لا يقوم النظر الإسلامي على العزلة والانفراد، بل على التعاون والاجتماع، فالإسلام يقدِّر أن هناك أممًا أخرى وأفكارًا مختلفة تنتشر بين البشر، وهو إزاءها لا يقف موقف الخصومة والعداء بشكل مبدئي، ولكنه يسعى لقطع مادة النزاع والتمكين لترسيخ أرضية مشتركة بينه وبين غيره من الأفكار والديانات تسمح بالتعامل السلمي والإفادة المتبادلة، وهو في ظل هذه النظرة الرحيمة لا يغفل عن إمكانية رفض غيره لها وقيام صراع بينه وبينها، فشرع الجهاد صدًّا للعدوان وحماية للدين، كما شرع الدعوة لنشر الإسلام وإقناع العالمين به بالحكمة والموعظة الحسنة.
وهذا النظر الموضوعي لا يقتصر على العلاقة الخارجية مع الأمم والشعوب الأخرى أصحاب العقائد والديانات المختلفة، بل إنه يتحقق بشكل أشد تأكيدًا مع غير المسلمين في المجتمع الإسلامي الذي يحتكم إلى قواعد الإسلام في تنظيم شؤونه وترتيب أموره، ذلك أن وجود غير المسلمين داخل المجتمع الإسلامي يخلق مساحات أكبر من التفاهم والتعاون وحمل الهموم المشتركة بين الناس جميعًا داخل المجتمع الواحد بصرف النظر عن اعتقاداتهم وانتماءاتهم.
لقد قرَّر الإسلام قواعد راقية في التعامل مع غير المسلمين، إذ رفض الإكراه على اعتناق الإسلام، ذلك أن الإكراه لا يؤدي إلى إيمان حقيقي، والإسلام لا يسعى إلا إلى الإيمان الحقيقي القائم على أساس من الاقتناع والتصديق والرضا النفسي، لقد أعلنها القرآن جلية صريحة ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: 256]، فالإيمان لا يحصل بالإكراه، بل بالإقناع العقلي والمنطقي، أما الإكراه فيؤدي إلى النفاق، الذي يُظهر صاحبه الإيمان ويُبطن الكفر، والمنافق أشد أذى من الخصم الذي يُعلن عن رأيه بوضوح، والإسلام يريد الوضوح لا الخفاء، والعلانية لا الإسرار، ولذلك لم يكن هناك من سبيل في الإسلام لإجبار غير المسلمين على اعتناقه، وهذا توجُّه مُنْبَنٍ على إيمان الإسلام بالتنوع والتعدد والاختلاف، يقول الله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ [هود: 118]، ويقول أيضًا: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾ [المائدة: 48]، إن مهمة المسلمين هي الدعوة، وليس الهداية، الدعوة هي محل الجهد والاجتهاد، أما الهداية فإنما هي نعمة من نعم الله يمنحها من يشاء من البشر ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: 272]، ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ۞ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ [الغاشية: 21-22].
بالإضافة لعدم الإجبار أو الإكراه في الدين، يتقدَّم الإسلام خطوات أبعد في تقرير مبدأ التسامح مع أتباع الديانات الأخرى، وهذا التسامح يقتضي تعاملا معهم ورأفة بهم وتمكينهم من أداء شعائرهم وإقامة دور عبادتهم، ويشهد التاريخ على موقف وقع مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ذلك أنه عقد صُلحًا مع أهل نجران، ولم يكونوا مسلمين، فمنحهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم حقوقًا كثيرة كفلها لهم الإسلام، وكان هذا الصلح أحد التطبيقات العملية لكفالة هذه الحقوق، لقد تم الاتفاق على ما يلي: «ولنجران وحاشيتها جوار اللَّه، وذمة محمد النبي رسول اللَّه على أنفسهم وملتهم، وأرضهم، وأموالهم، وغائبهم، وشاهدهم، وعيرهم، وبعثهم، وأمثلتهم، لا يغير ما كانوا عليه ولا يغير حق من حقوقهم، وأمثلتهم، لا يفتن أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته، على ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، وليس عليهم رهق ولا دم جاهلية، ولا يحشرون ولا يعشرون ولا يطأ أرضهم جيش من سأل منهم حقًّا، فبينهم النصف، غير ظالمين ولا مظلومين بنجران، ومن أكل منهم ربا من ذي قبل فذمتي منه بريئة، ولا يؤخذ منهم رجل بظلم آخر، ولهم على ما في هذه الصحيفة جوار اللَّه وذمة محمد النبي أبدًا حتى يأتي أمر اللَّه، ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم، غير مثقلين بظلم» لقد كفل هذا الاتفاق حفظ أموالهم بمختلف أنواعها وحفظ حياتهم وحفظ حقهم في حرية ممارسة شعائرهم الدينية، كما كفل حقهم في العدالة وألا يُظلم منهم أحد.. إلى غير ذلك من حقوق، لا يتصورنَّ أحدٌ أن مثل هذا الصلح قد وقع تحت ضغط الحاجة، أو مناورة لكسب وُدِّ قوم تُرْجَى منهم منفعة ما، لقد ترك لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصايا مستقلة بهذه الحقوق لغير المسلمين، مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا» رواه البخاري.
حين أدرك الصحابة رضي الله عنهم هذه التوجيهات الدينية، لم يتخلوا عن تطبيقها، ولو كانوا في أوقات حرب وصراع، وتشهد العديد من الأمثلة على هذا التطبيق الملتزم بتوجيهات الله سبحانه وتعالى ونبيه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه يكتب صلحًا مع أهل الحيرة في العراق حين رفضوا اعتناق الإسلام، وطلبوا أن يدفعوا الجزية، فذكر في هذا الصلح: "وشرطتُ عليهم أن عليهم عهد الله وميثاقه الذي أَخَذَ على أهل التوراة والإنجيل: أن لا يخالفوا ولا يعينوا كافرًا على مسلم من العرب ولا من العجم، ولا يدلُّوهم على عورات المسلمين، عليهم بذلك عهد الله وميثاقه الذي أخذه أشد ما أخذه على نبي من عهد أو ميثاق أو ذمة؛ فإن هم خالفوا فلا ذمة لهم ولا أمان، وإن هم حفظوا ذلك ورعوه وأدوه إلى المسلمين؛ فلهم ما للمعاهد وعلينا المنع لهم؛ فإن فتح الله علينا فهم على ذمتهم؛ فلهم بذلك عهد الله أشدَّ ما أخذ على نبي من عهد أو ميثاق، وعليهم مثل ذلك لا يُخَالَفُوا؛ فإن غُلِبُوا فهم في سِعَةٍ يسعُهم ما وسع أهل الذمة، ولا يَحِلُّ فيما أُمِرُوا به أن يخالِفوا، وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنيًّا فافتقر وصار أهلُ دينه يتصدَّقون عليه؛ طَرَحْتُ جزيتَه وعِيلَ من بيت مال المسلمين وعيالُه ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام"، وعن عمر بن عبد العزيز أنه قال: "بلغني أن أمير المؤمنين عمر مَرَّ بشيخ من أهل الذمة، يسأل على أبواب الناس، فقال: ما أنصفناك إنْ كنَّا أَخَذْنَا منك الجزية في شبيبتِك، ثم ضَيَّعْنَاكَ في كِبَرِكَ. قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يُصْلِحُه" رواه ابن زنجويه في "الأموال"، إن مثل هذه النماذج تعبر عن امتثال واضح لأوامر الله وتوجيهاته ونبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالعدل والرحمة والتسامح يقول تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 9]، ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ لَا يَرْحَمِ النَّاسَ، لَا يَرْحَمْهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ» رواه مسلم.
كذلك الفقهاء، لم يُقصِّروا في تفصيل بيان الأحكام المتعلقة بحقوق غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، فنجد الإمام القرافي على سبيل المثال يُبين ما ينبغي أن نفعلَه مع غير المسلمين؛ فيقول: "الرفق بضعيفهم، وسد خلة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وإكساء عاريهم، ولين القول لهم على سبيل اللطف لهم والرحمة لا على سبيل الخوف والذلة واحتمال إذايتهم في الجوار مع القدرة على إزالته لطفا منا بهم لا خوفا وتعظيما، والدعاء لهم بالهداية وأن يُجعلوا من أهل السعادة، ونصيحتهم في جميع أمورهم في دينهم ودنياهم، وحفظ غَيْبَتِهِمْ إذا تعرَّض أحدٌ لأذيَّتهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يُعانوا على دفع الظلم عنهم وإيصالهم لجميع حقوقهم".
ومن المناسب القول بأن الجزية كانت تفرض على أهل الذمة كما كان يُطلق عليهم بحكم أنهم كانوا في ذمة المسلمين ويشملونهم بحمايتهم ويمنعون الاعتداء عليهم، فلما نشأت الدول الحديثة بعد عهد الاستعمار وشارك المجتمع بجميع أطيافه في مقاومة الاستعمار وطرده؛ نشأ عقد اجتماعي جديد يقوم على أساس من المشاركة وتحمل المسؤولية الجمعيَّة، التي يتعامل الجميع في ظلِّها على قدم المساواة، مهما اختلف دينُ كلٍّ منهم عن الآخر، وصار الجميع يشتركون في حماية الوطن بالانخراط في الجيوش الوطنية دون تمييز ديني، لما كان ذلك لم يعد لوصف "أهل الذمة" وتقرير "الجزية" محل في هذا الوضع الجديد، وقد استوعب المسلمون هذه الأفكار، خاصة أنها لا تتصادم مع ما يدعو إليه الإسلام من تسامح واحترام بعيدا عن الإكراه أو الإلجاء.
المصادر:
- "الخراج" لأبي يوسف (ص: 158).
- "الفروق" للقرافي (3/ 15).
- "حقوق غير المسلمين" للأستاذ رجب عبد المنصف، ضمن "موسوعة الحضارة الإسلامية" (ط. المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية).