الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيدنا ومولانا رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد..
فقد تعدَّدت النصوص الدينيَّة التي تؤكِّد مشروعيَّة الصيام وفرضيَّته، ومنها قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ))[1].
وقد كان فرضُ الصيام في السنة الثانية من الهجرة المباركة، وتوفي صلى الله عليه وآله وسلم وقد صام تسعة رمضانات.
وقد انعقد إجماع المسلمين على فرضية صوم شهر رمضان المبارك[2].
واتفقوا على «أَنَّ الصَّوْمَ مِنْ أَعْظَمِ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَأَوْثَقِ قَوَانِينِ الشَّرْعِ الْمَتِينِ، بِهِ قَهْرُ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، وَأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ، وَمِن الْمَنْعِ عَن الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَنَاكِحِ عَامَّةَ يَوْمِهِ، وَهُوَ أَجْمَلُ الْخِصَالِ»[3].
وقد كتب الله تعالى الصيام فرضًا محتومًا في دينه القويم على المسلمين من قديم الزمان، فليس إيجابه مختصًّا بهذه الأمة، بل هو فريضة دينية قديمة، فالصيام فريضة إلهيَّة أوجبها الله تعالى على عباده، ولذا لم تَخلُ منه شريعة شرعها الله تعالى لعباده، وقيل: إن بدايته كانت مع سيدنا نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال أهل التاريخ: أول من صام رمضان نوحٌ عليه السلام، لمَّا خرج من السفينة. وقال مجاهد: «كتب الله عز وجل صوم شهر رمضان على كل أمة»، ومعلوم أنه كان قبل نوح أمم، والله أعلم[4].
والمُتتبِّع لفرائض الله تعالى على عباده وما تَعبَّدَهم به يقف على العديد من الحِكَم والمنافع والمصالح التي بها قوامُ الحياة وصلاحُ أحوال العباد، ويتحقَّق بها فوزُهم وسعادتُهم في الدنيا والآخرة؛ فالصيام من أقوى العبادات وأعظمها تأثيرًا في النفس، وتعديلًا في السلوك، وتقويمًا في الأخلاق؛ ففي الإمساك عن الطعام والشراب والجِماع تسكينٌ للنفس، وقهرٌ لشهواتها، وكسرٌ لغرورها، وسموٌّ برُوح الإخلاص، والتحلِّي بالفضائل، والتخلِّي عن الرذائل، والتعوُّد على الصبر، والثبات على المَكارِه، واستشعار النفس بدوام الحاجة إلى خالقها سبحانه وتعالى.
والصيام من أفضل التكاليف الشرعية، هذه العبادة التي تُمثل رياضةً للنفس، وتهذيبًا للطبع، وتربيةً للبدن وتزكيةً للعقول وسُموًّا بالأرواح، وذلك من خلال الالتزام بأوامر الله تعالى، واجتناب نواهيه، فلا يَقرُب العبدُ فِعلًا إلا في وقته، ولا يؤدِّي عملًا إلا حسب تعاليمه سبحانه وتعالى، فلا يتناول طعامًا وما في حُكمِه من المُفطِرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فتنجلي بالظمأ والجوع صفحة القلب فيُبصر الهدى، ويمتنع عن الشر[5].
ومن ثَم كان الصوم عبادةً جامعةً للخير، مانعةً للشرِّ فيها يتنافس المتنافسون، ولأجلها يعمل العاملون، حيث يُنظر إليه على أنه من بين الركائز الشرعية التي تؤصِّل لوِحدة الأمة وتعمل على تثبيت دعائمها والبحث عمَّا يُغذي روافدَها ويُقوِّي بنيانها، ويُثبت وجودها؛ إذ لا ريب أنَّ مِن أجلِّ وأعظم المعاني التي يُجدِّد صومُ رمضانَ بَعْثَها في الصدور، وإحياءَها في النفوس، والتماس آثارها في الواقع باطراد وبمتوالية زمنيَّة متجدِّدة معنَى الوحدة التي تجمع المسلمين شرقًا وغربًا شمالًا وجنوبًا.
إن الصوم بهذا التصوُّر وتلك الرؤية ليس عبادةً جسديَّةً يُراد من ورائها حرمانُ النفس أو كفُّ البدن عن مُتَعِهِ ورغباته، كما أنه ليس مجرَّد عبادة رُوحيَّة تصل العبدَ بربِّه فقط أو تجربة شخصية إنسانية تربط بين قلب الإنسان وأخيه الإنسان من خلال إحسان الأغنياء إلى الفقراء أو شعور الأقوياء بحال الضعفاء في أوقاتٍ بعينها وأفرادٍ وأحوالٍ بعينها، فهو يشمل كل هذا وزيادة، من ثَم كان الإحساس بالآخرين مبدأً إسلاميًّا أصيلًا، بل هو مبدأ إنساني عام، فصيام الأغنياء يُشعِرهم بحالِ الفقراء، وصيامُ الأقوياء يُشعِرهم بحال الضعفاء، وصدقةُ الفِطر تُقرِّب البعيد، فتُرضِي الفقير وتُزكِّي نفسَه، فلا حقدَ ولا حسدَ على غيره من إخوانه المسلمين، حتى الفقير الذي وجد لديه ما يكفيه يومًا وليلةً وجبَ عليه إخراجُها لتعويد نفسه على البَذلِ والجودِ والإنفاقِ، وليَشعُر -ولو لمرةٍ- أن تكون يدُه عُليَا، فتَرضَى نفسه من ناحيةٍ، ويَشعر بمن هو أدنَى منه حالًا من ناحيةٍ أخرى؛ إذ الإسلام يطلب من كل أبنائه أن يكونوا مصدرَ عطاءٍ وبابَ خيرٍ ونافذةَ جودٍ لتكون يدُهم هي العُليا، ولا يَخفَى ما في ذلك من توحيد الصف، وتقريب البعيد، وبَذر المودَّة، وغرس الرحمة، ونشر المعاني النبيلة، والقِيَم الفاضلة التي تُشكِّل منظومةً قيمية أخلاقية أشبه بسياج يحمي الأمةَ المسلمة من كل خطر يتهدَّدُها.
ونظرًا لهذه المكانة لعبادة الصيام فقد أولاها العلماء قديمًا وحديثًا موفورَ العناية وأفردوا لها المؤلفات التي تُعرِّف بها وبفضلها وأحكامها وتفاصيلها، فتراثنا الإسلامي زاخرٌ بكنوزه السامقة، حافلٌ بجهودِ أعلامِه الفائقة، ناطقٌ بسُموِّ أفكارهم، مُسجِّل بالغ علومهم، مُقِرٌّ بثاقب بصرهم، مشيدٌ بجليلِ أعمالهم.
وجاءت هذه المؤلفات متعدِّدة الجوانب، متنوِّعة القضايا والموضوعات، اشتملت على بيان الأحكام الفقهية المتعلقة بالصوم، وذلك ببيان ما ينبغي الالتزام به للصائم، وما يُندَب التحلِّي به من الآداب، وما يجب التخلي عنه من القبائح والآثام، وما يُباح فِعله، وما يُكره صدوره منه، وما يَحرُم عليه، وهذا النوع من التأليف هو الغالب عند تناول أحكام الصيام.
وهناك من ألَّف فيه مجرَّدًا عن الأدلة والتعليل؛ تسهيلًا وتيسيرًا للمتلقي، وآخرون عرضوا الأحكام مؤيَّدة ومؤكَّدة بالأدلة من الكتاب والسُّنة والإجماع والقياس.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل هناك من المُحدِّثين مَنِ اعتنَى برواية الأحاديث الواردة في باب الصوم، واستنباط الأحكام الفقهية، ومنهم مَن اتجهت هِمَّته إلى جمع الأحاديث المتعلقة به وترتيبها وتبويبها، ومنهم مَن اتَّجه لبحث حِكمته، والكشف عن أسراره، والعمل على إظهار مقاصده[6].
وحديثًا، عكفت بعض الدراسات على الكشف عن فوائده الصحية، ومنافعه الطبية التي تعود بالمنافع على الإنسان روحًا وجسدًا، من الأثر المترتب على هذه العبادة، ومعرفة مقصودها وأحكامها، وذلك انطلاقًا مما رُوي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((صُومُوا تَصِحُّوا))[7].
والكتاب الذي بين أيدينا مع صِغَر حجمه عظيم القدر كثير النفع؛ حيث بدأ الكتاب ببيان الخصائص والفضائل التي اختصَّ بها الله عز وجل شهرَ رمضان المبارك؛ ثم بيان فضيلة الصوم، وتعريفُ الصوم، والحكمة من مشروعيته، وبيان أحكامه، وشروط وجوب الصيام، وشروط صحته.
ثم تناول الكتاب الحديث عن أركان الصوم، ومُستحبَّاته، وبيان مبطلاته، ومكروهاته، والأعذار المُبيحة للفِطر وحُكم من أفطر لعُذر منها، مع بيان حكم الإفطار لغير عُذر من تلك الأعذار، والكفارة الواجبة على ذلك وأنواعها، وبيان ما يُباح للصائم فعله.
ثم انتقل الحديثُ إلى بيان مراتب الناس في الصوم، وتفصيل القول فيما يتعلق بهذا الشهر الكريم من طاعاتٍ؛ كمُدارسة القرآن وتلاوته وختمه، وقيام ليل رمضان بصلاة التراويح والتهجد، وجزاء إفطار الصائم، وأفضلية الصدقة في هذا الشهر، والاعتكاف، والحرص على إحياء ليلة القَدْر، والإكثار من فعل النوافل.
ثم استعرض الكتاب أهم الفتاوى الواردة في الصيام؛ كمشروعية التهنئة بقدوم شهر رمضان، وطرق إثبات دخول شهر رمضان، وحكم الأكل والشرب ناسيًا، وغير ذلك من المسائل الحديثة المتعلقة بالصيام، وبيان مُعتمَد الفتوى في دار الإفتاء المصرية في تلك المسائل.
وختم الكتاب ببيان أحكام صدقة الفطر، وأحكام عيد الفطر، والسنن المستحبة في العيد، وصيام الستة من شوال.
ولأهمية الكتاب والحاجة إلى مِثله في التذكير بهذه العبادة وأحكامها؛ قامت دار الإفتاء المصرية بإعادة طبع هذا الكتاب خدمةً للإسلام والمسلمين؛ خصوصًا وأنه عرض لفريضة الصوم عرضًا مفصلًا أتى فيه ومن خلاله على ما يتعلق بالصوم أحكامًا وآدابًا، ومقاصد وحِكَمًا، وفضائل وثمرات، بعبارة واضحة، وأسلوبٍ سهلِ المأخذِ قريبِ المنالِ.
فاللهَ أسأل أن يبارك في هذا العمل، ومَن قام على إخراجه ونشره، وجعل ذلك في ميزان حسناتهم، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى آله وصحبه ومن سار على دَربه إلى يوم الدين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أ. د/ نظير محمد عياد
مفتي الديار المصرية
[1] متفق عليه: صحيح البخاري، كتاب: الإيمان، باب: قَوْلِ النَّبِيِّ H: ((بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ))، (1/11) رقم 8، صحيح مسلم، كتاب: الإيمان، باب: أركان الإسلام ودعائمه العظام، (1/45) رقم 16.
[2] ينظر: الاختيار لتعليل المختار، لعبد الله بن محمود بن مودود الموصلي البلدجي، (1/ 125)، مطبعة الحلبي- القاهرة، 1356هـ- 1937م.
[3] ينظر: رد المحتار على الدر المختار، لابن عابدين، (2/ 370)، دار الفكر- بيروت، ط: الثانية، 1412هـ- 1992م.
[4] ينظر: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، (2/290)، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية- القاهرة، ط: الثانية، 1384هـ- 1964م.
[5] ينظر: حكمة التشريع وفلسفته، للشيخ/ علي أحمد الجرجاوي، ص55، 56، تنقيح ومراجعة: خالد العطار، دار الفكر- ط2، 1424هـ- 2003م.
[6] ينظر: فوائد الصوم، للإمام العز بن عبد السلام، حقَّقه وخرَّج أحاديثه: عبد الله نذير، ص5، 6، توزيع دار ابن حزم، بيروت، لبنان، ط: الأولى، 1412هـ-1992م.
[7] المعجم الأوسط للطبراني، (8/174) رقم: 8312.
تصفح الكتاب
العربية
English
French
Deutsch
Urdu
Pashto
Swahili
Hausa
