رجلٌ أكرمه اللهُ بالحج، وبات بالمزدلفة، لكنه لم يقف بها عند المشعر الحرام بعد الفجر؟ ويسأل عن حكم الوقوف بالمزدلفة وهل يجب عليه شيءٌ بتركه هذا الوقوف؟
الوقوف عند المشعر الحرام بالمزدلفة ما بين طلوع الفجر إلى قبيل شروق شمس يوم النحر منسكٌ من مناسك الحج بإجماع الفقهاء، ويُستحب الإتيان به؛ خروجًا من الخلاف، ولا يلزم الحاج دمٌ بتركه؛ كما هو المشهور عند المالكية، وهو أيضًا مذهب الشافعية والحنابلة، وحتى على القول بأنه نسكٌ واجبٌ فلا يلزم الحاج بتركه دمٌ إذا كان لعذر مِن ضعفٍ أو مرضٍ أو حيضٍ أو خوفِ زحامٍ أو لتعجيلِ السيرِ إلى منًى أو نحو ذلك؛ كما هو مذهب الحنفية.
وعلى ذلك: لا شيء على مَنْ ترك الوقوف بالمزدلفة عند المشعر الحرام بعد الفجر بعد أن بات بها.
المحتويات
مِن المقرر أنَّ أحكام الشرع الشريف مبنيةٌ على التيسير والتخفيف؛ حيث يقول تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، ونفوس المؤمنين تَتُوقُ إلى أداء فريضة الحج، إلا أنَّ المولى تبارك وتعالى قد جعل ذلك منوطًا بالاستطاعة؛ فقال سبحانه: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: 97].
قال الإمام البغوي في "معالم التنزيل" (2/ 72-73، ط. دار طيبة): [الاستطاعة نوعان: أحدهما: أن يكون مستطيعًا بنفسه، والآخر: أن يكون مستطيعًا بغيره. أما الاستطاعة بنفسه: أن يكون قادرًا بنفسه على الذهاب، وَوَجَدَ الزاد والراحلة.. أما الاستطاعة بالغير هو: أن يكون الرجل عاجزًا بنفسه؛ بأن كان زَمِنًا أو به مرضٌ غيرُ مَرْجُوِّ الزوال.. لأنَّ وجوب الحج يتعلق بالاستطاعة] اهـ.
ومِن مناسك الحج التي أجمع الفقهاء على مشروعيتها: الوقوف بالمزدلفة عند المشعر الحرام كما عبَّر عنه الحقُّ سبحانه في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ [البقرة: 198].
قال الإمام أبو المظفر ابن هبيرة [ت: 560هـ] في "اختلاف الأئمة العلماء" (1/ 294، ط. دار الكتب العلمية): [وأجمعوا على أن الوقوف بالمشعر الحرام مشروعٌ] اهـ.
الفرق بين المبيت بالمزدلفة والوقوف بها: أن المبيت يبدأ من غروب شمس يوم عرفة؛ حيث يتوجه الحجاج إلى المزدلفة، ويجمعون بين صلاتي المغرب والعشاء، ثم يبيتون بها، فإذا طلع فجر يوم النحر وقفوا عند المشعر الحرام وَدَعَوُا اللهَ تعالى، وهذا هو الوقوف المأمور به في الآية السابقة.
وقته: ما بين طلوع فجر يوم النحر إلى قبيل طلوع الشمس؛ كما نصَّ عليه جماهير الفقهاء.
قال فخر الدين الزيلعي الحنفي في "تبيين الحقائق" (2/ 29، ط. الأميرية): [وقت الوقوف فيها: مِن حين طلوع الفجر إلى أن يُسْفِرَ جِدًّا، فإذا طلعت الشمس خرج وقتُه، ولو وقف فيها في هذا الوقت أو مَرَّ بها: جاز؛ كما في الوقوف بعرفة، وقبله أو بعده: لا يجوز] اهـ.
وقال العلامة الخرشي المالكي في "شرحه لمختصر خليل" (2/ 333، ط. دار الفكر): [(ص) وارتحالُه بعد الصبح مُغَلِّسًا (ش) أي: ونُدِبَ ارتحاله من مزدلفة بعد صلاة الصبح أول وقتها؛ فالمراد بالصبح: صلاته، وَمُغَلِّسًا: حالٌ منه، وليس مفعول ارتحاله. (ص) ووقوفه بالمشعر الحرام يُكَبِّرُ ويدعو للإسفار، واستقباله به (ش) أي: يرتحل قبل الوضوء ليأتي المشعر الحرام؛ وهو في المزدلفة، فيستمر واقفًا به مستقبلًا بالدعاء وبالتهليل وبالتحميد وبالصلاة على النبي عليه السلام بالتذلُّل والخضوع مثل ما فعل في عرفة إلى الإسفار الأعلى] اهـ. و"الإسفار الأعلى": هو الذي تتراءى فيه الوجوه في محلٍّ لا سقف فيه ولا غطاء، ويراعى في ذلك البصرُ المتوسطُ أو الوقتُ الذي يُمَيِّزُ فيه الشخصُ جَلِيسَهُ؛ كما في "شرح مختصر خليل" للعلامة الخرشي (1/ 213)، و"الفواكه الدواني" للعلامة النفراوي (1/ 201، ط. دار الفكر).
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (7/ 213، ط. دار الفكر): [(وقوله: للوقوف بمزدلفة) يعني: الوقوف على المشعر الحرام؛ وهو قزح، وذلك الوقوف يكون بعد صلاة الصبح يوم النحر.. وهكذا قال جماهير الأصحاب] اهـ. و"قزح": جبل بالمزدلفة.
وقال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "شرح عمدة الفقه" (3/ 516، ط. مكتبة العبيكان): [السُّنة في حق الحاج جميعًا: أن يبيتوا بمزدلفة إلى طلوع الفجر، ثم يقفوا بها إلى قبيل طلوع الشمس] اهـ.
اختلف الفقهاء في حكم وقوف الحاج بالمزدلفة:
فعند الحنفية: الوقوف بالمزدلفة واجبٌ، ويلزم بتركه دمٌ إذا كان تركه لغير عذر، أما إذا تركه لعذرٍ؛ مِن ضعفٍ، أو مرضٍ، أو حيضٍ، أو نحوِ ذلك؛ كالزحام، أو لتعجيلِ السيرِ إلى منًى: فإن الوقوف بالمزدلفة يسقط عنه ولا يجب عليه حينئذٍ دم؛ لحديث عروة بن مُضَرِّس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ، وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا؛ فَقَدْ أَتَمَّ حَجَّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ» أخرجه الإمام الترمذي في "السنن"، وقال: "حديث حسن صحيح".
قال علاء الدين الكاساني في "بدائع الصنائع" (2/ 135-136، ط. دار الكتب العلمية) بعد أن ساق حديث عروة رضي الله عنه: [فقد علَّق تمام الحج بهذا الوقوف، والواجب هو الذي يتعلق التمام بوجوده.. إلا أنه قد يسقط وجوبه لعذر مِن ضعفٍ أو مرضٍ أو حيضٍ أو نحوِ ذلك، حتى لو تعجَّل ولم يقف: لا شيء عليه] اهـ.
وقال بدر الدين العيني في "البناية" (4/ 235، ط. دار الكتب العلمية): [(ثم هذا الوقوف) ش: أي الوقوف بالمزدلفة م: (واجبٌ عندنا، وليس بركن، حتى لو تركه بغير عذرٍ يلزمه الدم) ش: وإن تركه بعذرٍ؛ لِازدحامٍ، أو تعجيلِ السيرِ إلى منًى: فلا شيء عليه؛ قاله في "المحيط"] اهـ.
وقال العلامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار" (2/ 511، ط. دار الفكر): [(قوله: ثم وقف) هذا الوقوف واجبٌ عندنا] اهـ.
وهذا الوقوف يتأدّى عندهم بأن يكون الحاج موجودًا بالمزدلفة في الوقت المحدد له؛ كما سبق بيانه، سواء كان بفعل نفسه، أو بفعل غيره؛ بأن كان محمولًا وهو نائمٌ أو مغمًى عليه، أو كان على دابةٍ ونحوها، وسواء عَلِمَ بها أو لم يَعلم، وسواء وقف بها أو مَرَّ مرورًا؛ لحصوله كائنًا بمزدلفة، وسواء بَاتَ بها أو لَم يَبِتْ، فمَن لم يقف بها في هذا الوقت فقد فاته الوقوف حتى ولو كان موجودًا بها قبل الفجر.
قال علاء الدين الكاساني في "بدائع الصنائع" (2/ 136): [وأما ركنه: فكينونته بمزدلفة، سواء كان بفعل نفسه، أو بفعل غيره بأن كان محمولًا وهو نائمٌ أو مغمًى عليه، أو كان على دابة؛ لحصوله كائنًا بها، وسواء علم بها أو لم يعلم؛ لما قلنا، ولأن الفائت ليس إلا النية، وإنها ليست بشرط كما في الوقوف بعرفة، وسواء وقف أو مَرَّ مارًّا؛ لحصوله كائنًا بمزدلفة وإن قَلَّ] اهـ.
وعند المالكية: اختلفوا في حكمه؛ فالمشهور عندهم: أنه يستحب الوقوف بالمزدلفة، فإن تركه فلا شيء عليه، وقيل: فرضٌ؛ وهو قول ابن الماجشون، والمعتمد: أن الوقوف سُنة، وعلى القول بالسنية: يلزم تاركه دم.
قال الإمام ابن رشد في "المقدمات الممهدات" (1/ 402، ط. دار الغرب الإسلامي): [وذهب ابن الماجشون إلى أن الوقوف بالمشعر الحرام فريضةٌ؛ لقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾، والدليل على أنه غير واجب: تقديم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضَعَفَةَ النساء والصبيان من المزدلفة إلى منى، ولم يفعل ذلك صلى الله عليه وآله وسلم بعرفة، مع أن الحاجة إلى ذلك بعرفة أشق] اهـ.
قال شمس الدين الحطاب في "مواهب الجليل" (3/ 8، ط. دار الفكر) معلقًا: [وقال في "التوضيح": وحكى اللخمي عنه -أي: ابن الماجشون-: أنه لو ترك الوقوف بالمشعر الحرام لا شيء عليه، ولعل له قولين انتهى] اهـ.
وقال العلامة النفراوي في "الفواكه الدواني" (1/ 362): [(يقف معه بالمشعر الحرام): مستقبلًا مكبرًا على جهة الاستحباب إلى الإسفار] اهـ.
وقال العلامة أبو الحسن المنوفي في "كفاية الطالب الرباني" (1/ 541، ط. دار الفكر، مع "حاشية الشيخ العدوي"): [يستحب له على المشهور أن (يقف معه بالمشعر الحرام) ويجعل وجهه أمام البيت، والمشعر جبل بالمزدلفة سمي بذلك لأن الجاهلية كانت تشعر هداياها فيه] اهـ.
قال الشيخ العدوي مُحَشِّيًا عليه: [(قوله: يستحب له على المشهور) ومقابله قولان؛ قيل: سنة، وقيل: فرض. قال تت: فعلى المشهور: لا شيء على تاركه، وعلى أنه فرض: يفسد حجه، وعلى أنه سنة: يلزمه دم] اهـ. و"تت": أي شمس الدين التتائي.
وقال الشيخ الدسوقي في "حاشيته على الشرح الكبير" (2/ 45، ط. دار الفكر): [(قوله: وندب وقوفه بالمشعر الحرام) أي: فإذا وصل للمشعر الحرام ندب وقوفه به إلخ على ما قال المصنف، والمعتمد: أن الوقوف بالمشعر الحرام سنة؛ كما قال ابن رشد وشهره القلشاني] اهـ.
وعند الشافعية والحنابلة: الوقوف بالمزدلفة سنة، ولا يجب بتركه شيء.
قال الإمام أبو إسحاق الشيرازي في "التنبيه" (ص: 80، ط. عالم الكتب) في الكلام عن سنن الحج: [وسننه: الغسل، وطواف القدوم، والرمل، والاضطباع في الطواف، والسعي، والاستلام، والتقبيل، والارتقاء على الصفا وقيل: إنه واجب، والمبيت بمنى ليلة عرفة، والوقوف على المشعر الحرام.. ومن ترك سُنةً لم يلزمه شيءٌ] اهـ.
وقال الإمام الرافعي في "فتح العزيز" المعروف بـ"الشرح الكبير" (7/ 367، ط. دار الفكر): [فإذا جمع الحجيج بين المغرب والعشاء بمزدلفة باتوا بها ثم ارتحلوا عند الفجر، فإذا انْتَهَوْا إلى المشعر الحرام وَقَفُوا ودَعَوْا، وهذه سُنة] اهـ.
وقال العلامة الحضرمي في "مقدمته" (ص: 151، ط. الدار المتحدة): [ويسن الوقوف بالمشعر الحرام بمزدلفة وأخذ حصى جمرة العقبة منها] اهـ.
وقال الإمام أبو الخطاب الكلوذاني الحنبلي [ت: 510هـ] في "الهداية" (ص: 199، ط. مؤسسة غراس) في ذكر سُنن الحج: [وسننه خمسة عشر.. والوقوف على المشعر الحرام] اهـ.
بناءً على ذلك: فإن الوقوف عند المشعر الحرام بالمزدلفة ما بين طلوع الفجر إلى قبيل شروق شمس يوم النحر منسكٌ من مناسك الحج بإجماع الفقهاء، ويُستحب الإتيان به؛ خروجًا من الخلاف، ولا يلزم الحاج دمٌ بتركه؛ كما هو المشهور عند المالكية، وهو أيضًا مذهب الشافعية، والحنابلة، وحتى على القول بأنه نسكٌ واجبٌ فلا يلزم الحاج بتركه دمٌ إذا كان لعذر مِن ضعفٍ أو مرضٍ أو حيضٍ أو خوفِ زحامٍ أو لتعجيلِ السيرِ إلى منًى أو نحو ذلك؛ كما هو مذهب الحنفية.
وفي واقعة السؤال: لا شيء على الرجل المذكور في تركه الوقوف بالمزدلفة عند المشعر الحرام بعد الفجر بعدما بات بها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
هل يجوز لي أن أحجّ من مالي الخاص مع وجود دَين على زوجي؟ وهل يجوز أن أشترك في جمعية من هذا المال دون علمه؟
نرجو منكم بيان فضل يوم عرفة، وما أهم الأعمال التي ينبغي على المسلم فِعْلُها في يوم عرفة سواء كان من الحجيج أو من المقيمين في بلادهم؟
أيهما أفضل تكرار الحج والعمرة أم التصدق على الفقراء والمحتاجين؟ فالسائل قد بلغ من العمر خمسة وخمسين عامًا وقام بأداء فريضة الحج مرتين، ومن بعدها كل عام يقوم بأداء العمرة مع زوجته ويجد في هذه الرحلة راحة نفسية.
ويقول: إنه قام بتربية جميع أولاده وتخرجوا من جميع الكليات وينوي هذا العام أن يؤدي العمرة كسابق عهده، ولكن بمناقشة مع عالم جليل إمام وخطيب مسجد أفاده بأن أداءه لهذه العمرة ليس له أي معنى، وخير له أن يصرف تكاليفها على أناس فقراء.
وأرسل إلينا بعد أن ختم سؤاله بقوله: إنني بهذه الرحلة استعيد نشاطي من عناء العمل طول العام، حيث إنه يعمل بالتجارة فضلًا عن العبادة في الأماكن المقدسة، فما حكم الشرع؟ هل يذهب لأداء العمرة فضلًا وتطوعًا كل عام، أم ينفق تكاليفها على الفقراء؟
ما حكم الحج عن الغير تبرعًا؟ فأنا كنتُ قد حَجَجتُ عن نفسي مِن قَبْل، وفي هذا العام كان لي صديق مريضٌ، فقمتُ بمشاورته في أن أحُجَّ عنه مع تحملي لنفقة السَّفَر، فهل يشترط أن يشاركني صديقي في النفقة، أو يجوز لي أن أحجَّ عنه دون مساهمةٍ منه في نفقة الحج؟
تقول السائلة: هل يجوز لي السفر للحج أو العمرة بصحبة ابن زوجي، وهل يُعَدّ مَحرَمًا لي؟
ما حكم الحج عن المتوفاة إذا كان مال تركتها لا يكفي؟ حيث سألت سيدةٌ وقالت:
أولًا: كانت والدتي رحمها الله تعتزم الحج، إلا أن الأجل وافاها قبل أن تتمكن من تأدية هذه الفريضة، فهل من الممكن -والحالة هذه- أن أقوم أنا بدلًا منها بإتمام الحج على أن يحتسب للمرحومة؟ علمًا بأن ظروفي العملية تمنعني أنا شخصيًّا من تأدية هذه الفريضة لنفسي.
ثانيًا: إن ما ورثته عن المرحومة أمي لا يكفي كل مصاريف الحج وعليه، فهل يجوز لي أن أكمل هذه المصاريف مما ادخرته لمستقبل ابنتي الطفلة ولمستقبلي كأرملة؟