الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد..
يأتي هذا الكتاب ضمن الجهود الكبيرة التي تبذلها «دار الإفتاء المصرية» في الرد على كل التساؤلات التي يمكن أن تطرأ على أذهان كثيرٍ من الناس، بهدف بيان الرؤية الدينية المعتدلة في كل القضايا والمستجدات المجتمعية، ولا يخفى على أحدٍ -صغيرًا كان أو كبيرًا- أن العالم المعاصر يشهد تسارعًا متزايدًا في القضايا والنوازل الدولية والإقليمية والوطنية؛ مما أدى بالنهاية إلى فَرضِ كثيرٍ من التساؤلات الشرعية والفكريَّة، ولا يمكن لـ»دار الإفتاء المصرية» أن تعيش بمعزل عن هذا التسارع وتلك التساؤلات؛ فهي جزء من نسيج المجتمع تضطلع بمسؤولية دينية ووطنية ودولية، كما لا يمكن لها أن تترك فراغًا فقهيًّا أو فكريًّا يمكن أن تستغله الجماعات المتطرفة والأيديولوجيات المنحرفة لاستقطاب الشباب والأفراد نحو التطرف والانحراف.
ومما تتميز به «دار الإفتاء المصرية» في التكييف الشرعي والمجتمعي للقضايا والنوازل -قدرتها على التوفيق بين النصوص الدينية والمصالح الوطنية، التي تعود بالخير والأمن والسلام على الأوطان والشعوب، وهذا المسلك لم يتوفر لجَماعاتِ العنف والتطرف؛ لأنها قد حددت أيديولوجياتها وأهدافها ابتداءً، ثم بعد ذلك طوَّعت النصوص الشرعية وفق مصالحها الخبيثة، كما أنها تعدم الانتماء الوطني بالأساس، ويكون انتماؤها للأفراد أو الجماعات، وهذا المسلك قد ألحق الضرر بالأمة الإسلامية والعربية في العقود الأخيرة بشكل بالغ، وأثَّر على مقدرات هذه الأمة وأضعفها، ولولا الله تعالى قد منَّ عليها برجال فاهمين لطبيعة الصراعات التي يعيشها العالم، وقادرين على مواجهة جميع التهديدات والأفكار الهدامة، لدخلت هذه الأمة في نفقٍ مُظلمٍ لم تكن لتخرج منه إلا أن يشاء الله تعالى بعد زمن سحيق.
ومن بين أهم هذه القضايا التي يتم طرحها بتتابع كبير في العصر الحديث: قضية «التجديد الفقهي والإفتائي»، والتي شغلت -ولا تزال- حيزًا كبيرًا من النتاج الفكري والمعرفي لعلماء المسلمين في العصر الحديث، وقد حرص كل واحد منهم على أن يدلو بدلوه في بيان أهمية التجديد وقيمته الدينية والمجتمعية، ومسيس الحاجة إليه في الواقع المعاصر، وقد رأينا كثيرًا من هؤلاء العلماء والفقهاء يقود كل واحد منهم ركب التجديد ومسيرته في الواقع المعاصر، ومن ثمَّ بذل جهودًا كبيرة غير مسبوقة في هذا المسار.
غير أنه -من وجهة نظري- يجب أن نلتفت ونهتم بالتجديد المؤسسي بديلًا عن النزعات التجديدية الفردية، بمعنى أن تتعاون جميع المؤسسات الدينية والمجتمعية والمدنية في التكييف للقضايا والمسائل المستجدة؛ حتى تنتهي بالنهاية إلى الرأي الشرعي الذي يتوافق والنصوص الشرعية ويلبي احتياجات المجتمع ويحقق المصالح الوطنية العامة، ويجب علينا هنا أن نثبت ونشيد بجهود المؤسسات الدينية المصرية (الأزهر الشريف، ودار الإفتاء، ووزارة الأوقاف)، في مضمار التجديد المؤسسي بشكل كبير، وسيغدو التجديد على هذا النحو أبعدَ عن الوقوع في الشذوذ الفقهي والإفتائي؛ لما يتوفر له من شمولية وتكامل في النظر الفقهي والمجتمعي، وسيكون فرصة مناسبة لتلاقح الأفكار والرؤى، وتتوافق العقول والفهوم على المحل الواحد، تسبر أغواره، وتحقق مناطاته، حتى تنتهي بالنهاية إلى بيان الحكم المناسب الذي لن يكون عليه معترض، وهذا أمر تعضده الفطرة البشرية، والتجارب السابقة في القضايا والمستجدات، ويؤيده الواقع، وهو أقرب إلى الاتفاق أو الإجماع الخالي من السهو أو الغفلة أو القصور، وإذا تم التجديد على هذا النحو سنضمن حِراكًا فكريًّا ومعرفيًّا خاليًا من الجدال المذموم أو التصارع الفكري والمعرفي، كما ستتلقاه الأمة بالقبول والرضا؛ لأنه محل اتفاق بين جميع المؤسسات الدينية والمجتمعية.
وإذا كنا قد بيَّنَّا أهمية التجديد المؤسسي على هذا النحو، فمن الضروري أن نشيرَ إلى خطورة النزعات الفرديَّة في القضايا والمسائل المستجدة؛ حيث إنها تفتح طريقًا ممهدًا لجميع المتعالمين، والعابثين، وأصحاب الهوى، وطالبي الشهرة، ممن يظنون أن إفتاء الناس طريق مفتوح لكل عابث ولَاهٍِ، لذا سنجدهم يقعون في الأقوال الشاذة والمستغربة، إما عن جهلٍ أو عن قَصدٍ لتحقيق أهدافهم الخبيثة.
ومما أتعجب له في هذا الزمان أنني أجد بعضهم يطرح أمورًا تكون نصوصها ثابتة ودلالتها قطعية لا تقبل الاجتهاد أو الالتفاف عليها، ثم يذكر قضايا ومسائل حولها بهدف التشكيك في الثابت والمستقر منها؛ حتى ينتهي في النهاية إلى بيان وجهة نظره التي ليست لها قيمة فقهية أو معرفية، ثم يدلس على الناس بكون وجهة نظره تلك هي بمثابة تجديد حقيقي في الفكر الديني، ويحضرني في هذا المقام ما قاله ربيعة الرأي (شيخ الإمام مالك W): «استُفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، وبعض من يفتي هاهنا أحق بالسجن من السراق»[1].
هم أحق بالسجن من السراق؛ لأنهم يفترون على الله الكذب، وقد تجرؤوا على الفتيا بغير علم أو دراية، مما يهدد السلم ويكدر الأمن المجتمعي، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتورعون عن الفتيا حتى لا يقع أحد منهم في هذا الأمر، وهم أعلم الناس بالكتاب والسنة، فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: «أَدْرَكْتُ عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم -أَرَاهُ قَالَ: فِي الْمَسْجِدِ-، فَمَا كَانَ مِنْهُمْ مُحَدِّثٌ إِلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْحَدِيثَ، وَلَا مُفْتٍ إِلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهَ كَفَاهُ الْفُتْيَا»[2]. وورد عن عبد الله بن مسعود I أنه قال: «مَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِكُلِّ مَا يَسْأَلُونَهُ فَهُوَ مَجْنُونٌ»[3]. وَعَن الْهَيْثَم بن جميل: «شَهِدْتُ مَالِكًا سُئِلَ عَن ثَمَانٍ وَأَرْبَعين مَسْأَلَةً، فَقَالَ فِي ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ مِنْهَا: لَا أَدْرِي»[4].
لذا كان من الضروري أن نحذر الناس منهم، ونؤكد على عدم جواز تقليدهم فيما يذهبون إليه من أقوال غريبة أو شاذة حتى ولو كانوا من أهل النظر والاجتهاد، فنحفظ لهم قيمتهم تلك، لكن لا نتبعهم فيما وقعوا فيه من زلل أو خطأ، وفي ذلك يقول الإمام القرافي رحمه الله: «كُلُّ شَيْءٍ أَفْتَى فِيهِ الْمُجْتَهِدُ فَخَرَجَتْ فُتْيَاهُ فِيهِ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ أَوِ الْقَوَاعِدِ أَوِ النَّصِّ أَوِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ السَّالِمِ عَنِ الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ لَا يَجُوزُ لِمُقَلِّدِهِ أَنْ يَنْقُلَهُ لِلنَّاسِ وَلَا يُفْتِي بِهِ فِي دِينِ اللهِ تَعَالَى، فَإِنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَوْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ لَنَقَضْنَاهُ، وَمَا لَا نُقِرُّهُ شَرْعًا بَعْدَ تَقَرُّرِهِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ أَوْلَى أَنْ لَا نُقِرَّهُ شَرْعًا إذَا لَمْ يَتَأَكَّدْ، وَهَذَا لَمْ يَتَأَكَّدْ، فَلَا نُقِرُّهُ شَرْعًا، وَالْفُتْيَا بِغَيْرِ شَرْعٍ حَرَامٌ، فَالْفُتْيَا بِهَذَا الْحُكْمِ حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ الْمُجْتَهِدُ غَيْرَ عَاصٍ بِهِ، بَلْ مُثَابًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بَذَلَ جُهْدَهُ عَلَى حَسَبِ مَا أُمِرَ بِهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ : ((إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ، وَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ)). فَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْعَصْرِ تَفَقُّدُ مَذَاهِبِهِمْ، فَكُلُّ مَا وَجَدُوهُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ يَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الْفُتْيَا بِهِ»[5].
وفي هذا الكتاب تحرص دار الإفتاء المصرية على بيان القول الصحيح والمعتدل في كثير من القضايا المجتمعية، ومن بينها: «الاتجار في العملات القديمة»، و«ظاهرة المستريح»، و«الزمالة في الجامعة بين المسلم وغير المسلم»، و«حكم الهجرة غير الشرعية»، و«دعوى أن أئمة الفقه ليسوا من أهل السنة في باب العقيدة»، وغير ذلك من المسائل والقضايا.
ونسأل الله دوام التوفيق والسداد.
أ.د/ نظير محمد عياد
مفتي جمهورية مصر العربية
ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم
[1] أدب المفتي والمستفتي، ابن الصلاح (المتوفى: 643هـ)، (ص85).
[2] شرح السنة، محيي السنة، أبو محمد الحسين البغوي الشافعي (ت: 516هـ)، (1/ 305).
[3] المعجم الكبير، سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم الطبراني (ت: 360هـ)، (9/ 188)، رقم (8924).
[4] آداب الفتوى والمفتي والمستفتي، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676هـ)، (ص16).
[5] الفروق= أنوار البروق في أنواء الفروق، أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي الشهير بالقرافي (المتوفى: 684هـ)، (2/ 109).
تصفح الكتاب