قضايا تشغل الأذهان - جزء 1

قضايا تشغل الأذهان - جزء 1

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومَن والاه، وبعد:

فممَّا لا شك فيه أَنَّ حركة البحث العلمي هي من المظاهر الدالة على حيوية تفاعل المسلمين مع واقعهم المعاصر واستمرارية تواصلهم مع تراثهم الأصيل في علاقة تكاملية، مبتغاها الأساسي القيام بواجب الاستخلاف الإلهي للإنسان، والسعي للإصلاح في الأرض، والارتقاء بالإنسان المُكَرَّم في أصل خلقته؛ ولذا فحركة البحث الفقهي تستتبع الحفاظ على الهوية الحضارية للمسلمين، وتبرهن على تميز جوهرها بأعمق عناصر الخلود، وعلى تساميها عن التقيد بالزمان أو المكان أو الأشخاص أو الأحوال. والبحث العلمي دائمًا هو نقطة البدء لتقدم الأمم وازدهار الحضارات.

ولا ريب أَنَّ العالم الآن في حاجة ظاهرة إلى الاستفادة من منهج البحث العلمي الإسلامي، وإلى التراث العريق الموروث عن المسلمين الأوائل، كما أنَّ شعوب العالم المتناحر اليوم في أَمَسِّ الحاجة للاطلاع على سابق عهد الحضارة الإسلامية وتجربتها الفريدة في استيعاب الشعوب والحضارات الأخرى، واحترامها للعلم والعلماء وطلاب العلم مهما كانت أجناسهم أو ألوانهم أو معتقداتهم.

والفتوى الفقهية هي عملية تطبيقية تربط بين العلم الشرعي النظري وبين الواقع المتغير الملموس وفقًا لقواعد وأصول مُحَدَّدة تعمل على تحقيق المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية، وهذا يعني أَنَّ الإفتاء صناعة تتطلب المختصين، وتحتاج للتعامل الدقيق مع الأدوات والمعطيات؛ لتخرج الفتوى مُحَقِّقة لمصالح العباد مراعيةً أحكام الشريعة.

وإذا لاحظنا واقعنا المعاصر وما جرى فيه من التطور والتغير؛ ظهرت حاجتنا الماسة إلى إبراز حقيقة البحث الفقهي المعتمد في إصدار الفتاوى من خلال بيان أصوله النظرية وفروعه ونماذجه التطبيقية. ومع الابتلاء بتَصدُّر غير المؤهلين للإفتاء في هذا العصر وما أحدثوه من فوضى وتَخَبُّط وحيرة لدى عامة المسلمين والمستفتين؛ تتأكد الحاجة إلى إظهار الحِرَفِيَّة العالية في صناعة الفتوى، وإبراز تفاصيل العملية الذهنية التي تدور في عَقل المفتي ليصل في نهايتها إلى الحكم الشرعي الصحيح في مسألةٍ مخصوصةٍ أو واقعةٍ معينةٍ، فيتدرج بادئًا بالتصوير[1] ثم التكييف ثم الحكم ثم التدليل ثم التنزيل والإفتاء، وحينئذ يكون البحث العلمي الرصين هو العلامة الفارقة بين الفتاوى الشرعية المُؤصَّلة وبين الكلام المرسل على عواهنه، وهو العصمة الحقيقية للأمة من اتباع الشيطان؛ كما قال تعالى: {وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَٱتَّبَعۡتُمُ ٱلشَّيۡطَٰنَ إِلَّا قَلِيلٗا} [النساء: 83].

وحرصًا من دار الإفتاء المصرية على نشر صناعة الفتوى الصحيحة؛ فإنها تدعو العلماء والفقهاء وطلبة العلم في جميع التخصصات إلى الاهتمام بهذا الجانب والتَّوسُّع فيه وتحويله إلى بحوث أكاديمية، وتأصيله تأصيلًا تفصيليًّا من أجل انطلاق البحث العلمي بأقوى صوره؛ فكم نحتاج في عصرنا هذا إلى البحث العلمي المتخصص، وإلى التَّعمُّق والبُعد عن التعميم والسطحية، وإلى الجمع بين الأصالة والتجديد، وإلى العناية بالبعد الإنساني في الخطاب الإسلامي، وإلى التصدي بشجاعة للقضايا المثارة، وتغليب المنطق العلمي القائم على الإقناع والبعد عن الخطاب الإنشائي، والجمع بين المثالية والواقعية، وإبراز الأبعاد التربوية والروحية والحضارية في الخطاب الإسلامي.

وقيامًا بالدور المنوط بدار الإفتاء المصرية في نشر الإسلام الوسطي المعتدل؛ فقد عَمَدت الدار إلى استقراء أكثر الأسئلة التي وُجِّهت إليها عبر منافذها المختلفة، وانتقاء عددٍ مناسب منها في مختلف أبواب الفقه، وبيانها بيانًا شافيًا لا يقتصر فيه الأمر على ذِكر الحُكم الشرعي في المسائل بصورة موجزة، ولا يصل فيه الأمر إلى حد الاستقصاء والاستفاضة في العَرض، والتي لا يستفيد منها سوى المتخصصين، وإنما وقع الاختيار على منهجٍ في طريقة عرض الجواب، جامعٍ بين خصائص البيان الشرعي الموجز المفهوم لكل قارئ غير مُتخصِّص في علوم الشريعة، وبين خصائص البحث الفقهي المُتعمِّق المقصود لكل متفقه ودارسٍ للعلوم الشرعية.

ومن هنا تَنبُع أهمية هذا الكتاب؛ وذلك مِن خلال أهمية القضايا التي يغطيها؛ من حيث طريقة جمع الأسئلة، وكيفية الإجابة عنها، وكيفية تصنيفها باختيار أيسر الطرق للوصول للقضية المراد البحث عنها.

ولا شك أن المُطَالِع لهذا الكتاب الضخم -والذي هو عبارة عن ثلاثةٍ أجزاءٍ، وهذا هو أول جزء منها- لَيُدرِك كَمَّ الجُهد الذي بُذِل فيه، لا سيما وأَنَّ عددًا ليس بقليلٍ من القضايا التي تناولها الكتاب هي من النوازل المعاصرة التي يُعَدُّ البحث فيها ترجمةً عمليةً لمرونة الشريعة وسعتها وصلاحيتها لكل زمان ومكان، كما أَنَّ مِن تلك الفتاوى ما تمس قطاعًا عريضًا من المستفتين والقراء، وهذا ناتج من كونها أسئلة واقعية وُجِّهت للدار وليست مفترضة.

ومع أَنَّ مِن بين القضايا التي توجد في هذا الكتاب فتاوى أُصدِرَت مِن الدار قبل ذلك عدة مرات؛ كفتوى: «طلب الرجل رد الشَّبكَة من المرأة»، وفتوى: «الختان»، وفتوى: «العمل في البنوك»؛ إلَّا أن المميز في هذا الكتاب -وهو الجديد الذي يُقَدِّمه- هو أسلوب الطَّرح للجواب والذي يعتمد على ما يلي:

1- وضع عنوان مناسبٍ لكل قضية.

2- «عدم شخصنة السؤال»؛ وذلك بحذف أي بيانات ذاتية تدل على السائل.

3- تبسيط المعلومات بحيث يناسب فهمها مستوى القارئ غير المتخصِّص في علوم الشريعة؛ وفي سبيل تحقيق ذلك تَمَّ ما يلي:

أ‌) وَضع كلمات مفتاحية للمصطلحات العلمية الواردة في الكتاب، وبإزاء كل مصطلح التعريف العلمي المبسط له.

ب‌) حذف النصوص والأقوال الفقهية والاستعاضة عنها بكتابة الفِكرة أو المعنى الذي يحتويه النص أو النقل الفقهي؛ فالأصل -في هذا الكتاب- أن لا تُذكَر النصوصُ والأقوال إلَّا على سبيل التَّبَع أو ما يستدعيه المقام.

4- ذِكر خلاصة كل قضية في نهايتها بأسلوب شيق جَذَّاب باستعمال مثل تلك العبارات:

أ‌) «فالذي نستخلصه مما سبق».

ب‌) «والذي نستفيده مما سبق».

ت‌) «والذي يُفهَم من ذلك».

ونحو ذلك من العبارات المشابهة.

5- الجمع بين القضايا المتشابهة ذات الموضوع الواحد.

6- التركيز على سبب ترجيح رأيٍ معين في المسألة؛ بأسلوب عصري يخاطب العقل دون إغراقٍ في التخصص الشرعي.

ودار الإفتاء المصرية -كما عُهِد عنها في إصداراتها المختلفة- تحاول أن تلامس الواقع بأيديها، وتسعى جاهدة إلى تقديم الأجوبة الشرعية للأسئلة التي تثار في المجتمع، وهذا الكتاب الذي بين أيدينا هو ثمرة لهذا التكليف الذي تحمله دار الإفتاء على عاتقها، مبتغين في ذلك رضوان الله ، وخدمة دين الإسلام السمح الحنيف، راجين منه أن يتقبل هذا العمل كما وفَّقَنا إليه، وأن ينفع به أمة المسلمين والمؤمنين وسائر الناس أجمعين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

والحمد لله أَوَّلًا وآخرًا...

أ.د/ شوقي إبراهيم علَّام

 

[1] «تصوير المسألة»: فهمها على ما هي عليه في الواقع.

 

تصفح الكتاب

مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 24 أغسطس 2025 م
الفجر
4 :56
الشروق
6 :27
الظهر
12 : 57
العصر
4:33
المغرب
7 : 27
العشاء
8 :48