04 ديسمبر 2018 م

اليقين والتسليم مفتاح الشخصية الإبراهيمية

اليقين والتسليم مفتاح الشخصية الإبراهيمية

لَمَّا عُرج بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء في رحلة الإسراء والمعراج رأى سيِّدَنَا إبراهيم عليه السلام مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ -يعني نَفْسَهُ صلى الله عليه وآله وسلم-» رواه مسلم، إنه خليل الله الذي أسلم وجهه لله؛ فقال عنه الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ۝ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [سورة البقرة: 130-131]، فلَمَّا كان كذلك، كان اليقين والتسليم مفتاح شخصيته، فهذا أهم سمة تُميز نبي الله إبراهيم عليه السلام.

كان اليقين التامُّ في قضاء الله وقدره والثقة في خفي لطفه شعاره في دعوة قومه إلى عبادة الواحد الأحد، وترك ما هم عليه من الضلال المبين بعبادة التماثيل التي هم لها عاكفون، فكذبوه وقالوا: ﴿حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: 68]، ولكنَّ سيدنا إبراهيم عليه السلام -وهو الصابر الراضي بحكم الله- لم يفزع من تهديدهم؛ لأنه يعلم أنَّ الحقَّ أبقى، فجاء الرد الإلهي محفوفًا باللطف: ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء: 69]؛ فقد سلب الله تعالى عن النار خاصية الإِحْرَاق بالنسبة لإبراهيم، فلم يصل أذاها إليه، بل كانت بردًا وسلامًا عليه؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لو لم يقل ﴿سَلَامًا﴾ لمات إبراهيم عليه السلام من بردِها".

ظلَّ التسليم الكامل لقدر الله ومشيئته مصاحبًا لسيدنا إبراهيم عليه السلام في جميع مراحل حياته؛ فقد تقدَّم به السنُّ وقضى الله له ألا ينجب أولادًا، وكانت امرأته عاقرًا، لكنه لم يعترض على قدر الله تعالى، وإنما سلَّم أمره لخالقه، فلَمَّا أذن الله تعالى رزقَه بإسماعيل على كبرٍ، ثم أمره الله تعالى بأن يصطحب زوجه هاجر وابنه الصغير إسماعيل ويتركهما في وادٍ غير ذي زرعٍ، صحراء جرداء لا زاد فيه ولا ماء، ولا أشخاص يأنسون بهم، فذهب بهم إلى هناك وتركهم، فلحقت به هاجر عليها السلام تناديه وتسأله: "لمن تتركنا هنا يا إبراهيم"؟ فلم يُجبْها بجواب، فقالت له: "آلله أمرك بهذا"؟ قال: «نعم»، فكانت الكلمة الحكيمة، والاستسلام المطلق: "إذن؛ لن يضيعنا الله أبدًا"، تسليم تام ثقةً في الله، ويقينًا بقضائه وقدره وحكمته.

ثم كان البلاء المبين، فامتُحِنَ عليه السلام في ابنه الذي طال انتظاره له؛ حيث رأى في منامه أنَّ الله تعالى يأمره بذبحِه، ورؤيا الأنبياء وحيٌ وحقٌّ، فكانت المسارعة منه لتنفيذ أمر الله لم يتردَّد، لم يُراجع ربَّه، لكنَّه رضي بحكمه ثقةً في حكمته، وكان التسليم والاستسلام الكامل حاضرَيْن: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ [الصافات: 103]، فجاء الفرج القريب: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ۝ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ۝ إِنَّ هَذَا لَـهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ۝ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ۝ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ۝ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ۝ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الصافات: 104-110]، فلَمَّا أحسنَّا بالامتثال لأمر الله والانقياد لأوامره؛ كان الجزاء من جنس العمل.

إنَّ التسليمَ لقدر الله ومشيئته، واليقين به سبحانه وتعالى من آثار التحقُّقِ بالإيمان الصَّادق؛ فالمؤمن الحقُّ يُسلِّم الأمور في جميع أحواله لخالقه، ومن ثَمَّ تكون عاقبة ذلك هداية القلب وراحة البال؛ يقول الله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن: 11].

والله تعالى يتلطف في مخاطبة عباده بالتكاليف؛ حتى تأنس النفوس وتدنو القلوب، ولا يَحْصُل قلق أو اضطراب؛ فجميع الأوامر والنواهي الإلهية يُراعى فيها جلب المصلحة ودرء المفسدة؛ فإنَّ الله سبحانه وتعالى لا يأمر بشيء إلا وفيه مصلحة ومنفعة، ولا ينهى عن شيء إلا وفيه فسادٌ وهلاكٌ، سواء أدركنا الحكمة أو لم ندركها؛ قال تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216]. وفـي جميع أحوالنا نقول: رضينا بالله تعالى ربًّا وبالإسلام دينًا وبسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيًّا ورسولًا.

فالدرس المستفاد مما سبق: أن اليقين والتسليم من أهم سمات الشخصية الإبراهيمية التي أمرنا الله تعالى بالاقتداء بها فقال: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الممتحنة: 4]، وعلى المسلم أن يتخلَّق بذلك حتى يكون متحققًا بمعنى قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5] المتضمن لمعنى اليقين والتسليم.

*****

المراجع:

- "قصص الأنبياء" للإمام ابن كثير، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، الطبعة الأولى، مطبعة دار التأليف بالقاهرة، 1388هـ/ 1968م.

- "صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" أبو الحسن القشيري النيسابوري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت.

- تفسير البغوي الـمُسمَّى: "معالم التنزيل في تفسير القرآن"، تحقيق: عبد الرزاق المهدي، الطبعة الأولى، دار إحياء التراث العربي، بيروت: 1420هـ.

- "زهرة التفاسير" للشيخ محمد أبو زهرة، ط. دار الفكر العربي.

 

لما خلق الله تعالى الخلق جعل لهم حدودًا ورسم لهم طريقًا مستقيمًا لا عوج فيه ولا انحدار، ولأجل أن يبلغهم شريعته ومنهاجه أرسل إليهم رسلًا ليبلِّغوهم ما أنزل إليهم، وليرشدوهم إلى طريقٍ مستقيمٍ؛ {دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [الأنعام: 161]، فكانوا هم أول من يُؤْمر، فاصطفاهم الحق سبحانه واختارهم من بني البشر ليكونوا قادةً وقدوةً حسنة لأممهم، فتجلت الدعوة الإلهية إليهم في أسمى معانيها بالدعوة إلى الاستقامة والعدل في جميع الأمور بلا إفراط ولا تفريط.


الإخلاص سر خاص بين العبد وربه، لا اطِّلاع لأحدٍ عليه؛ والإخلاص لله تعالى معناه: أن يجعل الإنسان عبادته خالية من أي شائبة؛ فتكون خالصة يُراد بها وجه الله تعالى وحده وابتغاء مرضاته، فإذا فعل ذلك كانت عبادته متحققة بالإخلاص، ووقعت على الوجه الذي يريده الله عز وجل؛ قال الله تعالى: ﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ [الزمر: 3]،


المال قوام الحياة، وأساس نهضة الأمم وتقدم الدول وبناء الحضارات؛ لذا حث الإسلام على طلبه وكسبه، لكنْ من طرقه الصحيحة وبالوسائل المشروعة، وأرشد إلى إنفاقه فيما يعود بالنفع على الإنسان والأكوان، ويكون محقِّقًا لرضا الرحمن.


للعلم مكانة عظيمة في حياة الأمم بصفة عامة وعند الأمة المحمدية بصفة خاصة؛ فبالعلم ترتقي العقول وتتهذب النفوس وتنهض المجتمعات وتتقدم، وقد أولى الشرع الشريف العلم عناية خاصة، وحثَّ أتباعه على الجد والاجتهاد في طلبه، وبيَّن منزلة العلماء وفضلهم؛ حيث قال الله تعالى في كتابه المحكم: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9]، وهذا مبدأٌ قرآني، ومعناه: لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وعدم المساواة تقتضي التفضيل: تفضيل الذين يعلمون على الذين لا يعلمون، وهذا تنبيه عظيم على فضيلة العلم وأهله.


القرآن الكريم هو كلمة الله الأخيرة إلى البشرية جمعاء، أنزله الله تعالى على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبه انقطع وحي السماء إلى أهل الأرض؛ لذلك كان القرآن الكريم -وسيظل- كتاب هداية على مَرِّ الأزمان، يتجدد فهمه دائمًا؛ فلا تنتهي عجائبُه، ولا يَخْلَقُ على كثرة الرَّدِّ.


مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 10 أبريل 2025 م
الفجر
4 :4
الشروق
5 :34
الظهر
11 : 56
العصر
3:30
المغرب
6 : 19
العشاء
7 :39