لا يعيش المسلم في هذه الحياة من أجل أن يتمتع ويتلذذ في هذه الحياة وحسب، وإن كان من حقه أن يشعر بالمتع واللذات التي هي من متطلبات البشر وحاجاتهم في الدنيا، وأن يُري أثر نعم الله الدنيوية عليه، لكن ليس هذا هو الأساس الذي تقوم عليه حياته.
يدرك المسلم أنه خلق في شدة وعناء يكابد أمر الدنيا ومسؤولياتها؛ ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد: 4]. حين يدرك المسلم هذا التصور لخلقه، ويؤمن بالجزاء والحساب، يترسخ لديه شعور بأنه في رحلة مؤقتة، وأنه لم يأتِ إلى هذه الدنيا من أجل الدَّعَةِ والراحة، وإنْ كان يمكن أن ينال قسطًا منها يُعينه على أداء ما جاء إلى الدنيا من أجله، وهو العبادة، والعمل الدائب المخلص من أجل النجاة في الآخرة، وهو ما أمر به الله سبحانه وتعالى نبيَّه سيدنا محمدًا عليه الصلاة والسلام؛ ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ۞ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ [الشرح: 7-8]، فيعمل المسلم على جهاد نفسه وتزكيتها؛ من أجل تأهيلها لتحمُّل ما ستلاقيه من عناءٍ ومشقةٍ؛ أملًا في الفوز يوم القيامة برضا الله، وجنَّتِه، ونعيمِه الدائم، ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ۞ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 10-9].
يُكسب هذا الإدراكُ المسلمَ شعورًا بالالتزام والمسؤوليَّة التي تجعله مؤهَّلًا وقادرًا على أداء هذه المهمة، فيجد نفسه في حاجة للحفاظ على المقاصد الخمسة للشريعة الإسلامية؛ وهي: حفظ النفس، والدين، والعقل، والمال، والنسل.
إن هذه المقاصد تدفع المسلم بعيدًا عن الفرديَّة، وتجعله منخرطًا في مجتمعه يحمل همَّه كما يحمل همَّ نفسه، بل يحمل همَّ العالم بأسره، يرجو له الخير والهداية والسلام والأمان، ويعمل بجدٍّ على تحقيق ذلك، فلا يعيش منفصلًا عن بيئته، بعيدًا عن واقعه، بل إن كلَّ فعلٍ له يخضع لتدقيقٍ وتحقيقِ نيَّةٍ وقصدٍ فيما يرجوه من أثرٍ محقَّقٍ، ومتشعِّبٍ في نفسه ومجتمعه وبيئته وأمَّته وعالمه؛ فيُحافظ على "نفسه"؛ من أجل أن تكون صالحةً للقيام بمهمتها في الحياة، ويحافظ على "عقله"؛ من أجل أن يُقدِّر به قراراته ومواقفه وما يتعلَّق بها من مفاسدَ ومصالح، ويحافظ على "دينه"؛ من أجل أن يرشده ويرشد مجتمعه وبيئته إلى الطريق الصحيح في الحياة إلى أن يصل إلى الآخرة، ويحافظ على "ماله"؛ فيكسبه من حلالٍ، وينفقه باعتدال، ولمصلحةٍ راجحةٍ؛ من أجل أن يتبلَّغ به ما يريد تحقيقه من استخلاف الله إياه عليه، ويحافظ على "النسل"؛ بتسببه في استمرار النوع الإنساني بالزواج التزامًا منه تجاه مجتمعه وعالمه، وبالتربية الصالحة التي تؤدِّي إلى تحسين هذا النوع الإنساني.
وهذه العناصر -كما نرى- متداخلة بعضها مع البعض، ويؤثِّر كلٌّ منها في غيره، بما ينفي عن الإنسان المسلم انعزالَه أو فرديَّتَه، وانشغالَه بتحصيل شهواته ومُتَعِه دون التزامٍ منه تجاه نفسه، ومجتمعه، وعالمه، وسائر الدوائر الاجتماعية التي ينتمي إليها.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حريصًا على ترسيخ هذا التصور الذي يعبر عن التزام المسلم بهذا المنهج؛ فنجده يقول: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ وَلا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» متفق عليه، وقال: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» رواه البخاري، وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَيْسَ بِالْمُؤْمِنِ الَّذِي يَبِيتُ شَبْعَانًا وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ» رواه الحاكم في "المستدرك".
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نموذجًا عمليًّا في الالتزام الاجتماعي؛ فعن أنسٍ رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحسن الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ليلة، فخرجوا نحو الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد استبرأ الخبر، وهو على فرسٍ لأبي طلحة عري، وفي عنقه السيف، وهو يقول: «لَمْ تُرَاعُوا، لَمْ تُرَاعُوا» ثم قال: «وَجَدْنَاهُ بَحْرًا» أو قال: «إِنَّهُ لَبَحْرٌ» رواه البخاري، وحين خرج من مكة مضطرًّا إلى المدينة قال: «وَاللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ» رواه الترمذيُّ، وفي رواية ابن ماجه: «وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَيَّ».
إنه ارتباط بأرضه ومجتمعه الذي نشأ فيه صلى الله عليه وسلم، يعلِّمنا صلى الله عليه وآله وسلم أن الارتباط بالمجتمع الذي ينشأ فيه المرء من الأمور الهامَّة التي ينبغي على الإنسان أن يتمسَّك بها، ولا يفرط فيه بسهولة؛ التزامًا منه بواجبٍ أخلاقيٍّ تجاه مجتمعه يدعوه للخير ويساهم في نمائه.
حين وصل هذا التصور إلى إدراك المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجدناهم يبادرون بتطبيقه من تلقاء أنفسهم؛ وذات يومٍ مَرَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برجلٍ بالسوق يبيع طعامًا بسعرٍ هو أرخص من سعر السوق فقال: «تَبِيعُ فِي سُوقِنَا بِسِعْرٍ هُوَ أَرْخَصُ مِنْ سِعْرِنَا؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «صَبْرًا وَاحْتِسَابًا؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «أَبْشِرْ، فَإِنَّ الْجَالِبَ إِلَى سُوقِنَا كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْمُحْتَكِرُ فِي سُوقِنَا كَالْمُلْحِدِ فِي كِتَابِ اللهِ» رواه الحاكم في "المستدرك"؛ فهنا يؤكد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على نيَّةِ الرجل ويتبيَّنها منه، فنعرف أن الرجل لا يبيع بثمنٍ أرخص بهدف إغراق السوق، والإضرار بالمنافسين له، والاستحواذ على عملائهم -كما نرى في بعض ممارسات العصر الحديث-، بل يفعل ذلك رغبةً منه في التخفيف على الناس، ورضًا منه بالقليل الذي يبارك الله فيه، فسأله النبي: «صَبْرًا وَاحْتِسَابًا؟» فقال الرجل: نعم، فبشَّره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن فعله هذا في منزلة الجهاد في سبيل الله.
إن التزام المسلم تجاه هذه الدوائر الاجتماعية المتعددة ينبع من شعوره بالمسؤولية الاجتماعية التي تدفعه إلى القيام بهذا الواجب الأخلاقي بوازعٍ من إرادته التي تأبى أن تظفر بالمتع والشهوات الزائلة، وتترك غيرها يهوي في براثن الفقر أو الضلال أو الانحراف.
إن الدين والعقل يتضافران من أجل أن يتوجَّه قصد المسلم ونيته إلى نفع النفس والأسرة والمجتمع والأمة والعالم.