الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومَنْ تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فقد شرفنا اللهُ بالإسلام الحنيف، وهدانا أنوارَه، وأضاء لنا الطريق بسماحة تعاليمه، وقوامة شرائعه.
وكانت تلك الشرائع بمنزلة السراج الوهاج للمتبعين، والنور المبين للمريدين، وقد ترتَّب عليها صلاح الأنام حالًا، وفلاحهم مآلًا.
ومن بينها: الزكاة، تلك الركيزة الفاعلة، والدعامة الراسخة، وهي تعني: النماء، والطهارة، والصلاح، والزيادة، وكل فعل يليق.
ومن ثَمَّ قال الخليل: «زكو: الزَّكَوات: جمع الزَّكاة. والزَّكاة: زكاة المال وهو تطهيره.. زكَّى يُزَكِّي تزكيةً، والزكاة: الصلاح. تقول: رجل زكيٌّ تقي، ورجال أزكياءُ: أتقياء. وزَكَا الزرع يَزْكُو زَكاءً: ازداد ونما، وكل شيء ازداد ونما فهو يزكو زَكاءً. وهذا الأمر لا يَزْكُو، أي: لا يليق»[1].
وقال ابن فارس: «(زَكَى): (الزَّاءُ)، وَ(الْكَافُ) وَالْحَرْفُ الْمُعْتَلُّ: أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَى نَمَاءٍ وَزِيَادَةٍ. وَيُقَالُ: الطَّهَارَةُ زَكَاةُ الْمَالِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا مِمَّا يُرْجَى بِهِ زَكَاءُ الْمَالِ، وَهُوَ زِيَادَتُهُ وَنَمَاؤُهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سُمِّيَتْ زَكَاةً لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ. قَالُوا: وَحُجَّةُ ذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ رَاجِعٌ إِلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَهُمَا النَّمَاءُ»[2].
ولأهميتها كان بالغ التحريض عليها، ومن أبرز مظاهره: أنها تأتي في سياق الحديث عن اليوم الآخر حتى ترضى بها النفس، وتأتيها طوعًا؛ لعلمها بأن لها أثرًا محققًا في ذلك اليوم. كما في قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10].
ومنها: أنه قد وعد عليها بالأضعاف المضاعفة؛ مصداق قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 261- 262].
ومنها: جعلها من مقتضيات الإيمان؛ مصداق قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254].
وغير ذلك الكثير من المظاهر المتضافرة ضمن الآيات المحكمة في سياقاتها المتعددة.
وترتسم أهمية الزكاة في كونها من أهم شعائر التكافل الاجتماعي، وأرسخ راية على الاتحاد، وأعمق دلالة على الأُخوة، وأشد تناسبًا للوئام.
ومن هذا المنطلق تأتي أهمية إلقاء الضوء على المؤلفات في هذا الشأن، وفي صدارتها: المؤلَّف الموسوم بـــ «نظرات في زكاة كسب العمل في ضوء التأصيل الشرعي والتوصيف الفقهي»، للأستاذ الدكتور/ حسن صلاح الصغير عبد الله، أستاذ الفقه بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة، والأمين العام المساعد لمجمع البحوث الإسلامية للشؤون العلمية والبحوث، والمشرف العام على لجان الفتوى بالأزهر الشريف.
والذي ضمنه مبحثين أصيلين، وسم الأول بـ«التعريف بكسب العمل والأصل الشرعي في زكاته»، فكشف عن المراد به، وجوانب تناول متقدمي الفقهاء له، وبيَّن صور كسب العمل في الواقع المعاصر.
ثم قدم الأصل الشرعي في وجوب زكاة كسب العمل، وحقيقة الخلاف فيه.
كما وسم المبحث الثاني بـ«التوصيف الفقهي لكسب العمل وأحكام زكاته»؛ فتناول نصاب زكاة كسب العمل، ومقدار الزكاة الواجب في كسب العمل، ووقت زكاة كسب العمل، وكيفية زكاته.
وجدير بالتنويه: أن هذا المؤلَّف على صغره قد عالج قضية معاصرة، ونازلة مستجدة في إطار علمي رائع، وتأصيلٍ منهجي رائق، ينُمُّ عن شخصية علمية راسخة، وعقلية مجتهدة نابغة.
كما اتسم بحسن العرض، ويُسْر التناول، وجودة الطرح؛ فجزى اللهُ مؤلفه خير الجزاء، وأجزل له المثوبة، وجعله في ميزان حسناته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
ومَنْ تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أ.د/ نظير محمد عياد
مفتي جمهورية مصر العربية
ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم
[1] العين (زكو) (5/ 394).
[2] مقاييس اللغة (زكى): (3/ 17).
تصفح الكتاب