قدَّمَ الإسلام نموذجًا فذًّا فريدًا في التعامل مع أتباع غيره من العقائد والديانات؛ فعلى خلاف غيره من بعض العقائد التي تنتشر بين كثيرٍ من البشر، والتي تنظر لغيرها نظرة صراعٍ، وإقصاءٍ، واستئصالٍ، نجد الإسلام يقدم وجهةَ نظرٍ مختلفة، تنطلق من الدعوة منهجًا، للاتفاق مع أتباع غيره على "كلمةٍ سواء" تؤكد على أدنى قدرٍ من الثوابت المهمة التي تجمع بين البشر، وفي الوقت ذاته أيضًا تقوم هذه الرابطة بتقليل فرص النزاع والشقاق.
يدرك الإسلام أن نزوع النفس إلى الصراع، والظلم، والجور، هي طباعٌ تتأصَّل في نفوس كثيرٍ من البشر، وبالتالي فإن الصراع، والنزاع، أمر وارد، وهنا يقدِّم الإسلام تصوُّرًا ينزع فتيل هذه الصراعات والنزاعات؛ إذ إنه لما كان النزاع بشأن العقائد والتحيُّزات الفكرية من أكثر النزاعات شيوعًا، وأشدها خطرًا، وأعنفها فتكًا -سواء على مستوى الفرد، أم المجتمع، أم الأمم والدول-، فإن الإسلام يضع قاعدةً نورانيةً، تنطلق من قيمة العدل، تأمر بالبرِّ والتسامح مع غير المسلمين الذين لا يكنُّون عداوةً، ولا يضمرون شرًّا للإسلام وأتباعه، وتسمح -في الوقت ذاته- لأتباعه برد الظلم، ودفع الأذى الذي يوقعه غير المسلمين عليهم؛ فقال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ۞ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الممتحنة: 8-9]، وهنا نجد نظرةً متوازنة لا تبيح لأتباع الإسلام ظلمَ غير المسلمين، بل -وأكثر من ذلك- تحضُّهم على البرِّ، والتسامح، والصلة، عند عدم الإيذاء، وفي الوقت ذاته تمكِّن المسلم من مقاومة أيِّ ظلمٍ أو أذًى يقع عليه.
وكذلك في مجال الحوار بين الأديان، يبسط الإسلام يده لأتباع غيره ليقطع مادة النزاع، ويقر البيئة الملائمة للتعايش والسلام؛ فيقول تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [العنكبوت: 46]، وهنا الأمر الإلهي يمنع بأداة الاستثناء (إلا) الواردة في الآية، وليس فقط يفضِّل أن يكون الجدال بغير القول الجميل اللين، الذي يؤلف القلوب، ويقيم أواصر التعاون، ويؤدي إلى البناء والتعمير؛ ولذا نجد الإسلام يبيح زواج المسلم من الكتابية، وأكل طعامهم؛ يقول تعالى: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [المائدة: 5].
كذلك قام الإسلام بوضع توجيهاتٍ عامة تتعلق بسائر الجنس البشري -وليس فقط بالمسلمين-، تحفظ كرامتهم وتدعو للتعارف فيما بينهم، مما يؤكِّدُ على رؤية الإسلام الطامحة إلى إقامة حياة يملؤها السلام والوئام مع جميع الناس؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13]، وقال تعالى أيضًا: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 70]، فالتكريم لا يخص المسلمين وحدهم، كما أن التعارف أيضًا لا يخص المسلمين وحدهم، بل إنه مسعًى إسلامي لإقامة المجتمعات الآمنة، المستقرة، المتعاونة برغم الاختلافات، أو التنوعات التي تُوجد بداخلها، والتي هي في الوقت ذاته سنة من سنن الله في الكون.
وهذا التصور يأتي التطبيق النبوي ليزيده جلاءً ووضوحًا؛ ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرت به جنازة فقام، فقيل له: "إنها جنازة يهودي"، فقال: «أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟» رواه البخاري، فهنا نجد بوضوح تطبيقًا عمليًّا لتكريم النفس البشرية أيًّا ما كانت عقيدتها، وهو القائل صلى الله عليه وآله وسلم: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» رواه الترمذي، لم يختص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين دون غيرهم، بل قال «مَنْ فِي الأَرْضِ» لتشمل كل الأجناس، والديانات، وسائر الكائنات على الأرض من خلق الله، فهو صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين.
وإذا أردنا نموذجًا عمليًّا للتعبير عن هذه الثوابت الإسلامية في التعامل مع الآخرين، والتي كانت تطبق حتى في ظل عزِّ وقوَّة المسلمين، فسنجد أنه في صلح نجران منح النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهلها حقوقًا، لا يزال يتهم البعضُ الإسلام بأنه يمنعها غيرَه برغم تطبيقها منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة؛ ففي هذا الصلح تم الاتفاق على: «ولنجران وحاشيتها جوار الله، وذمة محمد النبي رسول الله على أنفسهم وملتهم، وأرضهم، وأموالهم، وغائبهم، وشاهدهم، وعيرهم، وبعثهم، وأمثلتهم، لا يغير ما كانوا عليه ولا يغير حق من حقوقهم، وأمثلتهم، لا يفتن أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا واقه من وقاهيته على ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، وليس عليهم رهق ولا دم جاهلية، ولا يحشرون ولا يعشرون ولا يطأ أرضهم جيش من سأل منهم حقًّا، فبينهم النصف، غير ظالمين ولا مظلومين بنجران، ومن أكل منهم رِبًا من ذي قبل فذمتي منه بريئة، ولا يؤخذ منهم رجل بظلم آخر، ولهم على ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمة محمد النبي أبدًا حتى يأتي أمر الله، ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم، غير مثقلين بظلم» [دلائل النبوة للبيهقي 5/ 389].
وكانت وصاياه صلى الله عليه وآله وسلم في الحروب التي هي مظنة الانتقام معروفة مشهورة في عدم التخريب والتدمير والنهي عن قتل النساء والصبيان وغير المحاربين، كما كانت تطبيقات ذلك في العصور التالية شاهدة على التزام المسلمين بهذه القيم الرفيعة السامية التي تعبر عن سموِّ نفسٍ وفكر واعتقاد.