13 ديسمبر 2018 م

لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل

لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل

المال قوام الحياة، وأساس نهضة الأمم وتقدم الدول وبناء الحضارات؛ لذا حث الإسلام على طلبه وكسبه، لكنْ من طرقه الصحيحة وبالوسائل المشروعة، وأرشد إلى إنفاقه فيما يعود بالنفع على الإنسان والأكوان، ويكون محقِّقًا لرضا الرحمن.

وقد جُبلت النفوس البشرية على حب الدنيا، والرغبة الشديدة في الاستزادة من متاعها الزائل، والحرص البالغ على ما فيها مشتهيات؛ يقول تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ [آل عمران: 14]، وجُبلت النفوس أيضًا على حب المال، باعتباره من زينة الحياة الدنيا؛ قال الله تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ [الكهف: 46]، والمال هو كل ما يملكه الإنسان من نقود أو تجارة أو عقار أو متاع.

والإسلامُ يُقرُّ مبدأَ الملكيَّة الفرديَّة، وجعل هذا من أسس بناء اقتصاد قوي ومتكامل؛ ولذا شرع الإسلام مجموعة من التشريعات؛ من أجلِ حمايَة ممتلكات الأفراد وأموالهم، ومنْعِ التعدِّي عليهم وأخذها إلا برضاهم، ومن أهم النصوص التي وردت في هذا الشأن؛ قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 188]، وأيضًا قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29].

وفي هاتين الآيتين إشارتان لطيفتان:

- الأولى: جاء التعبير القرآني عن أخذ الأموال بدون وجه حقٍّ بـ"الأكل"؛ وذلك؛ لأنَّ الأكلَ هو المنفعة الظاهرة من المال، وهو أكثر شيء يُطلب المال من أجله، وفي هذا التعبير أيضًا: تنفيرٌ شديدٌ من الأكل من المصادر المحرمة؛ لأنَّ مصير مَنْ سيأكل الحرام سيكون إلى النار، فكلُّ ما نبت من حرامٍ النارُ أولى به.

- والثانية: التعبير بلفظ: ﴿أَمْوَالَكُمْ﴾ والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض؛ وذلك للإشعار بوحدة الأمة وتكافلها، وأيضًا للتنبيه على أن احترام مال غيرك وحفظه هو عين الاحترام والحفظ لمالك؛ لأن استحلال التعدي، وأخذ المال بغير حق يعرِّض كلَّ مالٍ للضياع، ومثل هذه التعابير متكررة في القرآن الكريم للإشارة إلى ضرورة التكافل بين أبناء الأمة الواحدة؛ كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: 29]، وكقوله تعالى: ﴿فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ﴾ [النور: 27].

وقد قررت أحاديث البشير النذير صلى لله عليه وآله وسلم هذه المعاني؛ فقال عليه الصلاة والسلام: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» رواه مسلم، وعن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في خطبته يوم النحر بمنى في حَجَّةِ الوداع: «إنَّ دِماءَكُم وأمْوالَكم وأعْراضَكُم حرامٌ عَلَيْكُم كَحُرْمة يومِكُم هَذَا، في شهرِكُمْ هَذَا، في بلَدِكُم هَذَا» رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» رواه البيهقي.

وصور أكل أموال الناس بالباطل كثيرة متعددة، وقد جاء الإسلام بتحريمها؛ حمايةً للناس من عواقبها الوخيمة على الأفراد والمجتمعات، ولِما يترتب عليها من إثم وعقوبة في الدنيا والآخرة.

وتدور هذه الصور حول أخذ الأموال بغير وجه حق؛ كالسرقة والغصب، وأيضًا الغش والتلاعب في الموازين، وكذلك عدم إعطاء الحقوق، وعدم ردِّ الأمانات إلى أصحابها.

وهناك صورة خفيَّة، وهي من أبشع الصور الممنوعة في أكل أموال الناس بالباطل، نريد أن ننبه عليها، ألا وهي "الرشوة"، والمراد بها: ما يدفعه الإنسان في جهةٍ ما ليَتَوصَّل به إلى ما ليس بحقِّه، وكذلك ما يَأخُذَه العامل في جهة ما ليُعْطِي غيرَه ما ليس حقَّه، وقد استهان الناس بها، وتساهلوا في أخذها، وأوجدوا لأنفسهم المبررات؛ لأجل استحلالها، وقاموا بتسميتها بغير اسمها للتجرُّؤ على أخذها، وهذا كله من مداخل الشيطان؛ فهي محرمة تحريمًا شديدًا، وبسببها تنزع البركة من الحياة، بالإضافة إلى العقاب الشديد في الآخرة.

-------

المراجع:

- "زهرة التفاسير" للشيخ/ محمد أبو زهرة، ط. دار الفكر العربي.

- "صحيح الإمام البخاري" تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، ط. دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)، الطبعة الأولى 1422هـ.

- "صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" أبو الحسن القشيري النيسابوري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت.

- "السنن الكبرى" للإمام البيهقي تحقيق: محمد عبد القادر عطا، ط. دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، الطبعة الثالثة: 1424هـ - 2003م.

 

 

حرص الإسلام على ترتيب شؤون الناس بما يحقِّق لهم المصلحةَ في العاجل والآجل، ويبتعد بهم عن كل ما يؤدي إلى الضرر والمفسدة؛ فأرشدهم إلى تحصيل أسباب القوة، وأمرهم بإتقان العمل، ونهاهم عن التسرع وعدم التَّروي في الأقوال والأعمال على غير علم وتَمَكُّنٍ وتَحَقُّقٍ، ودعاهم إلى ردِّ الأمور إلى أهل الخبرة ومراعاة التخصص؛ فهم أحق بها وأهلها؛ فقال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 83].


لما خلق الله تعالى الخلق جعل لهم حدودًا ورسم لهم طريقًا مستقيمًا لا عوج فيه ولا انحدار، ولأجل أن يبلغهم شريعته ومنهاجه أرسل إليهم رسلًا ليبلِّغوهم ما أنزل إليهم، وليرشدوهم إلى طريقٍ مستقيمٍ؛ {دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [الأنعام: 161]، فكانوا هم أول من يُؤْمر، فاصطفاهم الحق سبحانه واختارهم من بني البشر ليكونوا قادةً وقدوةً حسنة لأممهم، فتجلت الدعوة الإلهية إليهم في أسمى معانيها بالدعوة إلى الاستقامة والعدل في جميع الأمور بلا إفراط ولا تفريط.


قال تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [النساء: 114]. يحرص الإسلام على توجيه أتباعه إلى التزام الأخلاقيات الفاضلة والسلوكيات الراقية حتى تَزكُوَ نفوسُهم، وتستقيمَ أمور معايشهم، ومن أبرز ما رغَّب الإسلام إليه، وحبب فيه: اشتغال الإنسان بما يعنيه؛ لأن هذا سيعود عليه بالنفع الكثير، كما أنَّ تركيز الإنسان في فعل ما هو مطلوب منه وفي إدارة شؤون نفسه سيجعله مصروفًا عن الاهتمام بخصوصيات الآخرين وتتبُّعها، ومبتعدًا عن التدخل في شئونهم.


الله تعالى هو العليم، وعلمه سبحانه محيط وشامل لكل شيء؛ فهو عليم بخلقه وعباده يعلم أن لهم حوائج لا تقضى إلا بأمره، ولا يُنَالُ منها شيءٌ إلا بفضله، فهو الغني وهُم الفقراء إليه، وقد جعل سبحانه لكل شيء بابًا، وجعل بابه الدعاء؛ فمن لزمه بيقين وتضرع نال كلَّ خيرٍ وحصَّل كل مطلوب، ومن ابتعد عنه فقد كل شيء، ولن يجد غير بابه مَلجأً يلجأ إليه.


للعلم مكانة عظيمة في حياة الأمم بصفة عامة وعند الأمة المحمدية بصفة خاصة؛ فبالعلم ترتقي العقول وتتهذب النفوس وتنهض المجتمعات وتتقدم، وقد أولى الشرع الشريف العلم عناية خاصة، وحثَّ أتباعه على الجد والاجتهاد في طلبه، وبيَّن منزلة العلماء وفضلهم؛ حيث قال الله تعالى في كتابه المحكم: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9]، وهذا مبدأٌ قرآني، ومعناه: لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وعدم المساواة تقتضي التفضيل: تفضيل الذين يعلمون على الذين لا يعلمون، وهذا تنبيه عظيم على فضيلة العلم وأهله.


مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 25 أبريل 2025 م
الفجر
4 :44
الشروق
6 :17
الظهر
12 : 53
العصر
4:29
المغرب
7 : 29
العشاء
8 :52