04 ديسمبر 2018 م

من آداب طلب العلم في قصة موسى والخضر عليهما السلام

من آداب طلب العلم في قصة موسى والخضر عليهما السلام

للعلم مكانة عظيمة في حياة الأمم بصفة عامة وعند الأمة المحمدية بصفة خاصة؛ فبالعلم ترتقي العقول وتتهذب النفوس وتنهض المجتمعات وتتقدم، وقد أولى الشرع الشريف العلم عناية خاصة، وحثَّ أتباعه على الجد والاجتهاد في طلبه، وبيَّن منزلة العلماء وفضلهم؛ حيث قال الله تعالى في كتابه المحكم: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9]، وهذا مبدأٌ قرآني، ومعناه: لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وعدم المساواة تقتضي التفضيل: تفضيل الذين يعلمون على الذين لا يعلمون، وهذا تنبيه عظيم على فضيلة العلم وأهله.

وفي السنة النبوية تقريرٌ لهذا المبدأ. وشحْذًا للهمم على سلوك طريق العلم؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ» رواه الترمذي، ونعني بالعلم هنا ليس العلم الشرعي فحسب، وإنما سائر العلوم التي تعود بالنفع على الإنسانية جمعاء، وتحصل بها السعادة في الدنيا والآخرة.

إلا أنَّ هناك مجموعةً من الآداب التي يجب مراعاتها لمن سلك هذا الطريق حتى يؤتي العلم ثمرته المرجوة، فليس العلم مجرد جمعٍ للمعلومات، وإنما هو عملية مكتملة المعرفة جزء منها، والأدب والخلق جزء مهم، وبدونهما قد يتحول العلم من كونه وسيلة للتنوير والتعمير إلى كونه سببًا في الخراب والتدمير.

والقرآن الكريم يسوق القصص من أجل الانتفاع بالدروس والعبر؛ ومن هذا القصص: قصة سيدنا موسى والخضر عليهما السلام؛ ففيها نموذج عملي، وإجراءات واقعية ترشد إلى ما ينبغي أن يكون عليه طالب العلم في رحلته.

ورد في "الصحيح" أنَّ كليم الله سيدنا موسى عليه السلام وقف خطيبًا في بني إسرائيل، فجاءه رجلٌ فقال له: هل تعلم أحدًا أعلم منك؟ قال موسى: «لا»، فأوحى الله عز وجل إلى موسى: "بلى، عبدنا خَضِرٌ"، فسأل موسى السبيل إليه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له: "إذا فقدت الحوت فارجع، فإنك ستلقاه"، قال تعالى على لسان فتى موسى الذي صاحبه في هذه الرحلة: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ۝ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ۝ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ۝ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ [الكهف: 63-66].

وفي هذا حث على لزوم التواضع في كل حال، وأن الشأن أن لا يدعي أحدٌ أنه أعلم الناس، وأنه إذا سئل عن أعلم الناس؟ قال: الله أعلم، ولهذا حرص موسى على لقاء الخضر عليهما السلام وطلب التعلم منه؛ قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا﴾ [الكهف: 60]، وفي هذا إشارة أخرى إلى أن العلم لا يُنال بالراحة، بل لا بد من الهمة العالية والرغبة الشديدة؛ فهما خير معين على السعي والجد وتحمُّلِ المشاق في طلبه.

وفي القصة أيضًا: تنبيه على ضرورة مراعاة طالب العلم للأدب مع معلمه؛ فلَمَّا لقي سيدنا موسى الخضر عليهما السلام قال له: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ [الكهف: 66].

قال أهل التفسير: وقد راعى في ذلك غاية التواضع والأدب، فاستجهل نفسه، واستأذن أن يكون تابعًا له، وسأل منه أن يرشده وينعم عليه بتعليم بعض ما أنعم الله عليه.

وفي القصة أيضًا: إشارةٌ إلى أهمية الصبر في طلب العلم؛ فمن صبر ظفر، ولَمَّا أوتي الخضر عليه السلام علمًا لدُنِّـــيًّـا من الله تعالى علم أن سيدنا موسى عليه السلام لن يصبر على ما سيجد معه من الغرائب، ومن ثَمَّ نصحه بالصبر على ما سيرى، وقال موسى عليه السلام بلسان العازم على الصبر والطاعة: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا﴾ [الكهف: 69]، لكنَّ العبد الصالح يزيد في تأكيده وكأنه يحدد له شرط الصحبة قبل بدء الرحلة وهو: أن لا يسأل عن شيء من تصرفاته حتى يُبيِّن له عن السر من ورائها، وكرر عليه الأمر من باب النصيحة المطلوبة من العالم للمتعلم؛ ﴿قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا﴾ [الكهف: 70].

وفي القصة أيضًا: تعليمٌ لأمر آخر وثقافة مفقودة، ألا وهي ثقافة الاعتذار؛ فلَمَّا لم يتحمل موسى ما رأي نسي شرط صحبة العبد الصالح فسأل، فنبَّهه وذكَّره بلطف بالشرط، فبادر معتذرًا؛ ﴿قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا﴾ [الكهف: 73].

وختامًا: في القصة إشارةٌ إلى أن العملية التعليمية عملية متبادلة بين الأستاذ والتلميذ؛ فالتلميذ يسأل فيما لا يعلم أو في المشكلات التي تعرض له، والأستاذ عليه مهمة الإرشاد والتعليم والتوضيح للتلميذ، وعدم تركه في حيرة من أمره؛ حتى تهدأ نفسه ويستنير عقله.

----------

المراجع:

- "سنن الترمذي" لأبي عيسى الترمذي، تحقيق: أحمد محمد شاكر، ومحمد فؤاد عبد الباقي، وآخرون، ط. شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، الطبعة الثانية، 1395هـ/ 1975م.

- "صحيح البخاري"، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، ط. دار طوق النجاة، مصورة عن السلطانية بإضافة بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، الطبعة الأولى، 1422هـ.

- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" للإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني، ط. دار المعرفة، بيروت، 1379هـ.

- "التَّحبير لإيضَاح مَعَاني التَّيسير" للأمير الصنعاني، بتحقيق وتعليق: محَمَّد صُبْحي بن حَسَن حَلّاق، ط: مَكتَبَةُ الرُّشد، الرياض، المملكة الْعَرَبيَّة السعودية، الطبعة الأولى، 1433هـ/ 2012م.

- "أنوار التنزيل وأسرار التأويل" للقاضي البيضاوي، تحقيق: محمد عبد الرحمن المرعشلي، الطبعة الأولى، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1418هـ.

 

لما خلق الله تعالى الخلق جعل لهم حدودًا ورسم لهم طريقًا مستقيمًا لا عوج فيه ولا انحدار، ولأجل أن يبلغهم شريعته ومنهاجه أرسل إليهم رسلًا ليبلِّغوهم ما أنزل إليهم، وليرشدوهم إلى طريقٍ مستقيمٍ؛ {دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [الأنعام: 161]، فكانوا هم أول من يُؤْمر، فاصطفاهم الحق سبحانه واختارهم من بني البشر ليكونوا قادةً وقدوةً حسنة لأممهم، فتجلت الدعوة الإلهية إليهم في أسمى معانيها بالدعوة إلى الاستقامة والعدل في جميع الأمور بلا إفراط ولا تفريط.


الإخلاص سر خاص بين العبد وربه، لا اطِّلاع لأحدٍ عليه؛ والإخلاص لله تعالى معناه: أن يجعل الإنسان عبادته خالية من أي شائبة؛ فتكون خالصة يُراد بها وجه الله تعالى وحده وابتغاء مرضاته، فإذا فعل ذلك كانت عبادته متحققة بالإخلاص، ووقعت على الوجه الذي يريده الله عز وجل؛ قال الله تعالى: ﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ [الزمر: 3]،


المال قوام الحياة، وأساس نهضة الأمم وتقدم الدول وبناء الحضارات؛ لذا حث الإسلام على طلبه وكسبه، لكنْ من طرقه الصحيحة وبالوسائل المشروعة، وأرشد إلى إنفاقه فيما يعود بالنفع على الإنسان والأكوان، ويكون محقِّقًا لرضا الرحمن.


لَمَّا عُرج بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء في رحلة الإسراء والمعراج رأى سيِّدَنَا إبراهيم عليه السلام مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ -يعني نَفْسَهُ صلى الله عليه وآله وسلم-» رواه مسلم، إنه خليل الله الذي أسلم وجهه لله؛ فقال عنه الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ۝ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [سورة البقرة: 130-131]، فلَمَّا كان كذلك، كان اليقين والتسليم مفتاح شخصيته، فهذا أهم سمة تُميز نبي الله إبراهيم عليه السلام.


القرآن الكريم هو كلمة الله الأخيرة إلى البشرية جمعاء، أنزله الله تعالى على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبه انقطع وحي السماء إلى أهل الأرض؛ لذلك كان القرآن الكريم -وسيظل- كتاب هداية على مَرِّ الأزمان، يتجدد فهمه دائمًا؛ فلا تنتهي عجائبُه، ولا يَخْلَقُ على كثرة الرَّدِّ.


مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 10 أبريل 2025 م
الفجر
4 :4
الشروق
5 :34
الظهر
11 : 56
العصر
3:30
المغرب
6 : 19
العشاء
7 :39