تفتي الجماعات المتطرفة بوجوب هدم قبور الأنبياء والصالحين، فيقومون بالتعدي على حرمة الموتى، بل وتفجير هذه القبور؛ كما فعَل من يُسمونهم: تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) حيث نسفوا القبر المنسوب لنبي الله يونس عليه السلام في العراق([1])؛ كذلك فعلت الجماعات الإرهابية في قبر الإمام النووي في الشام([2])، وغيرها من قبور الصالحين في بلاد المسلمين.
ووجهتهم في ذلك: أنها شرك أكبر.
حديث السيدة عائشة- رضي الله عنها- أن النبي ﷺ قال في مرضه الذي مات فيه «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدًا». قالت: ولولا ذلك لأبرزوا قبره غير أني أخشى أن يتخذ مسجدًا([3]).
الحديث المروي عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب- رضي الله عنه-: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ ؟ «أن لا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفاً إلا سويته»([4]).
كلام الشيخ ابن تيمية: «فاتِّخاذ القبور مساجد ممَّا حرَّمه الله ورسوله، وإن لم يبنِ عليها مسجدًا كان بناء المساجد عليها أعظم، كذلك قال العلماء: يحرم بناء المساجد على القبور، ويجب هدم كلِّ مسجدٍ بُني على قبر وإن كان الميت قد قبر في مسجد، وقد طال مكثه سوِّيَ القبر حتى لا تظهر صورته؛ فإن الشرك إنما يحصل إذا ظهرت صورته؛ ولهذا كان مسجد النبي ﷺ أولًا مقبرة للمشركين وفيها نخل وخرب فأمر بالقبور فنبشت وبالنخل فقطع وبالخرب فسويت؛ فخرج عن أن يكون مقبرة فصار مسجدًا([5]).
وللرد عليهم نقول:
أما عن النقطة الأولى: فمن المعلوم أن الشرك أصبح الشرك بمثابة وسواس قهري يتملَّك هؤلاء النابتة حتى إنهم يرون كل فعل يصدر من عوام الأمة وخواصها- خلا من كان على شاكلتهم- شركًا، فيهدمون قبور الأنبياء والأولياء بدافع أنها تُعبد من دون الله، ولا يُعلَم مَن أين جاؤوا بهذا الإفك، فالآية صريحة في مشركي مكة؛ فكيف نأتي بآيات نزلت في المشركين وننزلها على المسلمين؟
يقول الإمام ابن جزي الغرناطي: «هذه الجملة في موضع معمول قول محذوف، والقول في موضع الحال، أو في موضع بدل من صلة الذين، وقرأ ابن مسعود: (قالوا ما نعبدهم) بإظهار القول؛ أي: يقول الكفار: ما نعبد هؤلاء الآلهة إلا ليقربونا إلى الله ويشفعوا لنا عنده، ويعني بذلك الكفار الذين عبدوا الملائكة، أو الذين عبدوا الأصنام، أو الذين عبدوا عيسى أو عزير، فإن جميعهم قالوا هذه المقالة. ومعنى زلفى: قربى»([6]).
فبحسب قراءة سيدنا ابن مسعود- رضي الله عنه- نجد أن الآية صريحة في غير المسلمين؛ فكيف تُحمل على المسلمين؟ ثم إن سورة الزمر مكية نزلت في مشركي مكة، يقول أبو السعود: «سورة الزمر مكية إلا قوله: (قُلْ يَاعِبَادِيَ) [الزُّمَر:53] الآية وآياتها خمس وسبعون آية([7])»، فإذا كان الكلام عن المشركين في مكة ظاهر لاريب فيه؛ فكيف حملوا الآية على المسلمين؟
والجواب أن هؤلاء يتبعون سلفهم الخوارج الأُوَل فقد كانت هذه صفتهم، يطبقون الآيات المنزلة في حق المشركين على المسلمين، يقول ابن عمر في ذلك: «إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين»([8]).
وأما عن الاستدلال بحديث السيدة عائشة فهو استدلال غريب جدًا فلو تنازلنا وتابعناهم على استدلالهم العقيم فنسألهم سؤالًا: أين هو قبر سيدنا عيسى الذي اتخذه النصارى مسجدًا؟ وهل هناك مساجد عند غير المسلمين؟ أين المسجد الذي يصلي فيه اليهود حتى يلعنهم سيدنا رسول الله ﷺ؟ إن أي عاقل يفهم أنَّ هذا المعنى لا يخرج من مشكاة النبوة؛ فليست هذه الأسئلة غائبة عن ذهنه ﷺ وقد علمه ربه العليم سبحانه وتعالى؛ ولكن إذا كان هذا المعنى ليس مقصودًا فما هو المعنى المقصود؟ لا بدَّ من الرجوع للغة العربية حتى نفهم المعنى المتوافق مع كلام سيدنا النبي ﷺ.
يقول الإمام المرتضى الزبيدي: «والمسجد كـ «مسكن»: الجبهة؛ حيث يصيب الرجل ندب السجود، وهو مجاز (والآراب السبعة مساجد) قال الله تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ) [الجن:18]، وقيل: هي مواضع السجود من الإنسان: الجبهة، والأنف، واليدان، والركبتان، والرجلان. وقال الليث: السجود: مواضعه من الجسد. والأرض: مساجد، واحدها مسجد، قال: والمسجد اسم جامع حيث سجد عليه. (والمسجد) بكسر الجيم؛ أي: موضع السجود نفسه»([9]).
فمِن الواضح أنَّ المساجد هنا مفادها أنهم كانوا يسجدون على القبور نفسها فصار القبر مسجدًا بمعنى أنهم اتخذوا القبور مكانًا يسجدون عليه، أو أنهم كانوا يسجدون للقبر على سبيل العبادة، وإلى هذا المعنى أشار الإمام الطيبي حيث قال: «قوله: «في مرضه» لعله ﷺ عرف بالمعجزة أنه مرتحل، فخاف من الناس أن يعظموا قبره كما فعل اليهود والنصارى، فعرَّض بلعن اليهود والنصارى وصنيعهم لئلا يعاملوا قبره معاملتهم. و«اتخذوا» جملة مستأنفة على سبيل البيان لموجب اللعن، كأنه قيل: لم يلعنهم؟ فأجيب بقوله: «اتخذوا... » لما كان اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيمًا لشأنهم، ويجعلونها قبلة، ويتوجهون في الصلاة نحوها، فاتَّخذوها أوثانًا لعنهم، ومنع المسلمين عن مثل ذلك، ونهاهم عنه. أمَّا مَن اتَّخذ مسجدًا في جوار صالح، أو صلَّى في مقبرته، وقصد به الاستظهار بروحه، أو وصول أثر من آثار عبادته إليه، لا التعظيم له والتوجه نحوه- فلا حرج عليه، ألا ترى أنَّ مرقد إسماعيل- عليه السلام- في المسجد الحرام عند الحطيم؟ ثم إن ذلك المسجد أفضل مكان يَتحرَّى المصلي لصلاته. والنهي عن الصلاة في المقابر مختص بالمقابر المنبوشة؛ لما فيها من النجاسة»([10]).
وبذلك يظهر أن استدلالهم الذي أخرجوا به المسلمين عن دين الله هو استدلال من لم يدرس اللغة العربية أو يطلع على كلام الأئمة الأعلام.
وأما الحديث المروي عن أبي الهياج الأسدي يقول الإمام البغوي: في شرح هذا الحديث:
«ألا أرسلك إلى الأمر الذي أرسلني» - عليه الصلاة والسلام- له؛ يعني: ألا أجعلك أميرًا عليه؟
«أن لا تدع تمثالًا» أي: لا تترك صورة وشكلًا يشبه شكلَ الحيوان.
«إلا طمسته» أي: محوته وأبطلته.
«ولا قبرًا مُشرِفًا» أي: عاليًا مرتفعا عن الأرض بالبناء عليه.
«إلا سويته» أي: أزلت ارتفاعه حتى يرجع إلى قدر شبر، وقد أباح السلف البناء على قبور العلماء المشهورين والمشايخ المعظمين؛ ليزورها الناس، ويستريحوا إليها بالجلوس([11]).
والسؤال هنا: لقد دخل الصحابة مصر وفيها من التماثيل ما فيها؛ فلماذا لم يتعرض الصحابة لها بالتخريب والتدمير، أو حتى بطمسها كما في الحديث سالف الذكر؟ لا يوجد مسوغ أبدًا إلا أن سيدنا عليًّا يقصد بقوله التماثيل التي تُعبد من دون الله؛ كما فعل سيدنا النبي ﷺ بالأصنام التي في جوف الكعبة([12])؛ لأنها كانت تُعبد من دون الله، بل وفوق هذا لقد ذكر الشريف الإدريسي أنَّ الصحابة لما عسكروا بناحية الهرم نقشوا أسماءهم على حجارته بالقدوم؛ فكتبوا: يوحد الله فلان ([13]).
ويحكي الشريف الإدريسي أن والده- رحمهما الله- قال له لما مروا على بعض آثار الفراعنة في الأقصر وقد وصلت إليها يد التخريب: «انظر يا بنيَّ لما بنته الفراعنة تهدمه الصفاعنة([14])، وما آسى ولا آسف إلا على فساد ما ينقله المستبصرون عنها، ويعتبر به المعتبرون منها. ولو كان لي من الأمر شيء ما مكنت هؤلاء الجهلة من خرابها، وأي حكمة تذهب من الأرض بذهابها! ولقد وطئت خيل الصحابة- رضي الله عنهم- لمَّا توجهوا إلى غزو النوبة بعد فتح مصر هذه الأرض، وجالت في هذه البلاد، ورأت أعين القوم هذه الأبنية، وما امتدت أيديهم لها بالفساد، بل تركوها عبرة لمعتبر مستبصر، وتذكرة لخبير مستخبر([15]).
هذا هو الفارق بين تصرف الصحابة- رضوان الله عليهم- وبين هؤلاء الغوغاء المتشددين الذين يشوشون على الناس دينهم، ويحسبون أنهم يخدمون الإسلام بجهلهم.
وفوق هذا فإننا نتساءل: ماذا نفعل فيمَن يموت في صعيد مصر، ومن المعلوم أنَّ الأراضي هناك رطبة بسبب وجود النيل حيث يشق أرضه فلا تكاد تحفر حتى يخرج الماء من باطن الأرض؟ هل ندفن الموتى في الماء والطين؟ هل هذا هو تكريم الله للإنسان؟ إنَّ أهل الصعيد يقومون ببناء غرفة على سطح الأرض ويضعون فيها الرمال حتى يَحولوا بين الميت وبين الرطوبة الناتجة عن طبيعة الأراضي، هل ندكُّ هذه القبور على الموتى ونحفر لهم حفرًا في الماء ونضعهم فيها إرضاء لمن لم يفهم مقاصد الشرع الشريف؟ هل إهانة الموتى والتنكيل بهم وإضاعة حرمتهم أصبحت من مقاصد الشريعة!
وفي سؤال ورد إلى دار الإفتاء عن حكم الدفن في الفساقي، فكان الجواب: الفساقي هي الغُرَف الصغيرة تحت الأرض، وهي منتشرة في الديار المصرية لعدم صلاحية أرضها للشقِّ أو اللَّحد؛ وذلك لرطوبة الأرض ورخاوتها، والدفن فيها شرعيٌّ صحيحٌ ما دامت محكمة الإغلاق؛ لأن المعوَّل عليه كونُ القبر يمنع الرائحة والسِّباع. ومِن السُّنة توسيع القبر، مع مراعاة وضع حاجزٍ بين الأموات، وعدم فتح القبر على الميت لإدخال ميتٍ آخر قبل أن يَبلى، إلَّا إذا لم يكن للميت الآخر مدفنٌ آخر غيره.
ولا مانع شرعًا من بناء مظلة استراحة على القبر؛ لأن في ذلك إعانة على زيارة الموتى والسلام عليهم والدعاء لهم وقراءة القرآن الكريم وهبة ثوابه إليهم، بشرط ألا تكون فوقه مباشرة، بل تكون في فنائه وجواره([16]).
هذا بالنسبة للدفن في الفساقي وهي الحجرة تبنى تحت الأرض ويُقام عليها شاهد، أمَّا عن الدفن فوق سطح الأرض، فقد جاء في إجابة سؤال مفاده: هل يجوز بناء مقبرة (فسقية) فوق قبور دفن بها منذ أربعين عامًا؛ وذلك لضيق المكان، ولأن الدفن قد توقَّف ممَّا سبَّب طمع بعض المعتدين الذين نبشوا القبور القديمة وأزالوا شواهدها بغية الاستيلاء على المقبرة؛ ممَّا جعلنا نُنشِئ هذه المقابر لتجديد الدفن وجعلها حقوقًا للمسلمين عامَّة؟
الأصل أن يكون الدفن في حفرةٍ تحت الأرض ساترة للميت كاتمة للرائحة، ومانعة من نَبش القبر أو تَعَرُّضِ نحو سَبُعٍ ضارٍّ له، ويجوز في حال الضرورة أن لا يكون الدفن في حفرة، بل في بناء فوق الأرض أو (فسقية)، وإن تعدَّدت أدواره بقدر الحاجة فلا مانع، وذلك كله بشرط التعامل بإكرامٍ واحترامٍ مع أجساد الموتى أو ما تبقَّى منها([17]).
وأما كلام الشيخ ابن تيمية فلنا مع هذا الكلام وقفات أولها: ما هو مستند كلامه ليجزم بكل ثقة أن اتخاذ القبور مساجد مما حرَّمه الله ورسوله، من أين أتى الشيخ ابن تيمية بهذا الكلام؟ أليس الله قد قضى باتخاذ المسجد على قبر نبيه ﷺ؟
يقول العلامة أحمد بن محمد الصديق الغماري- رحمه الله- : «إن الله تعالى قضى في سابق علمه باتخاذ المسجد على قبر نبيه ﷺ، والنبي ﷺ عند ربه- جلَّ وعزَّ- أعلى قدرًا وأحمى جانبًا من أن يقع بجسده الشريف ما هو محرم مبغض لله- تعالى- ملعون فاعله، بل هذا من المتيقن المقطوع ببطلانه لأهل الإيمان فلو كان اتخاذ المسجد عليه ﷺ ممنوعًا ملعونًا متخذه لحَمَى الله- تعالى- جانب نبيه ﷺ منه، ولصرف العباد عنه كما صرفهم عن غيره، فلما لم يفعل ذلك دلَّ على أنه جائز ومطلوب، ومن اعتقد خلاف ذلك فهو قرنيٌّ ممقوت لم يذق للإيمان طعمًا، ولا عرف من منزلة النبي ﷺ العليا، ومكانته السامية عند ربه شيئًا فهو مدخول العقيدة مختل الإيمان([18]).
ثانيًا: زعم الشيخ ابن تيمية أن العلماء قالوا: يحرم بناء المساجد على القبور ويجب هدم كل مسجد بني على قبر؛ ولكن هذا كلام لا يسلم له؛ لأن هذا الكلام ليس موجودًا إلا في ذهن الشيخ ابن تيمية- رحمه الله- والدليل على ذلك ما جاء في فتاوى الإمام السبكي حيث قال: «وأما الوصية ببناء التربة والقبو وحفر الجب والصهريج إذا كان في أرض يمكن فيها فصحيح؛ لأنه ينتفع من يقيم هناك من قيم ومقرئ وزائر وغيرهم، والذي يمنع البناء على القبر كما كانت الجاهلية تفعله وتقصد به تعظيم القبور، وإذا كانت الأرض مسبلة للدفن خاصة امتنع فيها وإذا امتنع البناء في تلك البقعة بني في غيرها تحصيلًا لغرضه بقدر الإمكان([19])» فهذا كلام الإمام تقي الدين السبكي يحطم ما سماه الشيخ ابن تيمية قول العلماء.
ثالثًا: كلامه- رحمه الله- مردود بقوله ﷺ: «في مسجد الخيف قبر سبعين نبيًّا»([20]). ومع ذلك لم يأمر النبي بنبش هذه القبور أو هدم المسجد المبارك، ولا مبرر لهذا إلا أن نأخذ بكلام الإمام ابن العربي المالكي فيما نقله عن إمام دار الهجرة- رضي الله عنه- حيث قال: «الفقه في مسألتين: المسألة الأولى: أما الصلاة في مقابر المسلمين فغير منهي عنها، قال مالك في العتبية: لا بأس بها في المقابر التي قد درست وغيرت. وقال: إنما هي مثل غيرها من الأرضين. وهذا مبني على أن المؤمن الميت لا ينجس بالموت. المسألة الثانية: أما مقابر المشركين، فقد نصَّ ابن أبي زيد على المنع من ذلك؛ لأنها حفرة من حفر النار»([21]).
وبهذا يتضح أن الباعث على نبش قبور المشركين قبل بناء المسجد النبوي كما مرَّ أن الله قال: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [التوبة:28] بخلاف قبور الأنبياء في الخيف لأن النبي ﷺ قال: «إن المؤمن لا ينجس»([22]) وبهذا يتضح توجيه الروايتين بما يتفق مع قول العلماء وليس كما قال الشيخ ابن تيمية رحمه الله.
ثم إن أئمة المسلمين تواردت عنهم الأقوال في جواز البناء:
قال الإمام ابن حزم: «قد أنذر- عليه السلام- بموضع قبره بقوله «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة»([23]) وأعلم أنه في بيته بذلك، ولم ينكر- عليه السلام- كون القبر في بيت، ولا نهى عن بناء قائم، وإنما نهى عن بناءٍ على القبر: قبةٍ فقط([24]).
قال الإمام المباركفوري: «وفي شرح الشيخ مثله حيث قال: «وخرج بذلك اتخاذ مسجد بجوار نبي أو صالح والصلاة عند قبره لا لتعظيمه والتوجه نحوه، بل لحصول مدد منه حتى يكمل عبادته ببركة مجاورته لتلك الروح الطاهرة، فلا حرج في ذلك؛ لما ورد أن قبر إسماعيل عليه السلام في الحجر تحت الميزاب، وأن في الحطيم بين الحجر الأسود وزمزم قبرَ سبعين نبيًّا ولم ينهَ أحدٌ عن الصلاة فيه. انتهى»([25]).
قال الشيخ الدمياطي: «وعبارة الرحماني: نعم، قبور الصالحين يجوز بناؤها ولو بقبة لإحياء الزيارة والتبرك. قال الحلبي: ولو في مسبلة، وأفتى به، وقد أمر به الشيخ الزيادي مع ولايته»([26]).
قال الإمام البجيرمي: «قوله: (وحرم؛ أي: البناء) ظاهرًا وباطنًا وإن لم يتحقَّق وقفها، ومحل ذلك ما لم يكن الميت من أهل الصلاح، ومن ثم جازت الوصية بعمارة قبور الصالحين لما في ذلك من إحياء الزيارة أو التبرك»([27]).
قال الإمام الخطيب الشربيني: «قال الموفق حمزة الحمودي في مشكل الوسيط: أن يكون المدفون صحابيًّا أو من اشتهرت ولايته فلا يجوز نبشه عند الانمحاق. قال ابن شهبة: وقد يؤيده ما ذكره الشيخان في الوصايا أنه تجوز الوصية لعمارة قبور الأنبياء والصالحين لما فيه من إحياء الزيارة والتبرك فإن قضيته جواز عمارة قبور الصالحين مع جزمهما هنا بأنه إذا بلي الميت لم تجز عمارة قبره وتسوية التراب عليه في المقبرة المسبلة»([28]).
يقول الإمام ابن الحاج نقلًا عن الإمام ابن النعمان أنه قال: «تحقق لذوي البصائر والاعتبار أن زيارة قبور الصالحين محبوبة لأجل التبرك مع الاعتبار، فإن بركة الصالحين جارية بعد مماتهم كما كانت في حياتهم والدعاء عند قبور الصالحين والتشفع بهم معمول به عند علمائنا المحقِّقين من أئمة الدين. انتهى»([29]).
قول الإمام الغزالي: «القسم الثاني: وهو أن يسافر لأجل العبادة؛ إما لحجٍّ أو جهاد وقد ذكرنا فضل ذلك وآدابه وأعماله الظاهرة والباطنة في كتاب أسرار الحج، ويدخل في جملته زيارة قبور الأنبياء عليهم السلام وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والأولياء، وكل مَن يتبرَّك بمشاهدته في حياته يتبرَّك بزيارته بعد وفاته، ويجوز شدُّ الرحال لهذا الغرض ولا يمنع من هذا قوله ﷺ «لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى»([30]) لأنَّ ذلك في المساجد فإنها متماثلة بعد هذه المساجد، وإلا فلا فرق بين زيارة قبور الأنبياء والأولياء والعلماء في أصل الفضل وإن كان يتفاوت في الدرجات تفاوتًا عظيمًا بحسب اختلاف درجاتهم عند الله»([31]).
قال الإمام الذهبي في ترجمة جعفر بن محمد بن الحسين الزاهد: «وقبره يزار ويبجل غاية التبجيل»([32]). ومثل هذا أكثر من أن يُحصى في كتب التراجم.
***