تُعَدُّ المذاهبُ الفقهيَّةُ من أعظم المنجزات التي تتميز بها الحضارة الإسلامية، ذلك أنها صاغت عددًا من المناهج الفكرية في طرق التعامل مع النصوص الدينية وتطبيقها على الواقع، يُعَدُّ المذهبُ مدرسةً فكريَّةً بكل ما تعنيه الكلمة من معنًى، حيث يُقدم المذهب منظورًا للتعامل مع النصوص المختلفة، ويحدد طريقًا واضحًا لاستنباط الأحكام باستخدام عدد من الوسائل والأدوات، كالإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وغيرها.
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو المشرِّع الأوحد للمسلمين خلال العهد النبوي، لا بمعنى أنه من يفتي في الأمور الدينية فقط، فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يقومون بهذه المهمة أيضًا وفق ما تعلَّموه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن بمعنى أنه هو المرجع الوحيد لبيان الأحكام الشرعية، فقد يفتي الصحابي في أمرٍ ما، ولكن النبي يمكن أن يُصوِّب رأيه أو يحكم بأن اجتهاده خطأ، أو يختلف الصحابة على أمر فيفصل فيه النبيُّ بتأييد رأيٍ من آرائهم أو ببيان أن هذه الآراء جميعًا جائزة، كما حدث عند اختلاف الصحابة في تفسير قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» رواه البخاري، فقال بعضهم: "لا نصلي حتى نأتيها"، وقال بعضهم: "بل نصلي"، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يُعنف واحدًا منهم، وقد كان ذلك بيانًا منه صلى الله عليه وآله وسلم لإمكان تعدد التفسير والاجتهاد، والتعايش بين الآراء المختلفة.
فلما كان عهد الصحابة الذي تصدروا فيه لبيان أحكام الشرع الشريف في البلاد المختلفة، بعد انتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى، كان الخلاف بينهم في التفسير وتقرير الأحكام الفقهية أمرًا شائعًا ومقبولًا، فلكلٍّ منهم طريقته في استنباط الأحكام وفي السند الشرعي الذي يعتمد عليه في قوله، وكذلك كان عهد التابعين الذي برزت فيه أسماء لامعة من كبار الفقهاء الذين أخذوا علم الصحابة رضي الله عنهم واستمروا في أداء رسالتهم المتعلقة ببيان الأحكام الفقهية للناس، سواء ما استقر منها أو استجدَّ بسبب التطور الزماني، أو اتساع الفتوحات الإسلامية ودخول أقوام وأعراق جديدة في دين الإسلام بثقافاتهم المتنوعة وعاداتهم المختلفة.
ثم تلا هؤلاء القوم منذ نهايات القرن الأول الهجري والقرن الثاني أربعة من الأئمة الأعلام الذين برزت أسماؤهم في سماء الفقه الإسلامي، واستقرت مكانتهم السامقة بين المسلمين، وتوجَّهت هِمَمُ طلاب العلم للأخذ عنهم، والنَّهْلِ من علمهم والتدوين لأقوالهم، وهم (أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل)، لم يكن هؤلاء الأربعة أهل العلم الفقهي فقط في ذلك الوقت، فقد كان هناك الكثير من العلماء الأجلاء الآخرين الذين تمتلئ كتب العلم بآرائهم القيمة، وكانوا يحظون أيضًا بالاحترام اللازم والتقدير الوافر، ولكن قَدَّرَ الله لهؤلاء الأعلام الأربعة عددًا كبيرًا من طلاب العلم المهتمين بتسجيل آرائهم وتدوينها في الكتب وإعادة نشرها بين الناس، حتى تَشَكَّلَ لكل مجموعة تَتْبَعُ إمامًا من هؤلاء الأربعة طابعٌ خاص بكيفية تناول الأدلة وتنزيلها على الواقع، وطريقة استخدام أدوات الاستنباط الفقهي، وصارت كل مجموعة تُعرف باسم إمامها (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة)، وبتطور الزمان قدَّمت هذه المذاهب ثروة علميَّة هائلة للمسلمين والعالم في تقرير قواعد للتفكير والاستنباط، وصار لذلك الجهد علم معروف باسم "أصول الفقه"، ولعل هذا العلم أهم العلوم التي تتباهى الحضارة الإسلامية وتفخر بها، ذلك أنه اعتنى ببيان القواعد التي تُوَضِّح كيفية استنباط الأحكام والتعامل مع النصوص بشكل تفصيلي، وكيف تُحَلُّ الإشكالات التي يقع فيها الفقيه الذي يُفكِّر في هذه المسائل، حينما يجد نصَّيْن مثلا، أحدهما عام والآخر خاص، أو أحدهما مطلق والآخر مقيد، أو يجد دليلين يشعر بينهما بتعارض ما، فينظر في خصائص هذه الأدلة من حيث درجة الدليل، هل هو قطعيٌّ أم ظنيٌّ، وينظر في مدى إمكانية الجمع بين الأدلة، وعند عدم إمكان الجمع يلجأ إلى ترجيح دليل على دليل آخر وفقًا لقواعد دقيقة وواضحة، وهكذا..
إن هذه المناهج التي أَرْسَتْهَا هذه المذاهب في كيفية النظر والتوصل إلى معرفة الأحكام الشرعية؛ تؤكِّد على احترام الإسلام وحضارته للأسس الصحيحة والدقيقة للعلم، فالعلم لا يتم التعامل معه بالتشهي والغرض والهوى، بل هو منهج قبل أن يكون محض معلومات متفرقة، يتم التوصل إلى استنباطها بشكلٍ مستقلٍّ عن غيرها من مسائل العلم الأخرى؛ لذلك نجد كثيرًا في أبواب الفقه وأصوله المختلفة الاستدلالَ على حكم مسألة في أحد الأبواب بحكم مسألة أخرى في بابٍ آخر؛ ليؤكد ذلك على وحدة المنظومة المنهجية التي صَدَرَتْ عنها مسائل هذا العلم؛ ولأجْل هذا كان من الصعب صدور آراء فقهية تنتسب لهذه المذاهب تخالف هذا المنهج تحقيقًا لمصلحةٍ خاصة يراها أحدُ فقهاء هذه المذاهب رغبةً منه في إرضاء أحدٍ أو خوفًا منه، أو ليتوصل بها إلى تحقيق منفعةٍ دنيويةٍ عاجلة؛ وحتى إن حدث هذا فلم يكن يُكتب لمثله البقاء والتعبير عن رأي المذهب لمخالفته لمنهجه وقواعد الاستنباط فيه.
وكذلك رسَّخت هذه المذاهب لتراكمٍ علميٍّ يؤدي إلى التصويب الدائم والمستمر، فمن الطبيعي أن يخطئ البشر في التفكير أو إعمال العقل في التوصل إلى حكم معين، فإذا حدث أن توصل أحد علماء هذه المذاهب لرأي بناءً على دليل ثبت ضعفه، أو حجة تم التوصل إلى أقوى منها، أو حصل التباس في فهم أو تفسير نص ما، أو خطأ في إدراك واقعة معينة، فصدر من أحد فقهاء هذه المذاهب حكمٌ رأى زملاؤه أو تلاميذه فيما بعد أنه حاد عن المنهج المُتَّبَع؛ فإنهم يهجرون هذا الرأي ولا يقدِّسونه، فالمذاهب ليست قوالب صمَّاء جامدة، بل هي مدرسة علمية تتداول الآراء وتنقدها وتنقحها وتضيف عليها، في عملية معرفية بديعة مشوِّقة، وقد تم في بعض الأحيان أن اعتمد فقهاء المذاهب آراء تخالف آراء أصحاب هذه المذاهب كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وصارت الآراء الجديدة لتلاميذهم هي المعتمدة في هذه المذاهب وليس أقوال الأئمة الذين تنتسب المذاهب لهم.
لم تكن المذاهب الفقهية محلِّقة في الفضاء الفكري الذي يَزْهَدُ العامَّةُ في التطلُّع إليه، بل كانوا بحكم اشتغالهم بما يمسُّ حياةَ الناس وعباداتهم ومعاملاتهم أكثرَ اتصالًا بهم؛ فنشأت بين المذاهب الفقهية والشعوب رابطة عاطفيَّة فوق رابطة العلم، حتى صبغت هذه المذاهب هويات العديد من الشعوب في البقاع المختلفة، كما حدث مع المذهب الحنفي الذي انتشر في بلاد الهند وما وراء النهر من قارة آسيا والعراق، وورثت قوانين الأحوال الشخصية أحكامه في العديد من البلدان، والمذهب المالكي الذي انتشر في العديد من البلاد الإفريقية والمغرب العربي، والمذهب الشافعي الذي انتشر في جنوب شرق آسيا، والمذهب الحنبلي الذي وجد بيئةً مناسبةً له في الجزيرة العربية، وقد عرفت مصرُ تنوُّعًا مذهبيًّا بدرجات متفاوتة بين بقاعها الجغرافية؛ فتجاوز بذلك تأثير هذه المذاهب حدَّ الوقوف عند التعرف على الأحكام الفقهية إلى حدِّ مساهمتها في تشكيل هويات الشعوب، والتأثر العام بمناهجها في التفكير والاستنباط خارج حدود المجال الفقهي.