الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد..
انطلاقًا من واجبنا الديني ومسؤوليتنا المجتمعية المنوطة بعاتقنا في «دار الإفتاء المصرية» صار لزامًا علينا ضرورة التفاعل السريع والمباشر مع القضايا والنوازل المجتمعية التي تَشغلُ أذهانَ كثير من الناس داخل القطر المصري الحبيب وخارجه؛ للتأكيد على صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زَمانٍ وَمَكانٍ، ولإثبات مرونة الفقه الإسلامي القديم والحديث مع الوقائع والمستجدات المجتمعية، بالإضافة إلى نشر الوعي الديني الصحيح والمعتدل بين أفراد المجتمع وفئاته المتنوعة، وأيضًا للرد على الشبهات المثارة حول الإسلام، والإسهام في تحقيق الاستقرار والأمن المجتمعي، وتفعيل خاصية التجديد الدائم والمستمر التي تتمتع بها الشَّريعةُ الإسلاميَّةُ بما تحقق مصالح البلاد والعباد.
ومن بين أهم المقاصد التي تسعى إليها «دار الإفتاء» من خلال فتاواها المجتمعية: تعزيز المَرجعيَّة الدينيَّة المُؤسسيَّة الرشيدة في الإفتاء؛ لمواجهة فوضى الفتوى وعشوائية الردود التي صارت تعايشها المجتمعات المعاصرة كأمر طبعي، والتي تستغلها الجماعات المتطرفة في زعزعة الاستقرار المجتمعي.
ومن الضروري أن نشير إلى أن الفتاوى الدينية في الوقائع والمستجدات المعاصرة يجب أن تتحلى بالصبغة التجديدية الجادة والمحكمة؛ وذلك لكونها مستجدات لا يُعلم لها حكم في الشرع أو نظير في اجتهاد السابقين، ومن ثمَّ يلزم أن تتسم بالنزعة التجديدية في كلٍّ من الصياغة وطريقة العرض، ويمكن كذلك في تغيير الحكم الشرعي بما يتناسب ومقتضيات الواقع ولا يخالف الثوابت الدينية المستقرة.
وقد استقرَّ عند الفُقهاءِ والمفتين أن المستجدات الفِقهيَّة تنقسم إلى قسمين: الأول: مستجدات تطرأ على المجتمع، وليس فيها نص ديني أو اجتهاد فقهي سابق، مثل: المعاملات الإلكترونية، والاستنساخ، والعملات الرقمية، واختيار نوع الجنين وتحديده بالوسائل المعاصرة، ومثل هذه المسائل خالية من طابع التعقيد والإعضال، ويُبنى النظر الفقهي فيها على مراعاة الأحوال والملابسات، وموقف المنجزات الإنسانية والحضارية المعاصرة منها، وهذه المستجدات يَحسُن أن تُفتيَ فيها المؤسسات والمجامع الفقهية والإفتائية بعيدًا عن الاجتهاد الفردي؛ حتى نضمن خلو الفتوى من القصور أو الشذوذ.
الثاني: مسائل تتغير مناطاتها الفقهية والمجتمعية، وتختلف المصالح التي انبنت عليها بسبب تغير الزمان، والمكان، والحال، والعرف، وغير ذلك مما يؤثر في تغير الفتوى الخاصة بالمسألة، ومثال ذلك: أن الفقه الإسلامي في القديم قد اشترط في تسليم الدار للمشتري تسليم المفتاح، أما في الواقع المعاصر فلا يشترط ذلك؛ لقيام الدولة بإنشاء «السجل العقاري» وتوجيه المواطنين بضرورة تسجيل العقارات لديه، وقد أصبح مستقرًّا شَرعًا وقانونًا وعُرفًا أن هذا التسجيل يكفي في تسليم الدار.
وإذا كان التجديد الفقهي في هذه المستجدات قد أصبح ضرورة حتمية لا مفرَّ منها فيجب أن يكون وقتئذ تجديدًا ذاتيًّا، ينطلق من الذاتية المعرفية والفقهية عند المفتين والمؤسسات الإفتائية، واستجابة سريعة للوقائع والمستجدات، ويرتكز على منهجية رصينة توفق بين النصوص الدينية والفقهية وبين المصالح المجتمعية المعاصرة، وليس بناء على ضغوط أيديولوجية أو مجتمعية، كما يدعي البعض أن التجديد الفقهي المعاصر مدفوع بالضغوط الأيديولوجية لبعض المذاهبِ والتياراتِ العلمانيَّةِ أو النَّسويَّةِ، لذا وجب علينا كمؤسسات دينية وإفتائية أن نسابق الزمن من خلال الافتراضات الفقهية والفكرية، واستشراف المستقبل بحلول ناجعة لإشكاليات فقهية أو مجتمعية يمكن أن تحدث فيه، وضرورة تفعيل الاجتهاد بأدواته المَنهجيَّة والعلمية الرصينة في التأصيل لهذه القضايا، وعدم الوقوف عند مَا أطَّر له السابقون في تراثهم الفقهي والفكري.
ومما تتميز به «دار الإفتاء المصرية» في مشاريعها البحثية والإفتائية أنها تسعى بكل ما تستطيع من أدوات معرفية ومادية نحو استيعاب جميع القضايا والمستجدات المجتمعية؛ حتى لا تترك فراغًا فقهيًّا أو إفتائيًّا تستغله جماعات العنف والتطرف في استقطاب الأفراد نحوها، أو تستغله الأيديولوجيات المتربصة بالإسلام والمسلمين نحو تشكيك المسلمين في المضامين الإسلامية الثابتة والمتنوعة.
وقد التزمت الدار منهجًا إفتائيًّا رشيدًا في مُعالجةِ كثيرٍ من القضايا التي تشغلُ أذهانَ كثيرٍ من الناس، فحرصت على ضرورة التأطير المقاصدي للقضايا والمسائل، وعدم الوقوف عند حدود النص طالما لم تكن قطعية الثبوت والدلالة، كما أنها قامت برد هذه المسائل إلى النصوص الشرعية الثابتة، فإن لم تجد أعملت القياس؛ حيث إن النصوص الدينية محصورة، والوقائع غير محصورة كما هو مقرر عند أهل العلم، فإن لم تجد قياسًا على مثال سابق، راعت المصالح المرسلة، التي عملت بها جميع المذاهب الفقهية، فإن لم تجد طبقت مبدأ سد الذرائع، وغير ذلك من الأمور، مثل: مراعاة العرف الصحيح، والاستصحاب، وقول الصحابي، ومقاصد الشريعة الإسلامية، والتي تؤدي في النهاية إلى صياغة فتوى دينية معتدلة تحقق مصالح البلاد والعباد.
وهذا المنهج الإفتائي الرشيد لا تراعيه جماعات العنف والتطرف، وكذلك أصحاب الهوى والنزعات الفردية؛ لذا تأتي فتاواهم شاذة غير منضبطة بالمنهج الفقهي والأصولي الرصين.
والكتاب الذي بين أيدينا يناقش قضايا مجتمعية متنوعة، في العبادات، والمعاملات، وغيرها، مثل: «الوضوء بعد عمليات الليزر وجراحات العيون»، و«حكم إمامة المرأة»، و«الزكاة على فيزا المشتريات»، و«ضم الأموال النقدية إلى عروض التجارة في الزكاة»، و«إخراج اللحم أو المال بديلًا عن شعيرة الأضحية»، و«استخدام التمويل في غير الغرض المنصوص عليه في العقد».
وهذه القضايا أمثلة توضح قيمة هذا الكتاب، ومدى قدرته على الإجابة عن كثيرٍ من القضايا التي تشغل أذهان الناس، وستجد فيه أيها القارئ الكريم -بمشيئة الله تعالى- بُغيتك المَعرفيَّة والدينيَّة الصحيحة، بعيدًا عن تحريف المغالين أو تأويل المبطلين.
ونسأل الله دوام التوفيق والسداد.
أ.د/ نظير محمد عياد
مفتي جمهورية مصر العربية
ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم
تصفح الكتاب