06 أغسطس 2017 م

التعامل الحضاري مع المسنين في الإسلام

التعامل الحضاري مع المسنين في الإسلام

يمُرُّ الإنسان بأطوار مختلفة في حياته؛ حيث ينشأُ طفلًا ضعيفًا مفتقرًا إلى غيره في أبسط الأمور، ثم يزداد قوَّةً ومعرفةً ومهارةً بمرور الوقت، حتى يصير شابًّا فتيًّا يقدر على الكسب والكفاح في الحياة، ثم يعتريه الضعف مرةً أخرى ويَغْلِبُ عافيتَه البدنية والعقلية رويدًا رويدًا، ولقد بيَّنَ الله تعالى هذه المراحل في قوله تعالى: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ [الروم: 54]، فهذا الانتقال من طَورٍ إلى طَورٍ سُنَّةٌ من سُنَنِ الله في خَلقه.

هذا التصوُّر لأطوارِ الحياةِ المختلفةِ وما يعتريها من ضعفٍ وقوَّةٍ، يقتضي تقديرًا مختلفًا لكلِّ مرحلةٍ من حيث الواجبات والحقوق والتكاليف الشرعية في التَّصوُّر الإسلامي، فإذا كان الطِّفل الضعيف الذي لا يكاد يميِّز شيئًا مما يدور حوله قد رُفِعَ عنه التكليف وأُعْفِيَ من المحاسبة، فإنه متى صار مميزًا في سنِّ السَّابعة طُولِبَ وليُّه بتوجيههِ لأداءِ بعض التَّكاليف ليعتاد عليها، حتى إذا ما وصل إلى مرحلةِ البلوغِ، فإنه يكون قد اعتاد على أدائها ويكون مُلزمًا شرعًا بها ومحاسبًا ومجازىً على التَّقصير في أدائها.

يعيش الإنسان مرحلةَ الشَّبابِ والفُتوَّةِ وهو مطالَبٌ بأداءِ عباداتٍ مختلفةٍ، والتزامٍ بواجباتٍ تجاه مجتمعه وعائلته ودينه ووطنه، حتى يدخل في طَور الشيخوخة وتَخوُرُ قواه ويضعف أداؤه، فحينئذٍ تعود الشَّريعة للتخفيف عنه في تحمُّلِ هذه التكاليف والواجبات، ولا تضع الشريعة معيارًا ثابتًا لهذا التخفيف من الناحية العمريَّة؛ لأنَّ النَّاس تتفاوت أحوالهم من حيث القوة والضعف، ولكنها تجعل من توفُّر حالة القوة والضعف معيارًا لتحمل التكاليف والواجبات أو التخفُّفِ منها، فتُخفِّفُ عن المسنِّين في الأحكام الشرعيَّة بحسب الحال، فالمسنُّ الذي لا يطيق الصوم مثلًا، تبيح له الفطر وتكلفه بالفدية إطعامًا لمسكينٍ آخر يصوم ولكنه لا يستطيع تدبير احتياجاته بسهولة؛ قال تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة: 184]، وإذا كان لا يستطيع القيام في الصلاة، فإنَّها تبيح له الجلوسَ لأدائِها، وإذا كان لا يستطيع الطَّوافَ حول الكعبة أو السعي بين الصفا والمروة لأداء نُسُكِ الحجِّ أو العمرة فإنَّها تبيح له الركوب أو أن يحمله غيره، وإذا وصلت المرأَةُ لسنٍّ كبيرِ فإنَّ الإسلام أباح لها أن تتخفَّفَ من بعض الثِّياب التي من عادةِ المرأَةِ أن تضعها زيادةً في ستر عورتها؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [النور: 60]، وليس المقصود إباحة كشف العورة، وهكذا.

ووضع الإسلام آدابًا عامَّةً تتعلق بالمسنين على المجتمع المسلم أن يلتزم بمراعاتها معهم وتوفيرها لهم، ومن ذلك بِرُّ الوالدين؛ قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ۝ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 23-24]، فلا بد من احترام الوالدين ورعايتهما ومعاملتهما معاملةً حسنةً، والإنفاق عليهما بقدر احتياجهما للإنفاق، بل إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم أضاف على حسن معاملة الوالدين، معاملة أصدقائهما ببرٍّ وإحسانٍ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ»، وفي الغالب فإنَّ هؤلاء الأصدقاء في عُمُرِ الوالدين، مما يوسِّع دائرة التعامل الطيب مع كبار السنِّ وبالأخص الدوائر الأقرب للوالدين.

ومن النماذج الشاهدة على تطبيق المسلمين لمبدأ احترام الكبير وتوقيره حتى من غير المسلمين، ذلك الموقف الذي وقع بين سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورجل يهوديٍ كبيرِ السِّنِّ ضريرِ البصر يسأل النَّاس، فأعفاه من الجِزيَةِ وأعطاه من بيتِ المال؛ حيث مَرَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بباب قوم ٍوعليه سائلٌ يسأل -شيخ كبير ضرير البصر-، فضرب عَضُدَهُ من خَلفه، وقال: "من أيِّ أهل الكتاب أنت؟" فقال: "يهودي". قال: "فما ألجأك إلى ما أرى؟" قال: "اسأل الجزية، والحاجة، والسِّنَّ". فأخذ عمر بيده، وذهب به إلى منزله، فرضخ له بشيءٍ من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: "انظر هذا وضرباءه؛ فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته، ثم نخذله عند الهرم، ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾ [التوبة:60]، والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب"، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه.

وفي حال الحرب دعا الإسلام إلى عدم قتال غير المحاربين؛ فلا يسعى الإسلامُ إلى القتل وسفك الدماء دون حقٍّ، وكبارُ السنِّ عادةً غيرُ محاربين، ومن هنا جاءت وصية أبي بكر رضي الله عنه ليزيد بن أبي سفيان رضي الله عنه -أحد أمراء جيشه المتجه إلى الشام-، يقول فيها: "لا تقتلنَّ امرأةً، ولا صبيًّا، ولا كبيرًا هرمًا".

لقد أكَّدَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضًا على هذا الأمر سواء في أحاديثه أم في سلوكه العملي؛ فقال: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا» رواه الترمذي، وجعل إكرام الكبير بمنزلة إجلال الله تعالى؛ فقال: «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ» رواه أبو داود، ومن المواقف ذات الدلالة على هذا التكريم والتوقير للكبير ما وقع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين فتح مكة، فلمَّا دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة، ودخل المسجد، أتاه أبو بكر رضي الله عنه بأبيه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «هَلَّا تَرَكْتَ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا آتِيهِ فِيهِ» رواه أحمد، وهذا من المنزلة التي وضعها الإسلام للكبير، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو القائل: «أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ» رواه أبو داود.

إن إكرام كبار السنِّ من الأمور الهامَّة جدًّا بالنسبة لأيِّ مجتمعٍ؛ ذلك أنها تدفع أفراده وهم في زمن الشباب والفتوة للتفاني في أعمالهم، والعطاء لمجتمعهم، ولو دون مقابل مادِّيٍّ؛ ذلك أنهم يدركون أن ما سيبذلونه من جهدٍ وعملٍ، لن يذهب سُدَىً، سواء عند الله بثوابه الجزيل وعطائه الواسع، أم عند أبناء مجتمعهم من الأجيال الأصغر منهم، الذين سيتلقون منهم هذا الجهد والعطاء في شبابهم، بالمعاملة الحسنة والرعاية الطيبة والكفالة اللازمة في هرمهم، حينئذٍ يشعر أفراد المجتمع بالأمان والطمأنينة، فتنصرف همتهم للعمل والعطاء، ولا ينقمون على شركائهم وأبنائهم فيمتنعون عن بذل ما يستطيعون من جهود وما يملكون من معارف وخبرات.

-----

المراجع:

- "تفسير القرطبي".

- "الخراج" لأبي يوسف.

- "شرح النووي على مسلم".

- "رعاية المسنين في الشريعة الإسلامية والتشريعات الدولية" لسرِّي زيد الكيلاني، ومحمد سرِّي الكيلاني، بحث بــ"المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية" (المجلد: 12، عدد: 1/ 2016م).

شكلت المياه في مسيرة الإنسانية عاملًا مهما من عوامل قيام الحضارات وازدهارها، كما كان في فقد الماء أو سوء استخدامه تأثير بالغ في انهيار الحضارات واختفائها. وقد وقف القرآن موقفا صريحًا كشف فيه عن أهمية الماء في حياة المخلوقات؛ حيث قال المولى عز وجل: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: 30]، كما جاء في سياق بيان طلاقة القدرة والامتنان على العباد بخلق الماء قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ۞ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 10-11]، وغير ذلك من آيات تكرر فيها ذكر الماء وأنواعه ومصادره ووظائفه وغيرها.


يظن البعض أن الاهتمام بقضية "الرفق بالحيوان" قد بلغ منزلة عظيمة في ظل الحضارة الغربية الحديثة، في حين أن نظرةً خاطفةً لتراث المسلمين تؤكد أن هذا الاهتمام، بل والتطبيق العملي له، نشأ نشأةً حقيقية بين المسلمين من عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما تلاه من عهود، كيف لا، وهذه القضية مظهرٌ من مظاهر الرحمة، التي جاء الإسلام ليكون عنوانًا عليها، وجاء الرسول ليكون تجسيدًا لها؛ قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، ليس للآدميين فحسب، بل للعالمين؛ من إنسانٍ، وحيوانٍ، وماءٍ، وهواءٍ، وجمادٍ، ... إلخ.


ليس من قبيل المصادفة البحتة أن يكون ذكر القلم والكتابة في أول أيات تنزل من القرآن الكريم على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال الله تعالى:﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ • الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ [العلق: 3، 4] وأقسم سبحانه وتعالى بالقلم فقال: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ [القلم: 1]، وأقسم بالكتاب ﴿وَالطُّورِ • وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ﴾ [الطور: 1، 2] وفي محكم التنزيل آية كبيرة تسمى بآية الدَّين؛ وهي آية تحث


نحن أُمَّةٌ متدينة، امتزجت حضارتنا بعقيدتنا، فكان الدينُ أساسَها وروحَها وموَجِّهَها وسببَ ازدهارها وباعثَ حياتها عبر العصور.


تُعَدُّ المذاهبُ الفقهيَّةُ من أعظم المنجزات التي تتميز بها الحضارة الإسلامية، ذلك أنها صاغت عددًا من المناهج الفكرية في طرق التعامل مع النصوص الدينية وتطبيقها على الواقع، يُعَدُّ المذهبُ مدرسةً فكريَّةً بكل ما تعنيه الكلمة من معنًى، حيث يُقدم المذهب منظورًا للتعامل مع النصوص المختلفة، ويحدد طريقًا واضحًا لاستنباط الأحكام باستخدام عدد من الوسائل والأدوات، كالإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وغيرها.


مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 25 مايو 2025 م
الفجر
4 :14
الشروق
5 :56
الظهر
12 : 52
العصر
4:28
المغرب
7 : 48
العشاء
9 :18