقد تفاءل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في غزواته وحروبه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ صَوْتًا، فَأَعْجَبَهُ، فَقَالَ: «قَدْ أَخَذْنَا فَأْلَكَ مِنْ فِيكَ» رواه أحمد في "مسنده".


لا يستغني الإنسان عن العلاقة بغيره، فهو كائنٌ اجتماعيٌ، وخلق الله الناس في حاجةٍ بعضِهم لبعض، ومَنْ مَنَحَهُ الله ميزةً وقدرةً على القيام بأمور معينة مَنَعَهُ القدرة على القيام بأمور أخرى. وإذا كان الإنسان ينشأ في البداية بين أهله وأقربائه عادةً؛ فإنه -بمرور الوقت والاحتكاك بالآخرين- تنشأ له دوائر علاقات أخرى أكثر تنوُّعًا وتشعُّبًا؛ فيحب ويَكره، ويثق ويشك، ويأمِّن ويخوِّن، فيزداد من البعض دُنوًّا وقربًا، ومن آخرين نفورًا وبعدًا، وقد نَبَّهَ القرآن إلى هذه الحقيقة الاجتماعية في التنوُّع والتَّعارف في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13].


الله سبحانه وتعالى رفيقٌ بعباده؛ يحب منهم الطاعة التي أوجب عليهم، ويكره لهم المعصية التي حرَّم عليهم، يحب لهم النَّعيم الذي وعد به الصالحين، ويكره لهم النار التي توعَّد بها المفسدين، والله تعالى يَغَار، وغيرتُه تعالى أن ينتَهِكَ العبدُ ما حرَّم الله عليه.


مجالسة الناس أمر مباح في الإسلام إذا تحلت بالآداب الشرعية والأخلاق المرعية، وقد تكون مندوبة إذا قُصد بها تحصيل خير ندبه الشرع، وقد تصل إلى الوجوب إذا توقف عليها تحصيل واجب شرعي من جلب مصلحة أو دفع مفسدة؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم ينعزل عن أصحابه، ولم ينعزل عن مجتمعه، بل إنك لو راجعت سيرته العطرة صلى الله عليه وآله وسلم تجد أنفاسه الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم في كل حدث تفوح بين الناس بدلائل الخيرات.


الغيبة من الأمور التي يقع فيها كثير من الناس دون انتباه كبير لوقوعهم فيها، ومن ثَمَّ عدم إدراك لخطورة الجزاء الإلهي على هذا الإثم العظيم، فإذا كان الناس يهتمون بعدم ارتكاب ذنوب شديدة الوضوح كالقتل والزنا والسرقة.. وغيرها، فإنهم يتساهلون في الوقوع في الغيبة، وهي كبيرة من الكبائر.


مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 14 يونيو 2025 م
الفجر
4 :7
الشروق
5 :53
الظهر
12 : 55
العصر
4:31
المغرب
7 : 57
العشاء
9 :31