جاء عن ابن عباس أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، أَخْبَرَهُ: أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ، فَأَتَوْهُ - فَذَكَرَ الحَدِيثَ - قَالَ: ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُرِئَ، فَإِذَا فِيهِ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، السَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، أَمَّا بَعْدُ» (متفق عليه).
هنا أيضًا نموذج جديد من نماذج التعامل بالحكمة والموعظة الحسنة من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يراعي هذا المبدأ في كل الأفعال والتصرفات، وتجاه جميع خلق الله، كبيرهم وصغيرهم، مؤمنهم وكافرهم، البعيد والمقرب منهم.
هنا نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطابه لهرقل الروم يستعمل كل آفاق الحكمة والموعظة الحسنة؛ فابتداءً عند ذكره في الرسالة لَا يُفْرِطُ وَلَا يُفَرِّطُ؛ فيقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ»، لَمْ يَقُلْ مَلِكِ الرُّومِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُلْكَ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ إِلَّا بِحُكْمِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَلَا سُلْطَانَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِمَنْ وَلَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ وَلَّاهُ مَنْ أَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرْطٍ، وَإِنَّمَا ينْفذُ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْكُفَّارِ مَا تُنْفِذُهُ الضَّرُورَةُ، وَلَمْ يَقُلْ عليه الصلاة والسلام إِلَى هِرَقْلَ فَقَطْ بَلْ أَتَى بِنَوْعٍ مِنَ الْمُلَاطَفَةِ والإكرام في المخاطبة، وسيرًا مع مبدأ تنزيل الناس منازلهم المعمول به في الإسلام- كما ذُكِرَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُنَزِّلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ- فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «عَظِيم الرُّومِ»؛ أَيِ الَّذِي يُعَظِّمُونَهُ وَيُقَدِّمُونَهُ.
ثم لننظر بعد ذلك إلى خطابه له بقوله: «السلام على من اتبع الهدى»، التحية بالسلام التي ينفرد بها دين الإسلام لهي بحق دليل دامغ على أحقية هذا الدين، لننظر في واقعنا المعاصر كيف أن مشكلة العالم الأولى ضياع الأمن والسلام، وهذا الآن أصبح مشكلة الجميع في جميع أنحاء العالم، بعدما عم العنف واستشرت نار الحرب والإرهاب في جميع بقاع الأرض، ويبقى الإسلام يحض على جلب وترسيخ عوامل السلام، فالسلام عليكم هي تحية الإسلام المعتمدة، بل والمأمور بها كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: «أطعموا الطعام وأفشوا السلام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا جنة ربكم بسلام»، بل أمر الإسلام ببذل السلام حتى لمن لا نعرفه، جاء عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الإِسْلامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ».
أما مطالبة هرقل باتباع الهدى فيندرج تحت المطالبة بالاستماع والإنصات إلى عقائد ومبادئ الدين الجديد الخاتم والمكمل لجميع الأديان السابقة، وبذلك تكتمل أسرة ومسيرة الأنبياء على وجه الأرض، منتهية بالدين الخاتم المهيمن دين الإسلام.
فاللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.