ما حكم مقولة: "العمل عبادة"؟ فنحن مجموعة من الأصدقاء حديثي التخرج في الجامعة، وكنا في رحلة للترفيه عن أنفسنا بمناسبة انتهاء الدراسة الجامعية، فَقَابَلَنَا رجل كبير في طريقنا للرحلة، وتحدث معنا ونصحنا بالبحث عن العمل من الآن، وعدم الاعتماد على الأهل في الإنفاق علينا، وقال لنا جملة لا ندري هل هي صحيحة شرعًا أم لا، وهي: «العمل عبادة».
ما يتردّد على ألسنة بعض الناس من قولهم: "العمل عبادة" هو مجرد قول وليس حديثًا واردًا في السنة النبوية، ويُقصَد بذلك تحفيز الشباب على العمل، وتشجيعهم على الاجتهاد والتطوير في مجالاتهم؛ ولذلك فإنَّ معناها صحيح؛ وقول هذه العبارة جائز شرعًا ولا حرج فيه؛ لأن الأصل في الشخص المسلم أن يكون في عبادة الله تعالى في كل أحواله، سواء كان في عمله أو خارج عمله.
المحتويات
من المقرر شرعًا أنه يجب على كلِّ إنسانٍ مكلف أن يخلص العبادة لخالقه سبحانه؛ فقد قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: 5].
قال الإمام الرازي في "مفاتيح الغيب" (32/ 243، ط. دار إحياء التراث العربي): [العبادة هي التذلل، ومنه طريق مُعَبَّدٌ أي مذلل.. واعلم أن العبادة بهذا المعنى لا يستحقها إلا من يكون واحدًا في ذاته وصفاته الذاتية والفعلية] اهـ.
وقال الإمام الطبري في "جامع البيان" (24/ 541، ط. مؤسسة الرسالة): [مفردين له الطاعة، لا يخلطون طاعتهم ربهم بشرك] اهـ.
فالعبادة في الإسلام تشمل كلَّ ما يصدر عن المكلف من قول أو عمل أو اعتقاد، وذلك على حسب ما يحبه الله ويرضاه؛ يقول تعالى -في شأن المؤمنين-: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5].
يقول الشيخ ابن القيم في "مدارج السالكين" (1/ 120-121، ط. دار الكتاب العربي): [وبُنَى ﴿إِيَّاكَ نَعۡبُدُ﴾ على أربع قواعد: التحقق بما يحبه الله ورسوله ويرضاه، من قول اللسان والقلب، وعمل القلب والجوارح.
فالعبودية: اسم جامع لهذه المراتب الأربع، فأصحاب ﴿إِيَّاكَ نَعۡبُدُ﴾ حقًّا هم أصحابها.
- فقول القلب: هو اعتقاد ما أخبر الله سبحانه به عن نفسه، وعن أسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته ولقائه على لسان رسله.
- وقول اللسان: الإخبار عنه بذلك، والدعوة إليه، والذب عنه، وتبيين بطلان البدع المخالفة له، والقيام بذكره، وتبليغ أوامره.
- وعمل القلب: كالمحبة له، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والخوف منه والرجاء له، وإخلاص الدِّين له، والصبر على أوامره، وعن نواهيه، وعلى أقداره، والرضا به وعنه، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، والذل له والخضوع، والإخبات إليه، والطمأنينة به، وغير ذلك من أعمال القلوب التي فَرْضُها أفرض من أعمال الجوارح، ومستحبها أحب إلى الله من مستحبها، وعمل الجوارح بدونها إما عديم المنفعة أو قليل المنفعة.
- وأعمال الجوارح: كالصلاة والجهاد، ونقل الأقدام إلى الجمعة والجماعات، ومساعدة العاجز، والإحسان إلى الخلق ونحو ذلك.. والله تعالى جعل العبودية وَصْفَ أَكْمَلِ خلقه، وأقربهم إليه] اهـ.
وإذا أمعنَّا النظر في نصوص الشرع الشريف لوجدنا أن الإسلام قد جعل العمل والسعي في طلب الرزق وتعمير الكون من العبادات التي يثاب عليها الإنسان، فالشرع الشريف يحث الإنسان على العمل والاجتهاد في كسب الرزق الحلال الطيب؛ يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك: 15].
قال العلامة النسفي في "مدارك التنزيل وحقائق التأويل" (3/ 514، ط. دار الكلم الطيب): [﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا﴾ لينة سهلة مذللة لا تمنع المشي فيها، ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾ جوانبها استدلالًا واسترزاقًا، أو جبالها، أو طرقها، ﴿وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ أي: من رزق الله فيها، ﴿وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ أي: وإليه نشوركم، فهو سائلكم عن شكر ما أنعم به عليكم] اهـ.
بَيَّنَت السُّنَّة النبوية أن الشخص الذي يعمل ويجتهد في تحصيل الكسب الحلال خير من الذي يعيش عالة على غيره، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، فَاليَدُ العُلْيَا: هِيَ المُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى: هِيَ السَّائِلَةُ» أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، واللفظ للبخاري.
قال الإمام ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (3/ 297، ط. دار المعرفة): [فهذه الأحاديث متضافرة على أن اليد العليا هي المنفقة المعطية، وأن السفلى هي السائلة، وهذا هو المعتمد وهو قول الجمهور] اهـ.
العمل وسيلة لتحقيق الاستقرار والتقدم والبناء، فالمجتمعات العاملة هي المتقدمة ولها السبق بين المجتمعات الأخرى؛ لأن العمل يحقق للفرد والمجتمع الاكتفاء الذاتي، وعدم الحاجة أو سؤال الناس؛ فعن الزبير بن العوام رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ». أخرجه البخاري.
قال العلامة شمس الدين الكرماني في "الكواكب الدراري" (8/ 16، ط. دار إحياء التراث العربي): [«فَيَكُفَّ»؛ أي: فيمنع الله بها وجهه من أن يريق ماءه بالسؤال من الناس، أي إن لم يجد إلا الاحتطاب من الحِرَف فهو مع ما فيه من امتهان المرء نفسه ومن المشقة خير له من المسألة] اهـ.
شأن المسلم أن يكون في عبادة الله تعالى في جميع شؤونه وأحواله؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].
قال الإمام الثعالبي في "الجواهر الحسان في تفسير القرآن" (5/ 306، ط. دار إحياء التراث العربي): [المعنى: ما خلقت الجن والإنس إلَّا لآمرهم بعبادتي، وليقرُّوا لي بالعبودِيَّةِ] اهـ.
وقال الإمام ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" (7/ 425، ط. دار طيبة): [ومعنى الآية: أنه تعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ورازقهم] اهـ.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِلَّا تَفْعَلْ مَلَأْتُ يَدَيْكَ شُغْلًا وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ» أخرجه الترمذي في "جامعه".
قال الإمام المُظْهِري الحنفي في "المفاتيح في شرح المصابيح" (5/ 281، ط. دار النوادر): [قوله: "«وَإِلَّا تَفْعَلْ»، يعني: وإن لا تفعل ما أمرتك من الإعراض عن الدنيا، والاشتغال بطاعتي «مَلَأْتُ يَدَيْكَ شُغْلًا»، أي: كثَّرتُ شغلك الدنيويَّ، فتُتعب نفسك بالشغل وكثرة التردُّد في طلب المال والغنى، ولا يحصل لك الغنى، فتُجعل محرومًا من ثوابي، ولا يحصل لك من الرزق إلا ما قدَّرت لك] اهـ.
النية الصالحة والإتقان في العمل من أهم العوامل التي تجعل العمل يصير عبادة، فالمؤمن الذي يعمل في أي مجال أو مهنة مشروعة وجائزة، إذا نوى بذلك تحقيق مرضاة الله وخدمة الناس، فإن عمله يصبح عبادة يثاب عليها في الدنيا والآخرة.
قال الإمام الشاطبي في "الموافقات" (2/ 537، ط. دار ابن عفان): [النية شرط في كون العمل عبادة، والنية المرادة هنا نية الامتثال لأمر الله ونهيه، وإذا كان هذا جاريًا في كل فعل وترك، ثبت أن في الأعمال المكلف بها طلبًا تعبديًّا على الجملة] اهـ.
وقد تضافرت نصوص الشرع الشريف على اعتبار العمل الحلال عبادة يتقرب بها الإنسان إلى الله تعالى، منها:
- ما روي عن أبي الْمُخَارِقِ رضي الله عنه، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك فَطَلَعَتْ ناقة له فأقام عليها سبعًا، فمر عليه أعرابي شاب شديد قوي يرعى غُنَيْمَةً له، فقالوا: لو كان شباب هذا وشدته وقوته في سبيل الله عز وجل! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ كَبِيرَيْنِ لَهُ لِيُغْنِيَهُمَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى صِبْيَانٍ لَهُ صِغَارٍ لِيُغْنِيَهُمْ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ لِيُغْنِيَهَا وَيُكَافِي النَّاسَ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى رِيَاءً وَسُمْعَةً فَهُوَ لِلشَّيْطَانِ» أخرجه ابن أبي الدنيا في "النفقة على العيال".
- وكذا ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ» أخرجه البخاري ومسلم.
قال الإمام ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (5/ 4): [ومقتضاه أنَّ أجر ذلك يستمر ما دام الغرس أو الزرع مأكولًا منه ولو مات زارعه أو غارسه، ولو انتقل ملكه إلى غيره، وظاهر الحديث أنَّ الأجر يحصل لمتعاطي الزرع أو الغرس، ولو كان ملكه لغيره] اهـ.
هذا، وممَّا يلزم التنويه عنه أنَّ هذه المقولة -"العمل عبادة"- ليست حديثًا واردًا في كتب السنة النبوية، بل قد شاعت على الألسنة، وقد ضمَّنها بعض الفقهاء في النصوص الفقهية؛ حيث قال العلامة الزيلعي في "تبيين الحقائق" (4/ 226، ط. الأميرية): [وبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل كبراؤهم كانوا عمالًا؛ لأن العمل عبادة وله الأجر على ذلك] اهـ.
بناء على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنَّ ما يتردّد على ألسنة بعض الناس نحو عبارة "العمل عبادة" -وهي مقولة وليست حديثًا واردًا في السنة النبوية؛ حيث يقصدون بذلك تحفيز أبنائهم الشباب على العمل، وتشجيعهم على الاجتهاد والتطوير في مجالاتهم- أمر جائز شرعًا ولا حرج فيه؛ لأن الأصل في الشخص المسلم أن يكون في عبادة الله تعالى في كل أحواله، سواء كان في عمله أو خارج عمله.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
جمعية خيرية تخضع لأحكام قانون ممارسة العمل الأهلي رقم (149) لسنة 2019م ولائحته التنفيذية، وتمارس الجمعية العديد من الأنشطة، وتسأل عن الحكم الشرعي في الآتي:
- جمع الزكاة والصدقات للصرف منها على علاج الفقراء والمساكين، والقوافل الطبية، وإنشاء العيادات، وتوفير الأجهزة الطبية اللازمة، وتوفير مواد الإغاثة اللازمة في حال الأزمات والكوارث.
- جمع الزكاة والصدقات والصرف منها على المساعدات الخارجية، وبالأخص إغاثة غزة والسودان.
- جمع زكاة الفطر وصكوك الأضاحي وصرفها على الفقراء والمساكين وذوي الحاجة.
سائل يسأل عن حكم الاستماع إلى الأغاني والموسيقى، وهل هو مباح مطلقًا؟
ما حكم الاستيلاء على الأموال في بلاد غير المسلمين؟ فقد التقيت أثناء إقامتي بالولايات المتحدة الأمريكية بسيدةٍ مسلمةٍ فاضلةٍ، أثق في دينها وأمانتها، وأخبرتني أنها تعتقد بأن العدوَّ الإسرائيلي يحاربنا عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا مستعينًا في حربه بالقوى العظمى وفي مقدمتها أمريكا؛ ولذلك يجب مقاومته بالأسلحة ذاتها، وأنها وجدت ثغرةً في النظام الأمريكي يمكنها ضرب اقتصادهم من خلالها، وهي نظام بطاقات الائتمان.
وقد شرعَت فعلًا في الحصول على عدد كبير من هذه البطاقات، ثم استنفدَت قيمتها بالسحب النقدي وبالشراء، ولم تقم بالسداد، ثم بدلَت عنوانها حتى لا يصلوا إليها، وقد ذكرَت لي أنها تعتقد بأن هذه الأموال التي حصلت عليها إنما تُعَدُّ من قبيل الغنائم، حيث إننا في حرب مع العدو ومن يسانده، ومن بين ميادين هذه الحرب المال والاقتصاد.
ويطلب السائل بيان الحكم الشرعي في هذا التصرف وعن التكييف الفقهي له.
ما حكم رد الهدية؟ وهل رد الهدية ينافي الهدي النبوي مطلقًا؟ وهل هناك حالات يجوز فيها عدم القبول؟
ما حكم مضغ الطعام بصوت مسموع؟ فألاحظ في كثير من الأحيان أن بعض المسلمين العرب يُخرِجون صوتًا عند مضغ الطعام، وكذلك يتحدثون وأفواههم مليئة بالطعام. أريد إجابة مفصلة من فضلك في هذا الموضوع. بارك الله فيكم.
يقول السائل: بعض الناس المنتسبين للمذاهب الفقهية لا يقبلون اختلاف المذاهب الأخرى، ومنهم من ينكر العمل بها؛ فما حكم ذلك؟