كتاب الحج والعمرة

كتاب الحج والعمرة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي شرع لعباده من العبادات أعظمها، وفرض عليهم من الطاعات أجلَّها، وجعل الحج إلى بيته العتيق مظهرًا للتوحيد الخالص، وساحةً للرجوع إليه بقلب سليم، نحمده سبحانه على نعمة الإسلام، ونشكره على مننه الجسام، ونصلي ونسلم على خير من طاف وسعى ولبَّى ووقف بعرفات، محمدٍ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلى يوم الدين،

وبعد:

فالحج في شريعة الإسلام ليس مجرد عبادة من العبادات فحسب، ولا هو طقس ديني يتكرر كل عام فقط، بل هو أحد أركان الإسلام الكبرى، ومظهر من أعظم مظاهر التوحيد والخضوع لله تعالى، جعله الله فريضة على المستطيع، فقال في محكم التنزيل: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 97].

فالحج عبادة جليلة، تجمع بين البدن والمال والروح، وتختبر صدق الإيمان، وتُظهر وحدة المسلمين في أجلى صورها، حيث تلتقي القلوب والأبدان على طاعة الله، وتجتمع الألسنة المختلفة على ذكره والثناء عليه، ويهتف الجمع بنداء واحد يعلو كل نداء: "لبيك اللهم لبيك"، ففي الحج يتجرد المسلم من زينة الدنيا، ويخلع عن نفسه ثوب التفاخر والتمييز، ويلبس الإحرام رمزًا للمساواة والتواضع، يقف الجميع على صعيد واحد، لا فرق بين غني وفقير، ولا بين حاكم ومحكوم، الكل عبيد لله، يقفون في موقفٍ يذكِّر بالعرض الأكبر بين يدي رب العالمين، حيث لا يُنظر إلى المظاهر، بل إلى القلوب وما تكنُّه من صدق وإخلاص، فالإحرام ليس لباسًا فحسب، بل هو إعلان بالنية الصافية، ومظهر من مظاهر الانقياد لله في الظاهر والباطن، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم فضل هذه الفريضة وعظيم أجرها، فقال: «العُمرةُ إلى العُمرةِ كفَّارةُ ما بَيْنَهما والحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلَّا الجنَّةُ».

فالحج المبرور الذي لا يخالطه رياء ولا معصية -يُعدُّ من أعظم القربات، وأرجى الأعمال عند الله تعالى، وهو ثمرة تعبٍ وصبرٍ ومجاهدة، يُكافأ به المسلم بقبولٍ من الله، وغفرانٍ يعمُّ ماضيه، ويُشرق مستقبله بنور الطاعة والتقوى، فالحج في جوهره تجديد للعهد مع الله، ومراجعة شاملة للنفس، وفرصة للتخلص من الذنوب إن أخلص لله عز وجل نيته وعمله وطاعته، يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّه ».

هذه العودة إلى الصفاء ليست مجرد نتيجة تلقائية، بل ثمرة لمجاهدة النفس، وضبط الجوارح، وتعظيم الشعائر، كما قال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]، ومن أبرز معاني تعظيم الشعائر أن يؤدي الحاج المناسك بخشوع، وأن يستشعر في كل موطن أنه في حضرة الله العلي القدير، وأن كل خطوة يخطوها إنما هي سعي نحو الرضا والمغفرة، فالوقوف بعرفة، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمرات -ليست حركات مجردة، بل هي مواقف تعليمية، يتعلم منها المسلم معاني الانضباط، والصبر واليقين، والاتكال على الله، فالحج يعلِّمنا كيف نُذيب الأنانية في جماعة المسلمين، وكيف نسمو بالإيمان من المعرفة النظرية إلى التطبيق العملي، وهو مدرسة يتربى فيها القلب على الطهر، والعقل على الاتزان، والوجدان على التعلُّق بالله دون سواه، ومن خلال التدرُّج في أداء المناسك، ينمو في الحاج شعور عميق بالانتماء إلى أمة الإسلام، ويزداد إدراكه لمعاني الإخاء والتجرد، والمسؤولية الجماعية، فهو في جوهره دعوة للاستقامة بعد العودة، وللبقاء على صلة بالله بعد الانتهاء من المناسك، كما قال الإمام النووي: "يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ بَعْدَ رُجُوعِهِ خَيْرًا مِمَّا كَانَ، فَهَذا مِنْ عَلَامَاتِ قبولِ الْحَج، وأنْ يَكُونَ خَيْرُهُ آخِذًا في ازْديادِ"، فهو بداية لا نهاية، وانطلاقة لا وقفة، وموعد يتجدد فيه الإيمان، وتتجدد فيه العلاقة بالله تعالى على أساس الخضوع والمحبَّة والتقوى، فمن وفقه الله لأداء هذه الشعيرة، ثم داوم على صدق الالتزام بعدها، فقد أصاب البر، ونال الخير في دنياه وآخرته، وكان ممن شملهم قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ [البينة: 7]، وقد أدركت دار الإفتاء المصرية عِظم هذا الموسم المبارك، وأهمية توعية الحجيج وتيسير مناسكهم بالعلم والفتوى الرشيدة، فأنشأت في هذا الصدد كتاب "الحج والعمرة"؛ ليكون زادًا علميًّا وروحيًّا يهتدي به المسلم في رحلته المقدسة، جامعًا بين الفقه الميسر والدليل الصحيح، بأسلوب يجمع بين العمق والوضوح، وبين الأصول والمقاصد، ولم تكتفِ دار الإفتاء بهذا الجهد التأليفي، بل كانت حاضرة عبر منصاتها الرقمية التي تواكب الحجيج، فتجيب عن أسئلتهم، وتصحح مفاهيمهم، بما يحقق مقصود الشرع في تلك الشعيرة العظيمة، ليكون حضورها في هذا الميدان امتدادًا لرسالتها الكبرى في خدمة الدين والناس، وتجليًّا واضحًا لحكمة الإفتاء حين يكون منبرًا للهداية، وجسرًا بين الناس وأحكام ربهم.

نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى، أن يرزقنا حجًّا مبرورًا، وسعيًا مشكورًا، وذنبًا مغفورًا، وألا يجعل بيننا وبين بيته حائلًا، ولا بيننا وبينه حجابًا، وأن يكتب لنا عودًا إليه في كل عام، ويختم لنا بالطاعة والمغفرة والرضوان، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

تصفح الكتاب

مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 01 يونيو 2025 م
الفجر
4 :10
الشروق
5 :54
الظهر
12 : 53
العصر
4:29
المغرب
7 : 52
العشاء
9 :24