10 يوليو 2024 م

العلم الديني والعلم الدنيوي

العلم الديني والعلم الدنيوي

لقد حثت الشريعة الإسلامية على طلب العلم عمومًا وبينت رفعة شأنه ومكانته وضرورته، ومكانة العلماء، فيقول الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه ﷺ: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: 114] ولم يطلب الحق جل جلاله من نبيه ﷺ الاستزادة من شيء كما طلب منه في هذه الآية أن يستزيد من العلم، وقال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 9] فانظر كيف فرق الله بين أهل العلم وبين غيرهم، وقال سبحانه: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة: 11] وقال ﷺ في ضرورة طلب العلم: «طلب العلم فريضة على كل مسلم» (رواه ابن ماجه) فلا ينبغي للمسلم أبدًا أن يكون جاهلًا أو أن يرضى بذلك في أموره الدينية أو الدنيوية، وذلك منهج المسلمين على مر العصور، طلب العلم، والبحث عنه وإن كان عند غير المسلمين؛ فالحكمة كما يقول رسول الله ﷺ: «ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها» (رواه الترمذي)، بل إن النبي ﷺ عظم من شأن العلم حتى قال: «ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالم أو متعلم» (رواه الترمذي)، فهذه مكانة العلم والعلماء في الإسلام وشرفهم وعلو مرتبتهم.

ولا ينبغي أن يفهم أن هذا الحث على طلب العلم ورفعة مكانته إنما يختص بالعلوم الدينية فقط، فإن الله سبحانه وتعالى عندما وصف أهل العلم بأنهم أهل الخشية في كتابه العزيز جعل ذلك في سياق كلامه عن دورة الحياة عمومًا في الطبيعة، وتنوع أشكال وألوان الحياة فيها؛ كتنوع الثمار والنباتات فيما يعرف بـعلم النبات أو البيولوجيا النباتية، وكاختلاف أشكال الجبال وألوانها فيما يعرف الآن بـعلم الجيولوجيا وباطن الأرض، وكمظاهر الاختلاف في الكائنات الحية وأنواعها فيما يعرف بالتنوع البيولوجي للكائنات، وكل ذلك يختص بالعلوم الدنيوية، فلم يصدر الآيات بالحديث عن العلوم الشرعية والدينية، وإنما قال سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ۞ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ [فاطر: 27، 28] كما دعا سبحانه في كثير من الآيات إلى التدبر في النفس البشرية وعظمة ما فيها من خلق، وإلى الكون من حولنا والنظر فيه بشكل شمولي وواسع لاستكشافه واستخراج بواطن أسراره وعلومه؛ إذ يقول تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 164] ويقول أيضا: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ [الروم: 8] وقال جل شأنه: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 185] فانظر كيف دعت الآيات إلى التنبه والنظر والتفكر وإعمال العقل والتدبر الموصل إلى العلم، كما عظَّمت الشريعة من شأن العقل وجعلته مناط التكليف؛ لما فيه من القوة المدركة لحقائق الأشياء وصحة النظر والعلم الذي ينبني عليه صحة الأفعال والأقوال، وقد سخر الله ما في السماوات والأرض لخدمة الإنسان تكريما له ليطوع هذه العلوم فيما ينفعه؛ فيقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾ [لقمان: 20] بل إن الله سبحانه وتعالى جعل ذلك العلم والنظر في الكون والنفس من الأدلة على حقيقة عظمته ووجوده وأن هذا الدين حق، فقال: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: 53].

فلا شك أن للعلم مكانته في الشرع الشريف، بل إن منهج الإسلام في التعامل مع العلوم منهج شمولي واسع يجعل العلاقة بين العلم الديني والعلم الدنيوي علاقة تكامل، فلا يُستغنى بأحد العلمين عن الآخر، ولا سبيل لارتقاء الأمم وتقدمها إلا بهما معا، فإن دراسة العلوم الدينية لا تتعارض مع دراسة العلوم الدنوية كدراسة الطب ومجالاته التي لا يُستغنى عنها لخدمة الصحة وإقامة البدن ومداواة الجرحى، وكدراسة علوم الهندسة التي يعتمد عليها العمران في شتى مجالات حياتنا للبناء والتوسع والصناعات وغيرها، وقد فهم علماء المسلمين ذلك وطبقوه في حياتهم وظهر في تراثهم وكتبهم، فإن الشريعة الغراء إنما جاءت لترعى مصالح العباد الدينية والدنيوية بلا تفريق، وقد ورد أن النبي ﷺ سأله أصحابه فقالوا: يا رسول الله من أحب الناس إلى الله، قال: «أنفعهم للناس» (رواه ابن أبي الدنيا)، ولأجل ذلك يقول الإمام العز بن عبد السلام في كتابه (قواعد الأحكام): «إن الطب كالشرع وضع لجلب مصالح السلامة والعافية، ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام، ولدرء ما أمكن درؤه من ذلك، ولجلب ما أمكن جلبه من ذلك».

وعلى ذلك يمكن القياس مع باقي العلوم التي تنفع الناس وتخدم البشرية من مختلف العلوم الدنيوية، كذلك فقد دعا الشارع في منهجه القرآني إلى احترام التخصص في كل علم وقال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43] ولا شك أن أهل الذكر عند المرض هم الأطباء، وعند الحاجة للبناء هم المهندسون، وكذلك في كل فن فإن أهل الذكر فيه هم أهل التخصص، فأهل العلم الديني والدنيوي في ذلك سواء إذ يحتاج كل منهم إلى الآخر، ما يجعل العلاقة بينهم هي التكامل، فكل منهم يحقق المصالح والنفع للناس فلا يستغنى بأحدهما عن الآخر، فلا تعارض في الإسلام بين العلمين الشرعي والدنيوي.

ويقول الإمام الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين): «اعلم أن الفرض لا يتميز عن غيره إلا بذكر أقسام العلوم، والعلوم بالإضافة إلى الغرض الذي نحن بصدده تنقسم إلى شرعية، وغير شرعية، وأعني بالشرعية ما استفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، ولا يرشد العقل إليه مثل الحساب، ولا التجربة مثل الطب، ولا السماع مثل اللغة، فالعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ما هو محمود، وإلى ما هو مذموم، وإلى ما هو مباح، فالمحمود ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا؛ كالطب والحساب، وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية، وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة، أما فرض الكفاية فهو علم لا يستغني عنه في قوام أمور الدنيا كالطب؛ إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان، وكالحساب فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما، وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها حَرِجَ أهلُ البلد، وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين، فلا يتعجب من قولنا إن الطب والحساب من فروض الكفايات، فإن أصول الصناعات أيضاً من فروض الكفايات، كالفلاحة، والحياكة، والسياسة، بل الحجامة والخياطة فإنه لو خلا البلد من الحجام تسارع الهلاك إليهم وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك».

ولأجل ذلك فإن التاريخ الإسلامي حافل بالعديد من العلماء الذين جمعوا بين العلوم الدينية الشرعية كالفقه والعقيدة والتفسير، وبين العلوم الدنيوية الطبيعية التجريبية كالطب والكيمياء، والنظرية كالفلسفة والحكمة والحساب والفلك، وبلغوا في ذلك أن كانوا هم- بما وضعوا ودونوا من كتب ونظريات- المرجع في تلك العلوم لقرون من الزمان، كالفارابي، والحسن بن الهيثم، والكندي، وأبي الريحان البيروني، وكابن سينا الشيخ الرئيس الذي جمع بين طائفة من العلوم، كالطب والكمياء والفلسفة والمنطق والجغرافيا والحساب والفيزياء والشعر العربي والموسيقى، ولقب بأمير الأطباء، وأبي الطب الحديث، وقد أثرى المكتبة الإسلامية بنحو مائتي كتاب في شتى العلوم والمعارف وظل كتابه (القانون) في الطب هو المرجع والموسوعة الطبية المعتمدة في كثير من الجامعات العلمية حتى القرن الثامن عشر الميلادي.

وكالإمام الفخر الرازي شيخ الإسلام في عصره صاحب التفسير الكبير (مفاتيح الغيب) فقد جمع بين نبوغه وإمامته في العلوم الدينية، وبين نبوغه في العلوم الدنيوية ومشاركته فيها، فكان عالما موسوعيا بحق شيخًا في المعقول والمنقول، كتب ودوَّن في كثير من العلوم كالطب والرياضة والفلك والفلسفة، وقد ضمن بعضا من هذه العلوم في تفسيره الكبير.

لقد جمع الإسلام على مر تاريخه بين العلوم الدينية والدنيوية في نسيج متكامل وتجربة فريدة قلما توجد في حياة الأمم بهذه الموسوعية والتنوع، فلم يقل إن العلم فقط هو التجريبي كما يتبنى ذلك أصحاب المذهب العلماني وغيرهم، ولا أن العلم فقط هو العلم الديني كما يفهم بعض المنتمين للتيارات الجامدة والمتشددة فحقروا من شأن العلم التجريبي، بل كان وسطا بين ذلك فجمع بين العلمين دون تضاد أو تعارض أو صدام مع الحقائق الكونية والطبيعية، دون كهنوت أو تحدث باسم الإله- الذي كان سببًا للثورة على الدين ورجاله عند أمم أخرى- بل سبك كل تلك العلوم في سبيكة مترابطة قدمت للبشرية العديد من الخدمات والاكتشافات والعلوم في شتى المجالات، فالإسلام يعتبر أن كل العلوم موصلة إلى معرفة لله سبحانه وتعالى، الدينية منها والدنيوية، وأنها كلها باب من أبواب النظر في عظمة هذا الكون وفي عظمة خالقه سبحانه وتعالى. 

أنزل الله سبحانه وتعالى الدين هداية للناس من حيرتهم، وإرشادًا لهم إلى الحقائق العليا والأصول الكلية التي ينبغي أن تتنبه لها عقولهم، وأن تعيَها أفئدتهم وقلوبهم، فمنذ خلق الله سيدنا آدم عليه السلام وعلَّمه ما لم يكن يعلم من الأسماء، فتح له نافذة إلى إدراك حقائق الأشياء، وإلى الوصول إلى الحكمة والهدى والرشاد، والسعي في هذا الكون لمرضاة الله ووفق مراده


إن الناظر في تاريخ الأمم والشعوب والحضارات عبر القرون ومن خلال ما خلفته هذه الحضارات من المنجزات البشرية يجد أن شريعة الإسلام من أسبق المرجعيات التي تولد عنها مظاهر الحضارة والمدنية في تاريخ الإنسانية؛ فقد انطلق هذا الدين الذي نتج عنه الحضارة الإسلامية من نص رباني في القرآن الكريم يعبر عن منطلقات الحضارة؛ حيث يقول الله عز وجل: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق:1] فهذا النص الإلهي يحمل عناصر بناء الحضارة من حيث الأمر بالقراءة الدال على الفكر وإعمال العقل وكذلك النظر إلى الخلق والكون وإعمال الفكر فيهما.


إن من أهم صور المعالجة الفكرية والمنهجية للمفاهيم المشتبكة والمتداخلة هو بيان معاني تلك المصطلحات والمفاهيم، ودلالاتها، والفرق بينها، وعدم خلطها بغيرها؛ لما ينشأ عن ذلك الخلط من قضايا ونتائج تخالف الحقيقة والواقع، وهذا أحد أوجه الفساد الفكري الذي تمارسه المذاهب والآراء التي تفتقد لرؤية منهجية واضحة، أو التي تتعمد خلط المفاهيم سعيًا منها لإحلال مفاهيمها المزيفة في العقل والوعي الجمعي من أجل غاياتها وأهدافها، وهو سمة من السمات الفكرية المشتركة بين الجماعات المتطرفة، وأصحاب الآراء الشاذة، والمشككين في الثوابت الدينية القطعية، وذلك لأنهم جميعًا قد أهملوا المنهج العلمي المنضبط، واقتحموا ساحة العلم بغير قواعد وضوابط.


قررت الشريعة الإسلامية مبدأ المسئولية الفردية والجماعية، الخاصة والعامة، وجعلت هذا المبدأ من مكونات شخصية المسلم التي لا يكتمل إيمانه إلا برعايتها وتحقيق معانيها، وجعلت التقصير في ذلك من مظاهر عدم الالتزام بآداب الإسلام وتعاليمه، فعنصر المسئولية بكافة صوره ومستوياته وتطبيقاته هو أحد معاني التدين الصحيح الذي يجب على الفرد المسلم الاهتمام بتحصيل معانيها في شخصيته وتحويلها إلى منهج حياة وأسلوب عيش.


أرسل الله سبحانه وتعالى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخاتمة للجنس البشري، حاملًا للمنهج الرباني الذي أراد الله عز وجل لبني آدم السير عليه، وكان من أبرز خصائص هذا المنهج رعاية مصالح الخلق والرفق بهم ونفي الحرج عنهم، فلم تكن شريعة الإسلام مجرد أوامر ونواهي وتكليفات تنفصل عن حياة الإنسان وواقعه الفردي والجماعي على أي مستوى من المستويات؛ وإنما كانت شريعة حية ودينًا متجددًا متفاعلًا، يجعل من أهم أولوياته مصلحة الإنسان في هذه الحياة الدنيا، وتحقيق سعادته في آخرته.


مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 28 أبريل 2025 م
الفجر
4 :41
الشروق
6 :15
الظهر
12 : 52
العصر
4:29
المغرب
7 : 31
العشاء
8 :54