حكم اختيار جنس الجنين بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي

حكم اختيار جنس الجنين بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومَنْ تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعدُ، فقد أنزل الله كتابه الحكيم، بلسان عربي مبين، منتظمًا وجوه الإعجاز المتعددة، والتي يمكن إجمالها في محاورَ رئيسةٍ، هي: الإعجاز البياني، والغيبي، والنفسي، والعلمي.

وقد أفاض العلماء الربانيون في الكشف عن تلك الأوجه ضمن أدلتها، وظهرت فيها المؤلفات النفيسة، والنقول التراثية الحافلة، بالقيمة الإعجازية لسبائك النظم القرآني السامقة.

ومِمَّا لا شكَّ فيه: أنَّ وجه الإعجاز العلمي قد تجلَّى في الآونة الأخيرة، وتعددت آلياته، وسَمَتْ لغته، وعَلَتْ شموس أدلته، وسطعت في سماء الحقيقة أبرز آثاره التي تُشِيد بسمو القرآن، وتقرُّ بإعجازه، وتشهد بإلهيته.

وقد شاع الإعجاز العلمي في ثنايا آيات الذكر الحكيم؛ فتجلَّى بكثرة متضافرة في الجانب الفلكي، ضمن الآيات الكونيَّة، والآفاق العلويَّة، كما تجلَّى بوفرة في الجانب الطبي.

ومن أبرز الإشارات الطبية في القرآن الكريم: ما جاء من النهي عن الإسراف في الطعام والشراب، مصداق قوله: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].

فهذا النهي على وَجازته جمَعَ من علوم الطب أنفَسَها، ومن أنماط الدواء أنفعَها، ومن سُبل الوقاية أنجعَها.

كما قد تطرَّق القرآن لمراحل خلق الإنسان، وتطوُّره من النُّطفة، ثم إلى العَلَقة، ثم إلى المُضْغَة.. وانتهاءً إلى مرحلة تخليقه واستوائه، مصداق قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5].

وقد سَجَّلت الكشوف العلمية، وارتقت دلائلُها؛ لإثبات صدق تلك الآيات، وقدمت براهين إلهيتها.

ومن هذا المنطلق إثبات أن تحديد جنس الجنين يعود بأدراجه إلى الذَّكَر دون الأنثى؛ لأن نوعية الكروموسومات في الذَّكَر هي المسؤولة عن تحديد نوع الجنين؛ لأنها عبارة عن (x)، و(y)، بينما الأنثى في كل الأحوال عبارة عن (XX)، وهذا ما نطق به البيان القرآني مصداق قوله تعالى: {‌فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [القيامة: 39]، فكان مناط الجعل مُنصَبًّا على الضمير في قوله: (منه).

هذا، وقد ترقت العقول البشرية لإمكان التحكم في تحديد نوع الجنين، ذَكَرًا كان أو أنثى.

وهنا اختلف العلماء حول حِلِّ هذا الأمر، ما بين مُبيح ومُحرِّم، فمَنْ حرَّم ذلك حجتُه أن هذا الأمر بيد الله عز وجل، وليس للبشر دخل فيه، وفِعلهم ذلك تطاولٌ وتجاوز.

بينما الفريق الآخر يرى أنه لا حرج فيه؛ لأنه لا منافاة بين اختصاصه سبحانه وتعالى بذلك وبين ترقي العقول واهتدائها إليه؛ لأن العقل البشري لا يبتدع، ولا يسعه الخلق والاختراع، غاية الأمر أنه بمقتضى العقل البشري الذي هو هبة من الخالق جل جلاله قد أمكن البشر ذلك الأمر، بتوفيق من الله عز وجل.

وهذا لا يتعارض مع مقررات القرآن من أن علم ما في الأرحام خاصٌّ بالله جل في عُلاه؛ لأن العلم بذلك أوسع وأعمق من مجرد العلم بتحديد نوع الجنين، بل إن الله تعالى يعلم ما في الأرحام سعادةً، وشقاءً، ورزقًا، وخلقًا، وقدرًا، وطولًا، وقِصَرًا، ورِقَّةً، وغِلظةً... إلخ، من الشؤون المتقابلة، والأحوال المتناقضة، والضروب المتنافية، مما لا يسع البشرَ مجتمعين، ولا الجنَّ والإنسَ متظاهرين العلمُ به، فضلًا عن التحكم فيه، أو محاكاته.

ومن هنا تأتي أهميَّة إلقاء الضوء على المؤلَّفات التي تناولت تلك القضية، ومن بينها: المؤلف الموسوم بـ«حكم اختيار جنس الجنين بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي»، لفضيلة الأستاذ الدكتور/ حسن صلاح الصغير عبد الله، أستاذ الفقه بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة، والأمين العام المساعد لمجمع البحوث الإسلامية للشؤون العلمية والبحوث، والمشرف العام على لجان الفتوى بالأزهر الشريف.

وقد ابتدأ مؤلَّفَه العلميَّ النفيسَ بمقدمة ألقى فيها الضوء على النهضة الكشفية الحديثة، ونظرات العلماء في الصنعة الإلهية، وآثار ذلك على الدراسات الفقهية، والبحوث المتعلقة بالنوازل الحياتية. وقد تضمَّنت المقدمة خطة البحث.

ثم شرع في المبحث الأول، وعنوانه: «المُعطيات العلمية لقضية تنوُّع أجناس الأجنة واختيارها بين القديم والجديد».

وقد انتظمَ مطالبَ، عنَى الأول بالتوصيف العلمي لمسألة تنوُّع أجناس الأجنة.

كما عنَى الثاني بالتدابير العلمية والعملية المتعلقة باختيار جنس الجنين.

وعنَى الثالث بالدوافع الطبية والاجتماعية لاختيار أجناس الأجنة.

ثم عرض المؤلف للمبحث الثاني، وعنوانه: «القضايا الشرعية التي تثيرها عمليات اختيار جنس الجنين، وموقف القانون منها».

وقد عقد ضمن مطلبين، عالج الأول منها: القضايا العقدية التي تثيرها عمليات اختيار جنس الجنين.

كما عالج الثاني: القضايا العملية التي تثيرها عمليات اختيار جنس الجنين.

ثم شرع في المبحث الثالث، وعنوانه: «موقف الفقه الإسلامي والقانون الوضعي من عمليات اختيار جنس الجنين».

وقد انتظم في مطلبين، عنَى الأول ببيان موقف الفقه الإسلامي والقانون الوضعي من اختيار جنس الجنين بالوسائل الطبيعية.

وعنَى الثاني ببيان موقف الفقه الإسلامي والقانون الوضعي من اختيار جنس الجنين بالوسائل التقنية.

وقد انطوت تلك المطالب على فروع مثمرة، ضمن معالجة فقهية نافعة، ذات آثار بالغة مورقة.

وذيَّله بخاتمة انطوت على نتائج سامقة، وتوصيات رائقة.

وجدير بالذكر: أن هذا العمل من النفاسة العلمية بمكان لا يُبارَى، ومن الموقع العملي بمنزل لا يُجارَى.

وقد انتهج فيه المؤلف منهجًا علميًّا رائقًا، ضمن خطوات منهجية مقررة، التزم فيها بالوسطية العلمية، والمنهجية الأكاديمية، مدعِّمًا قوله بالأدلة الشرعية والعلمية.

وقد امتاز باليُسر والسلاسة، والإيجاز المثمر، والأسلوب العلمي الفذِّ، ينُمُّ عن شخصية كاتبه، ويبرز قيمته العلمية ومكانته الفقهية.

فجزى الله صاحبه خير الجزاء، وأجزل له المثوبة، وجعل نفيس أعماله ذُخرًا للإسلام والمسلمين.

هذا وصلى الله تعالى وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومَنْ تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

أ.د/ نظير محمد عياد

مفتي جمهورية مصر العربية

ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم

 

تصفح الكتاب

مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 24 أغسطس 2025 م
الفجر
4 :56
الشروق
6 :27
الظهر
12 : 57
العصر
4:33
المغرب
7 : 27
العشاء
8 :48