الإمام الكمال بن أبي شريف

الإمام الكمال بن أبي شريف

اسمه ومولده ونشأته:
هو الإمام العلامة شيخ الإسلام ملك العلماء الأعلام كمال الدين أبو المعالي محمد بن الأمير ناصر الدين محمد بن أبي بكر بن علي بن مسعود بن رضوان بن أبي شريف المقدسي المصري الشافعي.
ولد ببيت المقدس ليلة السبت خامس ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة (822هـ) الموافق 13 من ديسمبر عام 1419م.
نشأ -رحمه الله- بمدينة القدس في كنف أبيه وهو من أعيان المقادسة وعقلائهم، وكان جَدُّه لأمه قاضيَ القضاة في القدس العلامة شهاب الدين أبي العباس أحمد بن عَوَجان العميري (ت838هـ)، فدرج في عفةٍ وصيانةٍ وتقوى وديانة لم تعلم له صبوة ولا ارتكاب محظور، فحفظ القرآن الكريم وكثيرًا من المتون.

شيوخه:
بعد أن أتمَّ الكمال قراءة القرآن الكريم وحفظه، حفظ وقرأ حرز الأماني (الشاطبية) في القراءات والمنهاج في الفقه الشافعي، ثم حفظ ألفية بن مالك وألفية الحديث لزين الدين العراقي وأخذ على جملة وافرة من الشيوخ نذكر منهم:
1- الإمام المحدث المسنِد زين الدين أبو زيد - وأبو هريرة عبد الرحمن بن سراج الدين أبي حفص عمر بن نجم الدين عبد الرحمن بن حسن اللخمي المصري الحموي الأصل القِبابي-نسبة لقِباب حماة- ثم المقدسي الحنبلي، ولد في شهر شعبان سنة (749هـ) ببيت المقدس، وتوفي بها في شهر ربيع الثاني سنة (838هـ) ودفن بمقبرة باب الرحمة. أجاز له الإمام التاج السبكي، وأجاز هو للإمام الكمال بن أبي شريف.
2- الإمام المحدث المسنِد شمس الدين أبو عبد الله محمد بن بهاء الدين
أبي الحياة الخضر بن علم الدين سليمان بن داود، الشهير بابن المصري، الحلبي الأصل ثم المصري الشافعي، نزيل القدس الشريف، ولد بحلب في سنة (768هـ)، وتوفي بالقدس الشريف في رجب سنة (841هـ) سمع عليه شيخ الإسلام الكمال بالقدس الشريف سنن ابن ماجه والأربعين العشاريات له.
3- قاضي القضاة الإمام العلامة محب الدين أبو الفضل أحمد بن جلال الدين أبي الفتح نصر الله بن أحمد بن محمد التستري الأصل، البغدادي المولد ثم القاهري الحنبلي، شيخ المذهب الحنبلي ومفتيه، ولد في شهر رجب سنة (765هـ) ببغداد، وتوفي في شهر جمادى الآخرة سنة (844هـ) بالقاهرة. عرض عليه الإمام الكمال بعض محفوظاته كالشاطبية والمنهاج للإمام النووي وأجازه.
4- الإمام العلامة المحدث الصوفي القدوة شهاب الدين أبو العباس أحمد بن حسين بن حسن بن علي بن أرسلان -وقد تحذف الهمزة- الرملي الشافعي، نزيل بيت المقدس، ولد سنة (773هـ) أو (775هـ) بالرملة، وتوفي في شهر شعبان سنة (844هـ) ببيت المقدس، وصلي عليه بالجامع الأزهر وغيره صلاة الغائب، أخذ عنه الإمام الكمال تفسير الإمام ابن عطية الأندلسي وغيره.
5- المسند العلامة زين الدين أبو ذر عبد الرحمن بن شمس الدين أبي عبد الله محمد بن جمال الدين عبد الله بن شمس الدين محمد الزركشي المصري الحنبلي، ولد في شهر رجب سنة (758هـ) بالقاهرة، وبها توفي في شهر صفر سنة (846هـ) وقد سمع عليه الإمام الكمال ختم صحيح مسلم بالقاهرة.
6- قاضي الأقاليم الإمام عز الدين أبو البركات عبد العزيز بن علاء الدين أبي الحسن علي بن أبي العز بن عبد العزيز بن عبد المحمود البكري التيمي القرشي البغدادي ثم المقدسي الحنبلي، ويعرف بالعز المقدسي البغدادي، ولد قُبيل سنة (770هـ) ببغداد، وتوفي بدمشق في مستهل شهر ذي الحجة سنة (846 هـ) أخذ عنه الإمام الكمال بالقدس الشريف.
7- قاضي القضاة الإمام المحقق شمس الدين أبو عبد الله محمد بن نور الدين علي بن محمد بن يعقوب القاياتي -نسبة لقايات بلد قرب الفيوم- ثم القاهري الشافعي، ولد سنة (785هـ) تقريبًا بالقايات، وتوفي بالقاهرة في شهر المحرم سنة (850 هـ) أخذ عنه الإمام الكمال في الأصلين والفقه وغيرها، ومدحه بقصيدة جيدة.
8- القاضي العلامة عز الدين عبد السلام بن داود بن عثمان بن عبد السلام بن عباس السلطي الأصل المقدسي الشافعي، ويعرف بالعز المقدسي، ولد سنة (771هـ) ببلدة قرب عجلون، ومات في شهر رمضان ببيت المقدس سنة (850هـ) أخذ عنه الإمام الكمال طائفة من مختصر ابن الحاجب الأصولي وغيره، وكان العز يعظمه جدًّا.
9- الإمام عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن إبراهيم بن محمد بن علي بن شرف بن مشرف المقدسي الشافعي، ويعرف بالعماد بن شرف، ولد سنة (782هـ) ببيت المقدس، وتوفي بها في شهر ربيع الآخر سنة (852هـ) وصلي عليه بالمسجد الأقصى، تفقه به الإمام الكمال وانتفع بملازمته في القدس الشريف.
10- شيخ الإسلام وعلم الحفاظ أمير المؤمنين في الحديث الإمام شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن أحمد الكناني العسقلاني المصري ثم القاهري الشافعي، ويعرف بابن حجر وهو لقب لبعض آبائه، ولد في شهر شعبان سنة (773هـ) بمصر القديمة، وتوفي في أواخر شهر ذي الحجة سنة (852هـ) ودفن بالقرافة، لازمه الإمام الكمال وانتفع به كثيرًا وبه تخرج في علم الحديث، وأخذ عنه «شرح نخبة الفكر» له وغيره من فنون الحديث، ولازمه في أشياء روايةً ودرايةً سماعًا وقراءةً، وكان الكمال معظمًا عند الحافظ ابن حجر كثيرًا، وكتب له إجازة وصفه فيها بالفاضل البارع الأوحد وقال: (إنه شارك في المباحث الدالة على الاستعداد، وتأهل لأن يفتي بما يعلمه ويتحققه مِن مذهب الإمام الشافعي مَنْ أراد، ويفيد في العلوم الحديثية ما يستفاد من المتن والإسناد، علمًا بأهليته لذلك، وتولجه في مضايق تلك المسالك).
11- قاضي القضاة بهاء الدين أبو البقاء محمد بن قاضي القضاة أبي الخير أحمد بن العلامة ضياء الدين محمد بن محمد بن سعيد القرشي العمري العدوي المكي الحنفي، الشهير بابن الضياء، ولد في شهر المحرم سنة (789هـ) بمكة المكرمة، وتوفي بها في شهر ذي القعدة سنة (854هـ) ودفن بالمعلاة، وسمع منه الإمام الكمال بمكة حين حج سنة (853هـ).
12- الإمام علاء الدين أبو الفتوح علي بن قطب الدين أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن علي القرشي القلقشندي الأصل القاهري الشافعي، وأمه من الأشراف، ولد في شهر ذي الحجة سنة (788هـ) بالقاهرة، وبها مات -رحمه الله- شهيدًا بعد تعلله بالإسهال أشهرًا في شهر المحرم سنة (856هـ) وصلي عليه بالأزهر الشريف، أخذ عنه الإمام الكمال بالقاهرة من أول شرح ألفية العراقي إلى «المعلل»، مع سماع قطعة من أول شرح المنهاج للإمام النووي في الفقه، وغير ذلك.
13- العلامة محيي الدين أبو المعالي محمد بن قاضي القضاة رضي الدين أبي حامد محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أحمد الأنصاري الخزرجي المدني الشافعي، ولد في شهر رمضان سنة (780هـ) بالمدينة المنورة، وتوفي بها في شهر شعبان سنة (856هـ) ودفن بالبقيع بعد الصلاة عليه بالروضة النبوية الشريفة، سمع منه الإمام الكمال بالمدينة المنورة في حجته.
14- الإمام العلامة سراج الدين بن مسافر بن زكريا بن يحيى بن إسلام بن يوسف القيصري الرومي ثم المقدسي الحنفي، ولد سنة (790هـ) أو بعدها بالروم، واستوطن القدس الشريف، وتوفي في سنة (856هـ) ودفن شرقي المسجد الأقصى -فك الله أسره من أيدي أعدائه- ولازمه الإمام الكمال في المنطق والمعاني والبيان وغيرها، وقال عنه: (إنه كان محرِّرًا لما يلقيه ويذاكر به، ناصحًا في تعليمه، علاَّمة في حل التراكيب المشكلة، ذا قوة في النظر).
15- الإمام العلامة المقرئ محب الدين أبو القاسم محمد بن شمس الدين محمد بن محمد بن علي بن محمد بن إبراهيم النويري الميموني القاهري المالكي، ويعرف بأبي القاسم النويري، ولد في شهر رجب سنة (801هـ) بقرية قرب القاهرة، وتوفي بمكة المكرمة في شهر جمادى الأولى سنة (857هـ) وصُلِّيَ عليه عند باب الكعبة ودفن بالمعلاة، لازمه الإمام الكمال بالقاهرة وأخذ عنه القراءات السبع ما عدا حمزة والكسائي، كما أخذ عنه علم الحديث والأصول والنحو والصرف والعروض والقافية والمنطق وغيرها من العلوم، وكان مما أخذه عنه: منظومتُه «المقدمات في النحو والصرف والعروض والقافية» وشَرْحُها له بعد كتابته له ما بين سماع وقراءة، وجميع «إيساغوجي» في المنطق، وجزء من «مختصر ابن الحاجب» في الأصول، و«ألفية العراقي»، ومن أول «شرح ألفية ابن مالك» لابن الناظم بدر الدين بن مالك.
16- العلامة شرف الدين أبو الفتح محمد بن قاضي القضاة زين الدين أبي بكر بن الحسين بن عمر بن محمد بن يونس القرشي العثماني المراغي المصري المدني، نزيل مكة المكرمة، ولد في سنة (775هـ) بالمدينة المنورة، وتوفي في شهر المحرم سنة (859هـ) بمكة المكرمة وصُلِّيَ عليه عند باب الكعبة ودفن بالمعلاة، سمع عليه الإمام الكمال بمكة المكرمة حين نزلها حاجًّا.
17- الإمام العلامة المحقق الصوفي الصالح كمال الدين محمد بن همام الدين عبد الواحد بن حميد الدين عبد الحميد بن سعد الدين مسعود السيواسي الأصل ثم القاهري الحنفي، ويعرف بالكمال بن الهمام، ولد سنة (790هـ) بالإسكندرية، وتوفي -رحمه الله- في شهر رمضان سنة (861هـ) ودفن بالقرافة في تربة الإمام ابن عطاء الله السكندري وكان -رحمه الله- يعظم صاحب الترجمة جدًّا، وقد أخذ عنه صاحب الترجمة طائفة من «مختصر ابن الحاجب» في الأصول.
18- الإمام العلامة القدوة زين الدين أبو الجود ماهر بن عبد الله بن نجم بن عوض بن نَصِير بن نَصَّار الأنصاري البلقسي الأصل، القاهري الشافعي، نزيل بيت المقدس، ولد سنة (779هـ) بقرية من أعمال القاهرة، وتوفي ببيت المقدس في شهر ربيع الآخر سنة (866هـ) ودفن شرقي المسجد الأقصى. تفقه به الإمام الكمال، وقرأ عليه «الفصول المهمة في الفرائض» و«الوسيلة في الحساب الهوائي» كلاهما للإمام شهاب الدين أحمد بن محمد بن الهائم بسماعه -أي: الزين ماهر- لهما بحثًا غير مرة على مؤلفهما وكان الإمام الزين ماهر يرشد الطلبة للقراءة على الشيخ الكمال تلميذه حين ترك هو الإقراء، وكذلك المستفتين.
19- قاضي القضاة الإمام العلامة سعد الدين أبو السعادات سعد بن قاضي القضاة شمس الدين محمد بن عبد الله بن سعد بن أبي بكر بن مُصْلِح النابلسي الأصل المقدسي الحنفي، نزيل القاهرة، ويعرف بابن الديري، ولد في شهر رجب سنة (768هـ) ببيت المقدس، وتوفي في شهر ربيع الآخر سنة (867هـ) بمصر القديمة حضر عليه الإمام الكمال بالقاهرة وعرض عليه بعض محفوظاته وأجازه.
20- العلامة الحافظ تقي الدين أبو الفضل محمد بن نجم الدين أبي نصر محمد بن جمال الدين أبي الخير محمد بن القاضي جمال الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن فهد الهاشمي العلوي المكي الشافعي، ولد -رحمه الله- في شهر ربيع الآخر سنة (787هـ) بالقرب من إسنا بصعيد مصر، وتوفي بمكة المكرمة في شهر ربيع الأنور سنة (871هـ) وصلي عليه عند باب الكعبة ودفن بالمعلاة، سمع عليه الإمام الكمال بمكة المكرمة في حجته.
21- الإمام المقرئ شمس الدين محمد بن موسى بن عمران بن موسى بن سليمان الغزي ثم المقدسي الحنفي، ويعرف بابن عمران، ولد في نصف شعبان سنة (794هـ) بغزة، وتوفي في شهر رمضان سنة (873هـ) ببيت المقدس، أخذ عنه الإمام الكمال، فقرأ عليه القراءات حين إقامته ببيت المقدس.

حياته وصفاته:
نشأ الإمام -رحمه الله- في عفة وصيانة، وتقوى وديانة لم يُعلم له صبوة، ولا ارتكاب محظور، ودرَّس وأفتى ونظم وأنشأ من سنة ست وأربعين وثمانمائة (846هـ). وتردد إلى القاهرة مرات، ودرَّس وأفتى وأشير إليه في حياة شيخه الزين ماهر، وكان يرشد الطلبة للقراءة عليه حين ترك هو الإقراء، وكان موصوفًا بالذِّهن الثاقب والحافظة الضابطة والقريحة الوقَّادة والفكر القويم والنظر المستقيم وسرعة الفهم وبديع الانتقال وكمال المروءة مع عقل وافر وأدب ظاهر وخفة روح وبرع في العلوم وعُرف بالذكاء وحسن التصور ولم يزل حاله في ازدياد، وعلمه في اجتهاد فصار نادرة وقته وأعجوبة زمانه، إمامًا في العلوم، محققًا لما ينقله وصار قدوة بيت المقدس ومفتيه، وعين أعيان المدرسين بالمدرسة الصلاحية، وطلبه السلطان بالقاهرة بسبب حادثة وقعت سنة (875هـ) فلما قدم إلى السلطان نزل عن سرير الملك، وتلقاه وأكرمه وأقره على وظيفة مشيخة المدرسة الصلاحية في القدس الشريف فتوقف في قبول ذلك، فألزمه السلطان وألبسه التشريف. فباشر التدريس فيها وتصدر للدرس والإقراء والإفتاء في بيت المقدس وعمَّر تلك المدرسة هي وأوقافها التي أوقفت عليها، وشدَّد على الفقهاء وحثهم على الاشتغال، وعمل بها الدروس العظيمة فكان يدرس فيها أربعة أيام في الأسبوع: فقهًا وتفسيرًا وأصولا وخلافًا. وأملى بها مجالس من الأحاديث الواقعة في مختصر المزني واستمر بها أكثر من سنتين.

ثم توجه الشيخ سنة (881هـ) إلى القاهرة واستوطنها، وتردد إليه الطلبة والفضلاء، واشتغلوا عليه في العلوم وانتفعوا به، وعظمت هيبته، ودرَّس الفقه بالمؤيدية والحديث بالكاملية، وارتفعت كلمته عند السلطان وأركان الدولة.

وفي شوال سنة (888هـ) حضر إلى القدس الشريف زائرًا، ثم عاد إلى القاهرة في جمادى الآخرة سنة (889هـ).
ثم لما تم هدم المدرسة الأشرفية القديمة وبناء المدرسة الجديدة المنسوبة للسلطان الأشرف قايتباي وانتهت عمارتها، وقدَّر الله تعالى وفاة الشيخ شهاب الدين العميري، صدر أمر السلطان بتولية شيخ الإسلام الكمال بن أبي شريف فيها، وألبسه الخلعة السنية ثم حضر إلى القدس الشريف سنة (890هـ) وباشر وظيفته فحصل لتلك المدرسة الجمال والهيبة والوقار بقدومه وانتظم أمر الفقهاء وحكام الشريعة المطهرة بوجوده وبركة علومه وازداد شأنه عظمًا، وعلت كلمته، ونفذت أوامره عند السلطان فمن دونه، ورفعت إليه التقارير السلطانية بما يحدث من الوقائع والنظر في أحوال الرعية، وكان ينعت فيها بلقب «الجناب العالي، شيخ الإسلام» ووقع له ما لم يقع لغيره ممن تقدمه من العلماء والأكابر وبقي صدر المجالس وطراز المحافل، المرجع في القول إليه، والتعويل في الأمور كلها عليه، وقلده أهل المذاهب كلها، وقبلت فتواه على مذهبه، ومذهب غيره، ووردت الفتاوى إليه من مصر والشام وحلب وغيرها وذاع صيته، وانتشرت مصنفاته في سائر الأقطار، وصار حجة بين الأنام في سائر ممالك الإسلام.

ومن أعظم محاسنه التي شكرت له في الدنيا ويرفع الله بها درجاته في الآخرة، ما فعله في القبة المستجدة عند دير صهيون وقيامه في هدمها بعد أن كانت كنيسة محدثة في دار الإسلام في بيت المقدس، وقيامه من منع النصارى من انتزاع القبو المجاور لدير صهيون، المشهور أن به قبر سيدنا داود -عليه السلام- بعد بقائه في أيدي المسلمين مدة طويلة، وبنى قبلة فيه، لجهة الكعبة المشرفة، وغير ذلك من الوقائع المشهودة، وكان يقوم على حكام الشرطة ويمنعهم من الظلم ويواجههم بالكلام الزاجر لهم.

وفي شهر شوال سنة (900هـ) عيِّن متكلمًا على الخانقاه الصلاحية بالقدس الشريف وناظرًا في أمرها ومصالحها، فحضر إليها مباشرة وشرع في عمارتها وإصلاح ما اختل من نظامها، وحصل لها ولأهلها الخير بحضوره.

ثم أضيف إليه أمر التدريس والنظر على المدرسة الجوهرية وغيرها لما هو معلوم من ديانته وورعه، واجتهاده في فعل الخيرات وإزالة المنكرات.

وكان -رحمه الله- جميل السمت عظيم الهيبة، مليء بالأبهة والنورانية، رؤيته تذكر بالسلف الصالح، ومن رآه أدرك أنه من العلماء العاملين، برؤية شكله، وإن لم يكن يعرفه، وأما خطه وعبارته في الفتوى فنهاية في الحسن وبالجملة فمحاسنه ومناقبه أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر. وذكر مشايخه يحتمل الإفراد بالتأليف كما يقول تلميذه النجمي.

وكان الشيخ -رحمه الله- واسع الصدر حليمًا، فقد كتب أحد تلاميذه على هوامش نسخته من حاشيته على شرح المحلي أنظارًا أوردها عليه، فلمَّا دفعها إليه ليكتب له عليها الإجازة تذكرها، فتكدر حياءً من شيخه، فاتفق أن شيخ الإسلام اطَّلع عليها وردَّها عن آخرها، وأجاز من غير اكتراث ولا تغير عليه، وهذه منقبة عظيمة له رحمه الله.

وكان الشيخ -رحمه الله- محبًّا لأولياء الله، حتى قال الإمام الرباني سيدي أبو العون محمد الجلجولي المغربي (ت:910هـ) لما سئل عنه: قد رأينا مكتوبًا على ساق العرش: محمد بن أبي شريف من المحبين لأولياء الله تعالى.
وكان يجيد نظم الشعر، ومن إنشاده في بيت المقدس بعد غيبته عنه مدة طويلة:

أحيي بقاع القدس ما هبت الصبا  فتلك رباع الأنس في زمن الصِّبا
وما زلت من شوقي إليها مواصلا سلامي على تلك المعاهد والرَّبا

واشتهر من شعره في المواضع التي تباح فيها الغيبة:

القدح ليس بغيبة في ست متظلم ومعرِّف ومحذِّر
ولمظهر فسقًا ومستفت ومن طلب الإعانة في إزالة منكر

مؤلفاته:
1- إتحاف الأَخِصَّا بفضائل المسجد الأقصى. وقد ألفه في مجاورته بالقدس الشريف سنة (875هـ)، ورتَّبه على سبعة عشر بابًا، معتمدًا في نقله على كتاب «الروض المَغْرِس في فضل بيت المقدس» للشيخ تاج الدين أبي النصر عبد الوهاب الحسني الدمشقي الشافعي كما ذكر هو فيه. وهذا الكتاب منه نسخة مخطوطة في خزائن كتب الأوقاف العراقية.
2- الإسعاد بشرح الإرشاد. وهو شرح لكتاب «الإرشاد» في فروع الشافعية للإمام شرف الدين إسماعيل بن أبي بكر بن المُقْرِي اليمني الشافعي (ت:836هـ) الذي هو في الأصل اختصار «الحاوي الصغير» للإمام نجم الدين القزويني الشافعي (ت665هـ)، وهذا الشرح قد تداوله أهل العلم في حياة مصنفه، ومنه عدة نسخ مخطوطة بالمكتبة الأزهرية.
3- التاج والإكليل على أنوار التنزيل. وهي حاشية على تفسير الإمام البيضاوي (ت:685هـ) لم تكتمل. ومنها نسخة بالخزانة التيمورية.
4- تفسير آية: { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ..} (البقرة: 257).
5- تفسير آيتين من آخر سورة البقرة { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ... إلى آخر السورة}[البقرة: 284، 285]. ألفه سنة 881هـ، وأوله: (الحمد لله الذي رسم بالإمكان كل موجود). وله نسخة مخطوطة بالخزانة التيمورية.
6- تفسير سورة الفلق.
7- حاشية على نزهة النظر شرح نخبة الفكر. لشيخه إمام الحفاظ شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني. وقد علق بعضها حين قراءته للشرح عليه وبعضها الآخر حين إقرائه هو هذا الشرح، كما ذكر في مُسْتَهَلِّها. وهي مطبوعة بتحقيق: د. إبراهيم الناصر، ونشرتها دار الوطن بالرياض سنة 1420هـ/ 1999م.
8- الدرر اللوامع بتحرير شرح جمع الجوامع. وقد طبعت طبعة حجرية بالخط المغربي في جزأين وبهامشها شرح الجلال المحلي وذلك بفاس بالمغرب في شهر صفر سنة (1312هـ) بتصحيح الشيخ محمد بن قاسم القادري وبعض تلامذته.
9- الدرر المشرقات في نظم الورقات، لإمام الحرمين (ت: 478هـ). منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية.
10- رسالة في الطاعون.
11- شرح صفوة الزبد. وهو نظم في الفقه الشافعي لشيخه الإمام شهاب الدين أحمد بن رسلان الرملي.
12- شرح على كتاب «الشفا بتعريف حقوق سيدنا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم» للقاضي الإمام أبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي (ت: 544هـ)، ولم يكتمل.
13- شرح على مختصر التنبيه لابن النقيب، ولم يكتمل.
14- شرح «الفصول المهمة في الفرائض» للإمام شهاب الدين بن الهائم (ت: 815هـ).
15- صوب الغمامة في إرسال طرف العمامة، ويُسمى أيضًا: رسالة العذبة. وأوله: (الحمد لله الذي منح خلاصة خلقه..) وله نسخة خطية في تشستربتي بأيرلندا.
16- الفتاوى.
17- الفرائد في حل شرح العقائد. وهو شرح على «العقائد النسفية» للإمام نجم الدين النسفي الحنفي (ت: 739هـ) وهو متن متين في علم الكلام، شَرَحه العلامة التفتازاني (ت: 792هـ)، وكتاب «الفرائد» حاشية على هذا الشرح، وهي حاشية كبيرة. وقد أنجزها شيخ الإسلام تسويدًا سنة (889هـ) بمنزله بالقاهرة، ولها نسخة خطية بخط مؤلفها ذكر العلامة الزركلي أنه رآها في خزانة الليثي بمركز الصف بمصر. كما أن منها نُسَخًا خطية كثيرة بالمكتبة الأزهرية وغيرها.
18- فَيْضُ الكَرَم على عُبَيْد القوم في نظم الحكم. وهي الحكم العطائية للإمام أبي الفضل أحمد بن عطاء الله السكندري (ت: 709هـ) في علم التصوف والسلوك.
19- قطعة على شرح المنهاج.
20- قطعة على صحيح البخاري.
21- المسامرة بشرح المسايرة. وهو شرح ممزوج لكتاب «المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة» في علم الكلام لشيخه العلامة الكمال بن الهمام، والكتاب مشهور بشرحه حتى سميت المسامرة بـ «ذات الكمالَيْن»، وقد اعتنى به العلماء بالشرح والتدريس وكان من جملة الكتب التي تدرس في الأزهر فترة طويلة، وهو من أدلة التكامل العلمي المثمر، فالمسايرة متن ماتريدي ناظمه حنفي والشارح له أشعري شافعي، وقد طبع بالمطبعة الكبرى الأميرية ببولاق سنة 1317هـ مع شرح العلامة قاسم بن قطلوبُغا الحنفي (ت: 879هـ)، ثم تكرر طبعه.
22- المسلسلات.

تلاميذه:
كان الإمام الكمال بن أبي شريف شيخًا لكثرة كاثرة من الشيوخ من بلاد كثيرة ولذا لم يشتغل من ترجم له بإحصائهم لكثرتهم، ولكن نذكر منهم:
1- شيخ الإسلام الإمام العلامة برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن أبي بكر بن علي بن مسعود بن رضوان بن أبي شريف المقدسي ثم القاهري الشافعي، أخو شيخ الإسلام الكمال، ولد في شهر ذي القعدة سنة (836هـ) ببيت المقدس، وتوفي بالقاهرة في شهر المحرم سنة (923هـ) ودفن بالقرب من الإمام الشافعي. كان جل انتفاعه -رحمه الله- في العلوم بأخيه شيخ الإسلام الكمال، وقد ذكر الإمام الكمال في حاشيته على جمع الجوامع أن أخاه قرأ عليه في شرح المحلي على جمع الجوامع.
2- القاضي الإمام شهاب الدين أبو العباس أحمد بن برهان الدين أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن الأنصاري الخليلي الشافعي، ولد في شهر رمضان سنة (846هـ)، وتوفي في حدود سنة (901هـ) بالقدس الشريف. اشتغل بالعلم على والده وشيخ الإسلام الكمال بن أبي شريف.
3- الإمام أحمد بن إبراهيم بن عماد الدين محمد التميمي الخليلي الشافعي، ويعرف بابن العماد. أخذ عن شيخ الإسلام الكمال بالقدس الشريف.
4- الإمام شهاب الدين أحمد بن علي بن أحمد بن يوسف بن أبي الحسن المنزلي ثم القاهري الأزهري الشافعي، ويعرف بابن القطان، ولد في شهر ذي الحجة سنة (852هـ) بالمنزلة، أخذ عن شيخ الإسلام الكمال بالقدس الشريف.
5- الإمام شهاب الدين أحمد بن محمد بن علي الفِيشي الأزهري المالكي، ولد سنة (844هـ) تقريبًا بفِيشا الصغرى وأخذ عن شيخ الإسلام الكمال في الأصول.
6- الشيخ عز الدين أحمد بن قاضي نابلس محمد بن محمد بن عبد القاهر الجعفري الحنبلي، أحد العدول بدمشق، ولد سنة (864هـ)، وتوفي في شهر ربيع الآخر سنة (940هـ).
7- الإمام عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عماد الدين أبي الجود إسماعيل بن أنيس الدين محمد الأنصاري النابلسي ثم الدمشقي الشافعي، ويعرف بابن العماد، ولد في شهر رمضان سنة (826هـ) بقرية من أعمال نابلس. قرأ على شيخ الإسلام الكمال شرح العقائد النسفية للعلامة التفتازاني.
8- شيخ الإسلام الإمام بدر الدين حسن بن علي بن يوسف بن المختار الإربلي الأصل الحصكفي الحلبي الشافعي، الشهير بابن السيوفي، خاتمة علماء الشافعية بحلب، ولد سنة (851هـ) بحلب، وتوفي بها في شهر ربيع الأنور سنة (925هـ). أخذ بالقدس عن شيخ الإسلام الكمال بعض «الحاوي»، وقرأ عليه أيضًا حاشيته على شرح العقائد «الفرائد في حل شرح العقائد»، وشيئًا من شرحه على «المسايرة» للإمام الكمال بن الهمام، وشيئًا من حاشيته على شرح المحلي لجمع الجوامع.
9- الإمام المحدث غرس الدين أبو سعيد خليل بن الشيخ زين الدين أبي المفاخر بن العلامة سراج الدين عمر بن محمد الجعبري الأصل الخليلي الشافعي، ولد في شهر المحرم سنة (869هـ) بالقدس الشريف، وتوفي سنة (906هـ). اشتغل -رحمه الله- بالعلم على جماعة منهم شيخ الإسلام الكمال بن أبى شريف.
10- شيخ الإسلام الإمام العلامة شرف الدين أبو الفضائل عبد الحق بن شمس الدين محمد بن عبد الحق بن أحمد بن محمد بن محمد بن محمد السنباطي ثم القاهري الشافعي، ولد سنة (842هـ) بسُنْباط -وهي بلدة بالغربية بمركز زفتا-، وتوفي في ليلة الجمعة غرة شهر رمضان سنة (931هـ) بمكة المكرمة، وصلي عليه عند باب الكعبة ودفن بالمعلاة وهو يروي عن شيخ الإسلام الكمال مصنفاته.
11- الإمام القاضي مجير الدين أبو اليمن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد العُلَيْمي العُمَري -ينتهي نسبه إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه- المقدسي الحنبلي، ولد سنة (860هـ) بالقدس الشريف، وتوفي سنة (928هـ) ذكر -رحمه الله- أنه أخذ عن شيخ الإسلام الكمال، وعرض عليه قطعة من كتاب «المقنع» للإمام ابن قدامة المقدسي في الفقه الحنبلي، وأجازه الإمام الكمال في سنة (873هـ)، وحضر كثيرًا من مجالسه بالمدرسة الصلاحية وبالمسجد الأقصى، وحصل منه الإجازة غير مرة خاصة وعامة وقد ترجم لشيخه الكمال ترجمة حافلة ختم بها كتابه «الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل» والذي قرظه له شيخ الإسلام الكمال في آخره.
12- الإمام زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن محمد بن يوسف بن عبد الله الكُلَّسِي الأصل-نسبة إلى كُلَّس قرية من أعمال حلب- الحلبي الحنفي، ولد بعد سنة (860هـ)، وتوفي سنة (930هـ) أجاز له شيخ الإسلام الكمال بن أبي شريف في سنة (905هـ) أن يروي عنه سائر مصنفاته ومروياته.
13- الإمام زين الدين عبد الغفار بن أبي بكر بن محمد بن عبد الله القاهري الأزهري الشافعي الضرير، ولد سنة 860هـ تقريبًا. أخذ عن شيخ الإسلام الكمال غالب شرح ابن المصنف، وقطعة من حاشيته على شرح الإمام المحلي على جمع الجوامع مع الأصل، وشيئًا من تفسير البيضاوي، ودروسًا من شرحه للإرشاد، وغير ذلك، كالكثير من متن ألفية الحافظ العراقي، وسمع عليه سنن ابن ماجه.
14- الإمام محيي الدين عبد القادر بن أبي بكر بن سعيد الشافعي، المشهور بابن سعيد، توفي سنة (934هـ) بحلب، أخذ عن شيخ الإسلام الكمال ببيت المقدس.
15- الشيخ الإمام العارف محيي الدين عبد القادر بن عبد العزيز بن جماعة المقدسي الشافعي القادري، خطيب المسجد الأقصى، توفي سنة (931هـ).
16- الإمام محيي الدين عبد القادر بن شمس الدين محمد بن فخر الدين عثمان بن علي المارديني الأصل الحلبي الشافعي، ويعرف بابن الأَبَّار، ولد في شهر ربيع الآخر سنة (843هـ) بحلب. دخل بيت المقدس وقرأ على شيخ الإسلام الكمال دروسًا من شرحه للإرشاد وكَتبَ عنه غالِبَه.
17- الشيخ زين الدين عبد القادر الديمي ثم الأزهري. أخذ «المنهاج» الأصولي، و«شرح جمع الجوامع» للإمام المحلي عن شيخ الإسلام الكمال قراءةً وسماعًا بالتلفيق في سنين، وأذن له في إقرائهما.
18- الإمام العلامة علاء الدين أبو الفضل علي بن محمد بن علي بن أبي اللطف المقدسي الشافعي، ولد ببيت المقدس في شهر جمادى الأولى سنة (856هـ)، وتوفي بدمشق في شهر صفر سنة (934هـ). تفقه -رحمه الله- على شيخ الإسلام الكمال في بيت المقدس.
19- الشيخ العالم الصالح شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ بدر الدين حسن بن محمد بن أبي بكر البابي المولد -نسبة إلى الباب وهي بُلَيدة من أعمال حلب- الحلبي المنشأ الشافعي، المعروف بابن البيلوني، توفي بحلب في شهر ذي القعدة سنة (919هـ). أجازه شيخا الإسلام الكمال والبرهان ابنا أبي شريف وذلك عند اجتماعه بهما وقراءته عليهما.
20- الإمام العلامة شمس الدين محمد بن شعبان بن أبي بكر بن خلف بن موسى الضيروطي المصري الشافعي، المشهور بابن عروس، ولد سنة (870هـ) بسنديون تجاه ضيروط، وتوفي بالقاهرة في شهر شوال سنة (949هـ). قرأ على العلامة ابن أبي شريف جميع شرح جمع الجوامع للإمام المحلي مع حاشيته لصاحب الترجمة، وأجاز له تدريس العلوم المتعارَفة.
21- الشيخ العلامة شمس الدين أبو الفضل محمد بن عبد القادر النجار المقدسي الشافعي، ولد في حدود سنة (840هـ) بالقدس الشريف، وكان يُدرِّس في المسجد الأقصى، وتوفي في النصف من شهر شعبان سنة (887هـ). تفقه على شيخ الإسلام الكمال بن أبي شريف.
22- الإمام بدر الدين محمد بن علي بن أحمد بن سالم بن سليمان الجناجي-نسبة لَجَنَاج من قرى الغربية- ثم القاهري الأزهري المالكي، ولد في سنة (860هـ) أو بعدها. سمع على شيخ الإسلام الكمال في صحيح الإمام مسلم.
23- الشيخ العلامة شمس الدين محمد بن زين الدين عمر بن الشيخ شهاب الدين أحمد السفيري الحلبي الشافعي، ولد بحلب سنة (877هـ)، وتوفي سنة (956هـ). قرأ على شيخ الإسلام الكمال في حاشيته على شرح العقائد النسفية، ورسالة «العذبة» له، وهي «صوب الغمامة في إرسال طرف العمامة».

وفاته:
توفي شيخ الإسلام الكمال بن أبي شريف في يوم الخميس الخامس والعشرين من جمادى الأولى عام ست وتسعمائة (906هـ). عن أخويه شيخ الإسلام البرهان، وكان حينئذٍ بمصر، والعلاَّمة جلال الدين، وكان عنده بالقدس، عن دنيا طائلة -رحمه الله- تعالى.

مصادر الترجمة:
1- الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل (2/ 377-382).
2- الضوء اللامع (9/ 64-67).
3- البدر الطالع (2/ 243،244).
4- الكواكب السائرة (1/11-13).
5- شذرات الذهب (8/ 29،30).
6- معجم المؤلفين (11/ 200،201).
7- معجم المطبوعات (2/ 1568).

نسبه:
هو إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيويه الجويني، الفقيه الشافعي.

مولده ونشأته:
ولد أبو المعالي في 18 من شهر المحرم سنة 417 هـ، والجُوَيْنِيُّ هذه نسبة إلى (جوين) قرى من رستاق (مقاطعة) نيسابور، تفقه في صباه على والده الإمام أبي محمد الجويني، وقرأ عليه جميع مصنفاته، وأُقرئ الأدب حتى أحكمه، وكان والده يعجب بطبعه وتحصيله وجودة قريحته وما يظهر عليه من مخايل الإقبال، فأتى على جميع مصنفات والده وتصرف فيها، حتى زاد عليه في التحقيق والتدقيق، وهو يجد ويجتهد في الاشتغال والتحصيل، ولما توفي والده - ولما يبلغ أبو المعالي عشرين سنة - قعد مكانه للتدريس، وكان إذا فرغ منه مضى إلى الأستاذ أبي القاسم الإسكافي الإسفراييني بمدرسة البيهقي يدرس عليه حتى أحكم علم الأصول على يديه، وكان ينفق من ميراثه ومن معلوم له، إلى أن ظهر التعصب واضطربت الأحوال، فاضطر إلى السفر عن نيسابور، فذهب إلى المعسكر، ثم سافر إلى بغداد، وصحب الوزير أبا نصر الكندري مدة يطوف معه، ويلتقي في حضرته بكبار العلماء، ويناظرهم، فتحنك بهم، وتهذب، وشاع ذكره، ثم خرج إلى الحجاز وجاور بمكة أربع سنين، وبالمدينة، يدرس ويفتي ويجمع طرق المذهب، فلهذا قيل له إمام الحرمين، إلى أن رجع إلى بلده بعد مضي نوبة التعصب، في أوائل ولاية السلطان ألب أرسلان السلجوقي، والوزير يومئذ نظام الملك، فبنى له المدرسة النظامية بمدينة نيسابور، فدرس بها، واستقام الأمر، وبقي على ذلك ثلاثين سنة غير مزاحم ولا مدافع، مسلما له المحراب والمنبر والخطبة والتدريس، ومجلس الوعظ يوم الجمعة، وظهرت تصانيفه، وحضر درسه الأكابر والجمع العظيم من الطلبة، كان يقعد بين يديه نحو من ثلاثمائة، وتفقه به أئمة، وانتهت إليه رياسة الأصحاب، وفوض إليه أمور الأوقاف، وكانت إليه الرحلة لطلب العلم من خراسان والعراق والحجاز.

شيوخه:
قرأ أبو المعالي الجويني الأصول على أبي القاسم الإسكافي الإسفراييني، وسمع الحديث في صباه من أبيه، وأبي حسان محمد بن أحمد بن جعفر المزكي، وأبي سعد عبد الرحمن بن حمدان النصروي، وأبي الحسن علي بن محمد الطرازي، وأبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن يحيى المزكي، وأبي سعد عبد الرحمن بن الحسن بن عليك، وأبي عبد الرحمن محمد بن عبد العزيز النيلي، وأبي سعد محمد بن علي بن محمد بن حبيب الصفار، وأبي نصر منصور بن رامش، وأبي سعد فضل الله بن أبي الخير الميهني، وسمع ببغداد أبا محمد الحسن بن علي الجوهري وحدث باليسير.

تلاميذه:
تتلمذ على يد الجويني عدد ممن صاروا فيما بعد من أكابر العلماء، مثل: حجة الإسلام الغزالي، والكيا الهراسي، والخَوافي، والباخرزي، وعبد الغافر الفارسي، والإمام أبو نصر، وعبد الرحيم بن الإمام عبد الكريم القشيري، وهاشم بن علي بن إسحق بن القاسم الأبيوردي، وغانم الموشيلي، وعبد الكريم بن محمد الدامغاني، وعبد الجبار بن محمد بن أبي صالح المؤذن، وأبو المظفر الأبيوردي، وأبو الفضل الماهياني، وسعد بن عبد الرحمن الأسترابادي.
روى عنه: أبو عبد الله الفراوي، وزاهر بن طاهر الشحامي، وأحمد بن سهل المسجدي، وإسماعيل بن أبي صالح المؤذن، وآخرون.

مصنفاته:
صنف كتبا كثيرة جليلة في الفقه والأصول وعلم الكلام والسياسة الشرعية والجدال، وله في الفقه:
1- نهاية المطلب في دراية المذهب، وهو كتاب كبير مهم يبلغ نحو 20 جزءًا.
2- مختصر النهاية.
3- مختصر التقريب.
4- الرسالة النظامية في الأركان الإسلامية.
وفي أصول الفقه:
5- البرهان.
6- الورقات.
7- الغنية.
8- التحفة.
وفي الجدال:
9- العمد.
10- الدرة المضية فيما وقع من الخلاف بين الشافعية والحنفية.
11- الكافية في الجدل.
12- الأساليب في الخلاف.
وفي علم الكلام:
13- الشامل.
14- الإرشاد.
15- اللمع.
16- شفاء الغليل.
17- العقيدة النظامية.
18- قصيدة على غرار قصيدة ابن سينا في النفس.
وفي السياسة الشرعية:
19- غياث الأمم في التياث الظلم.

مناقبه:
كان الإمام الجويني يقول عن نفسه: قرأت خمسين ألفا في خمسين ألفا (يعنى كتابا ولعله يقصد قراءة 100 ألف كتاب)، ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام عنه، كل ذلك في طلب الحق، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن فقد رجعت إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطيف بره، فأموت على دين العجائز، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل على كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، فالويل لابن الجويني.

وكان إذا شرع في علوم الصوفية وشرح الأحوال أبكى الحاضرين، ولم يزل على طريقة حميدة مرضية من أول عمره إلى آخره.
وقال أبو إسحاق الفيروز آبادي: تمتعوا بهذا الإمام، فإنه نزهة هذا الزمان.

وقال أبو نصر بن هارون: حضرت مع شيخ الإسلام إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني بعض المحافل فتكلم إمام الحرمين أبو المعالي في مسألة فأجاد الكلام كما يليق بمثله، فلما انصرفنا مع شيخ الإسلام سمعته يقول: صرف الله المكاره عن هذا الإمام فهو اليوم قرة عين الإسلام والذاب عنه بحسن الكلام.

ونسب إلى أبي المعالي ميل إلى الاعتزال ظهر في بعض آرائه، لكنه رجع عنها، قال الفقيه غانم الموشيلي: سمعت الإمام أبا المعالي يقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما اشتغلت بالكلام.

وفاته:
لما مرض الجويني في آخر حياته، حُمِلَ إلى قرية من أعمال نيسابور، يقال لها بشتنقان موصوفة باعتدال الهواء وخفة الماء، فمات بها، ليلة الأربعاء بعد صلاة العشاء 25 من شهر ربيع الآخر سنة 478 هـ، ونقل إلى نيسابور تلك الليلة ودفن من الغد في داره، ثم نقل بعد سنين إلى مقبرة الحسين فدفن بجنب أبيه - رحمهما الله تعالى - وصلى عليه ولده أبو القاسم، فأغلقت الأسواق يوم موته وكسر منبره في الجامع المنيعي، وقعد الناس للعزاء أياما، وأكثروا فيه المراثي.
ومما رثي به:

قلوب العالمين على المقالي ... وأيـــام الـــــورى شــبـــه اللـيـالـي
أيثمر غصــن أهل العلم يومًا ... وقد مات الإمام أبو المعالي

المصادر:
تاريخ بغداد للخطيب البغدادي وذيوله: 16/43، ط دار الكتب العلمية.
المنتخب من كتاب السياق لتاريخ نيسابور لتقي الدين الصريفيني الحنبلي: 360، ط دار الفكر.
وفيات الأعيان لابن خلكان: 3/167، ط دار صادر.
سير أعلام النبلاء للذهبي:14/17، ط دار الحديث.
مقدمة تحقيق أ. د/ عبد العظيم الديب لكتاب نهاية المطلب في دراية المذهب لأبي المعالي الجويني: ص 183 وما بعدها، ط دار المنهاج.
 


نسبه:
هو شمس الدين أبو عبد الله محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج المقدسي ثم الصالحي الراميني الشيخ الإمام العالم العلامة أقضى القضاة.

مولده ونشأته:
ولد ابن مفلح سنة 708 هـ، ونشأ في بيت المقدس، وتفقَّه حتى برع في الفقه، ودَرَّسَ وأفتى وناظَر وصنَّف وحدَّث وأفاد، وناب في القضاء عن قاضي القضاة جمال الدين المرداوي، وتزوج ابنته، وأنجب منها سبعة، أربعة ذكور وثلاث إناث، وكان أعلم أهل عصره بمذهب الإمام أحمد بن حنبل، وأحد الأئمة الأعلام.

شيوخه:
لازم ابنُ مفلح القاضي شمسَ الدين ابن مسلم، وقرأ على على القاضي برهان الدين الزُّرعي، وابن تيمية، وجمال الدين المرداوي، وسمع من عيسى المطعِّم، ومن الحجار وطبقته، وكان يتردد إلى ابن الفويرة والقحفاري النحويين، وإلى المزي والذهبي، ونقل عنهما كثيرًا، وكانا يعظمانه، وكذلك الشيخ تقي الدين السبكي يثنى عليه كثيرًا.

أقوال العلماء فيه:
قال عنه أبو البقاء السبكي: ما رأت عيناي أحدا أفقه منه.
وقال ابن سند: كان ذا حظ من زهد، وتعفف، وصيانة، وورع ثخين، ودين متين، وشكرت سيرته وأحكامه.
وذكره الذهبي في المعجم فقال: شاب ديِّن عالم له عمل ونظر في رجال السنن، نَاظَرَ وسمع وكتب وتقدم.
وذكر قاضي القضاة جمال الدين المرداوي أن ابن مفلح قرأ عليه (المقنع) وغيره من الكتب في علوم شتى، قال: ولم أعلم أن أحدًا في زماننا في المذاهب الأربعة له محفوظات أكثر منه، فمن محفوظاته (المنتقى في الأحكام) قرأه وعرضه عليَّ في قريب من أربعة أشهر، وقد درس بالصاحبة، ومدرسة الشيخ أبي عمر، والسلامية، وأعاد بالصدرية، ومدرسة دار الحديث العادلية.
وقال ابن القيم لقاضي القضاة موفق الدين الحجاوي: ما تحت قبة الفلك أعلم بمذهب الإمام أحمد من ابن مفلح.
وحضر ابن مفلح عند ابن تيمية، ونقل عنه كثيرًا، وكان يقول له: "ما أنت ابن مفلح، أنت مفلح"، وكان ابن مفلح أخبر الناس بمسائله واختياراته، حتى إن ابن القيم كان يراجعه في ذلك.
قال ابن كثير: وكان بارعا فاضلا متفننا ولا سيما في علم الفروع، وكان غاية في نقل مذهب الإمام أحمد.

مصنفاته:
1- كتاب الفروع، وقد اشتهر في الآفاق وهو من أجَلِّ الكتب وأنْفَسِها وأجْمَعِها للفوائد.
2- حاشية على المقنع.
3- النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر لابن تيمية.
4- كتاب في أصول الفقه، وهو كتاب جليل، حذا فيه حذو ابن الحاجب في مختصره ولكن فيه من النقول والفوائد ما لا يوجد في غيره، وليس للحنابلة أحسن منه.
5- الآداب الشرعية.

وفاته:
توفي – رحمه الله - ليلة الخميس 2 رجب سنة 763 هـ، وصلي عليه يوم الخميس بعد الظهر بالجامع المظفري، وكانت جنازته حافلة حضرها القضاة والأعيان، ودفن بسفح قاسيون بصالحية دمشق.

المصادر:
المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد لأبي إسحق بن مفلح: 2/517، ط مكتبة الرشد ـ الرياض.
الأعلام للزركلي: 7/107، ط دار العلم للملايين.
السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة لابن حُمَيْد النجدي: 452، ط مكتبة الإمام أحمد.
 


نسبه:
هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد، الملقب بابن رشد الجد تمييزًا عن الفيلسوف والفقيه والقاضي أيضًا ابن رشد الحفيد، حفيده الذي يشترك مع جده في الكنية (أبو الوليد) والاسم (محمد بن أحمد) وفي العمل (تولى قضاء الأندلس)، وسنقتصر في هذه المساحة على الحديث عن الجد فقط.

مولده ونشأته:
ولد ابن رشد بقرطبة في شوال سنة 450 هـ.

أقوال العلماء وثناؤهم عليه:
يصفه القاضي عياض بأنه: زعيم فقهاء وقته بأقطار الأندلس والمغرب ومقدمهم المعترف له بصحة النظر وجودة التأليف ودقة الفقه، وكان إليه المفزع في المشكلات، بصيرًا بالأصول والفروع والفرائض والتفنن في العلوم، وكانت الدراية أغلب عليه من الرواية، كثير التصنيف مطبوعه، وكان مطبوعًا في هذا الباب حسن القلم والرواية، حسن الدين كثير الحياء قليل الكلام، مقدمًا عند أمير المسلمين عظيم المنزلة معتمدًا في العظائم أيام حياته، وإليه كانت الرحلة للتفقه من أقطار الأندلس مدة حياته.

ويقول ابن بشكوال: كان فقيها، عالما حافظًا للفقه، مقدما فيه على جميع أهل عصره، عارفا بالفتوى على مذهب مالك وأصحابه، بصيرًا بأقوالهم واتفاقهم واختلافهم، نافذًا في علم الفرائض والأصول، من أهل الرياسة في العلم والبراعة والفهم مع الدين والفضل والوقار والحلم والسمت الحسن، والهدى الصالح، وكان الناس يلجؤون إليه، ويعولون في مهماتهم عليه وكان حسن الخلق، سهل اللقاء كثير النفع لخاصته وأصحابه، جميل العشرة لهم حافظا لعهدهم كثيرا لبرهم.
ويذكر أنه ولي قضاء الجماعة بقرطبة سنة 511 هـ ثم طلب إعفاءه منها سنة 515 هـ.

شيوخه:
روى عن أبو جعفر أحمد بن رزق الفقيه وتفقه معه، وعن أبي مروان بن سراج، وأبي عبد الله محمد بن خيرة، وأبي عبد الله محمد بن فرج الطلاعي، وأبي علي الغساني، وسمع الجياني وابن أبي العافية الجوهري وأجاز له أبو العباس العذري ما رواه.

تلاميذه:
تتلمذ على يديه من العلماء: القاضي عياض، والفقيه أبو مروان عبد الملك بن مسرة، ومحمد بن أصبغ الأزدي، وابن الوزان، وابن سعادة، وابن النعمة، وابن بشكوال.. وغيرهم كثير.

مصنفاته:
ألف ابن رشد الجد العديد من الكتب، فألف (البيان والتحصيل)، و(المقدمات الممهدات)، و(النوازل وتسمى الفتاوى والأجوبة) وقد جمعها له تلميذه أبو الحسن بن الوزان، و(اختصار المبسوطة) ليحيى بن إسحاق بن يحيى بن يحيى الليثي، و(تهذيب مشكل الآثار) للطحاوي، و(النوادر)، و(المسائل الخلافية)، و(حجب المواريث)، و(اختصار الحجب)، و(فهرسة)..

وفاته:
توفي رحمه الله، ليلة الأحد الحادي عشر من ذي القعدة سنة 520 هـ، ودفن بمقبرة العباس، وصلى عليه ابنه أبو القاسم وشهده جمع عظيم من الناس، وأثنوا عليه ثناءً حسنا جميلا.

المراجع:
الغنية فهرست شيوخ القاضي عياض ص 54.
الصلة لابن بشكوال ص 839
سير أعلام النبلاء 14/ 359
مقدمة الدكتور محمد حجي لكتاب البيان والتحصيل لابن رشد الجد 1/ 11 وما بعدها.
 


اسمه ونسبه:
هو أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني (أو الكاشاني) ملك العلماء علاء الدين الحنفي، أمير كاسان (وهي المعروفة الآن بقازان عاصمة جمهورية تتارستان)، أقام ببخارى واشتغل بها بالعلم على شيخه الإمام علاء الدين محمد بن أبي أحمد السمرقندي، وقرأ عليه معظم تصانيفه مثل: التحفة في الفقه، وشرح التأويلات في تفسير القرآن العظيم، وغيرهما من كتب الأصول، وسمع منه الحديث، ومن غيره وبرع في علمي الأصول والفروع، وزوَّجه شيخه السمرقندي بابنته فاطمة الفقيهة العالمة.

قال ابن عابدين معلقا على كتاب البدائع للكاساني: شرح به تحفة الفقهاء لشيخه علاء الدين السمرقندي، فلما عرضه عليه زوجه ابنته فاطمة بعدما خطبها الملوك من أبيها فامتنع، وكانت الفتوى تخرج من دارهم وعليها خطها وخط أبيها وزوجها.

انتقاله إلى حلب:
يذكر ابن العديم قصة انتقاله من البلاد التركية أو بلاد الروم التي كان يحكمها السلاجقة، إلى حلب زمن نور الدين محمود، حيث قال: سمعت الفقيه جمال الدين أبا السرايا خليفة بن سليمان بن خليفة الكاتب قال: كان علاء الدين الكاساني قد أقام في بلاد الروم فتشاجر هو ورجل فقيه يعرف بالشعراني ببلاد الروم في مسألة المجتهدين هل هما مصيبان أم أحدهما مخطئ، فقال الشعراني: المنقول عن أبي حنيفة رضي الله عنه أن كل مجتهد مصيب، فقال الكاساني: لا بل الصحيح عن أبي حنيفة: إن المجتهدين مصيب ومخطئ، والحق في جهة واحدة، وهذا الذي تقوله مذهب المعتزلة، وجرى بينهما كلام في ذلك، فرفع عليه الكاساني المقرعة فشكي إلى ملك الروم، فقال سلطان الروم لوزيره: هذا قد افتات على الرجل فاصرفه عنا، فقال الوزير: هذا رجل شيخ وله حرمة ولا ينبغي أن يُصرف، بل ننفذه رسولا إلى نور الدين محمود بن زنكي ونتخلص منه بهذا الطريق، فسير من الروم رسولا إلى نور الدين إلى حلب، واتفق وصول الكاساني رسولا من الروم إلى نور الدين، مع ترك رضي الدين السرخسي ولاية مدرسة الحلاوية، فاجتمع فقهاء المدرسة وطلبوا من نور الدين أن يوليه التدريس بالمدرسة المذكورة، فعرض نور الدين عليه ذلك، فدخل المدرسة ورآها فأعجبته وأجاب نور الدين إلى ما عرضه عليه، وحدَّث بزاوية الحديث بالشرقية بالمسجد الجامع، ودرس بالمدرسة الجاولية، وكان حريصا على تعليم العلم ونفع الطلبة، وكان فقيها عالما صحيح الاعتقاد.

يذكر العماد الأصفهاني في البرق الشامي منشورًا أنشأه لصلاح الدين لكي يقر فيه الإمام الكاساني على ولايته على عدد من معاهد العلم في زمنه جاء فيه: وَقد أقررناه على المستمر من عادته والمستقر من قاعدته فيما هو مفوض إليه ومعول فيه عليه من تولى المدارس التي تحت ولايته ونظره ورعايته بمدينتي حلب والرقة للحنفية وفقهم الله، وهي المدرسة النورية غربي الجامع عند باب الحلاويين ومدرسة الحدادين ومدرسة جاولي وخزانة الكتب بالجامع والمدرسة النورية بالرقة على الفرات وتولى أوقاف ذلك جميعه على الاستقلال والاستبداد وأن يستنيب في هذه المدارس من الفقهاء مدرسا ومعيدا ومفتيا ومفيدا، وإليه العزل والتولية والتبديل والعطاء والمنع والتسوية والتفضيل، وترتيب كل منهم في منزلته التي يستحقها بأهليته والنزيل فمن قَبِلَه فهو المقبل المقبول، ومن حرمه فهو المحروم المرذول فإنه ما يعتمد أمرا إلا بدليل مستنده المشروع والمعقول، وهو الذى دلَّت على الفروع ببيانه الأصول، وصحَّ بروايته وإسناده المسموع والمنقول.

مصنفاته:
صنف كتبا في الفقه والأصول منها كتابه في الفقه الذي سماه «ببدائع الصنائع في ترتيب الشرائع» رتبه أحسن ترتيب وأوضح مشكلاته بذكر الدلائل في جميع المسائل، ومنها كتابه الذي سماه «بالسلطان المبين في أصول الدين» وكان مواظبا على ذكر الدرس ونشر العلم.

جهاده العلمي:
يذكر ابن العديم أن والده حدثه أنَّ علاء الدين الكاساني كان كثيرا ما يعرض له النقرس في رجليه والمفاصل، فكان يحمل في محفة من منزله بالمدرسة، ويخرج إلى الفقهاء بالمدرسة ويذكر الدرس ولا يمنعه ذلك الألم من الاشتغال، ولا يخل بذكر الدرس، وكانت زوجته فقيهة فاضلة تحفظ التحفة من تصنيف والدها، وتنقل المذهب وربما وهم الشيخ في الفتوى في بعض الأحيان، فتأخذ عليه ذلك الوهم وتنبهه على وجه الصواب فيرجع إلى قولها.

وعن شمس الدين أبي عبد الله محمد بن يوسف بن الخضر قال: قدم علاء الدين الكاساني إلى دمشق فحضر إليه الفقهاء وطلبوا منه الكلام معهم في مسألة، فقال: أنا ما أتكلم في مسألة فيها خلاف أصحابنا، فعينوا مسألة، قال: فعينوا مسائل كثيرة، فجعل يقول: ذهب إليها من أصحابنا فلان، فلم يزل كذلك حتى إنهم لم يجدوا مسألة إلا وقد ذهب اليها واحد من أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه، فانفض المجلس، وعلموا أنه قصد الغض منهم فقالوا إنه طالب فتنة، فلم يتكلموا معه.

وقال الفقيه شمس الدين الخسروشاهي بالقاهرة لابن العديم: لأصحابكم في الفقه كتاب البدائع للكاساني، وقفت عليه، ما صنف أحد من المصنفين من الحنفية ولا من الشافعية مثله، وجعل يعظمه تعظيما.

ومن خصاله أنه كان لا يركب إلا الحصان ويقول: لا يركب الفحل إلا الفحل، وكان له رمح لا يفارقه وكان شجاعا، كما يذكر داود بن علي البصراوي.

تلاميذه:
من تلاميذ الإمام الكاساني: عمر بن علي بن محمد بن قُشام أبو حفص الحلبي الدارقطني، وخليفة بن سليمان بن خليفة بن محمد القرشي، ونجا بن سعد بن نجا بن أبي الفضل شمس الدين.

وفاته:
توفي – رضي الله عنه - بعد الظهر من يوم الأحد العاشر من رجب في سنة 587 هـ، قال ابن المغربي: حضرت الشيخ علاء الدين الكاساني عند موته، فشرع في قراءة سورة إبراهيم - عليه السلام - حتى انتهى إلى قوله تعالى: «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ» فخرجت روحه عند فراغه من قوله: «في الآخرة».

ودفن - رحمه الله - داخل مقام إبراهيم - عليه السلام - ظاهر حلب في قبة من شماليه كان دفن فيها زوجه فاطمة ولم يقطع زيارة قبرها كل ليلة جمعة إلى أن مات رحمه الله.

المصادر:
الجواهر المضية في طبقات الحنفية (1/234) (2/191، 244 ـ 246) ومواضع أخرى.
بغية الطلب في تاريخ حلب لابن العديم (4347 ـ 4353).
حاشية ابن عابدين (1/100)
تاريخ الإسلام لشمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (45 /163).
 


نسبه:
هو الإمام العلامة أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن مسلم المزني المصري، تلميذ الإمام الشافعي – رضي الله عنه - وخال الإمام الطحاوي الحنفي.

مولده ونشأته:
ولد بمصر في سنة 175 هـ، وهي السنة التي توفي فيها الليث بن سعد.

شيوخه:
روى الحديث عن الإمام الشافعي، وعن علي بن معبد بن شداد، ونعيم بن حماد وغيرهم، وهو قليل الرواية، ولكنه كان رأسا في الفقه كما يذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء.

تلاميذه:
أخذ عنه العلم عدد كبير من علماء خراسان والعراق والشام، ومن تلامذته: العلامة أبو القاسم عثمان بن بشار الأنماطي شيخ ابن سريج، وشيخ البصرة زكريا بن يحيى الساجي.

وحدَّث عنه: أبو بكر بن خزيمة، وأبو الحسن بن جوصا، وأبو بكر بن زياد النيسابوري، وأبو جعفر الطحاوي، وأبو نعيم بن عدي، وعبد الرحمن بن أبي حاتم، وأبو الفوارس بن الصابوني، وخلق كثير من المشارقة والمغاربة.

مناقبه:
كان المزني زاهد ورعًا متقللا من الدنيا مجاب الدعوة، وكان إذا فاتته صلاة في جماعة صلاها خمسا وعشرين مرة ويغسل الموتى تعبدا واحتسابا، وهو القائل: تعانيت غسل الموتى ليرق قلبي فصار لي عادة، وهو الذي غسل الشافعي رحمه الله.
ويروي الذهبي أن المزني كان إذا فرغ من تبييض مسألة وأودعها "مختصره" صلى لله ركعتين.

اجتهاد الإمام المزني:
وللمزني آراء فقهية يستقل بها، وفي عدِّها من جملة مذهب الشافعي خلاف، لكن إمام الحرمين الجويني يقول في هذه المسألة: والذي أراه أن يلحق مذهبه في جميع المسائل بالمذهب؛ فإنه ما انحاز عن الشافعي في أصل يتعلق الكلام فيه بقاطع، وإذا لم يفارق – الشافعي - في أصوله، فتخريجاته خارجة على قاعدة إمامه، فإن كان لتخريج مخرِّج التحاقٌ بالمذهب، فأولاها تخريج المزني؛ لعلوِّ منصبه في الفقه، وتلقيه أصول الشافعي.. وإنما لم يلحق الأصحاب مذهبه في هذه المسألة (يقصد مسألة خُلع الوكيل التي كان يعلق عليها في سياق حديثه) بالمذهب؛ لأن من صيغة تخريجه(أي المزني) أن يقول: قياس مذهب الشافعي كذا وكذا. وإذا انفرد بمذهب، استعمل لفظة تشعر بانحيازه، وقد قال في هذه المسألة لما حكى جواب الشافعي: "ليس هذا عندي بشيء"، واندفع في توجيه ما رآه.

ثناء العلماء عليه:
قال الشافعي: المزني ناصر مذهبي، وقال: لو ناظره الشيطان لغلبه.
وقال عمرو بن عثمان المكي: ما رأيت أحدا من المتعبدين في كثرة من لقيت منهم أشد اجتهادا من المزني ولا أدوم على العبادة منه، وما رأيت أحدًا أشد تعظيمًا للعلم وأهله منه، وكان من أشد الناس تضييقًا على نفسه في الورع، وأوسعه في ذلك على الناس، وكان يقول أنا خلق من أخلاق الشافعي.
وقال أبو سعيد بن يونس: كانت له عبادة وفضل، ثقة في الحديث، لا يختلف فيه حاذق في الفقه.
قال يونس بن عبد الأعلى: كان أحد الزهاد في الدنيا، ومن خيار خلق الله.

مصنفاته:
ألف "مختصره" في الفقه وامتلأت به البلاد وشرحه عدة من الكبار بحيث يقال: كانت البكر يكون في جهازها نسخة من "مختصر" المزني.
كما صنف الجامع الكبير، والجامع الصغير، والمنثور المبسوط، والمسائل المعتبرة، والترغيب في العلم، وكتاب الوثائق، والدقائق والعقارب، ونهاية الاختصار.

وفاته:
توفي – رضي الله عنه - في رمضان، لست بقين منه، سنة 264 هـ وله 89 سنة، ودفن بالقرب من تربة الإمام الشافعي - رضى الله عنه - بالقرافة الصغرى بسفح المقطم.

المراجع:
سير أعلام النبلاء: 10/ 134، ط دار الحديث.
طبقات الشافعية للسبكي: 2/ 93، ط هجر للطباعة والنشر والتوزيع.
طبقات الشافعيين لابن كثير: 1/122، ط مكتبة الثقافة الدينية.
تاريخ ابن يونس المصري: 1/44، ط دار الكتب العلمية.
نهاية المطلب في دراية المذهب لإمام الحرمين الجويني: 13/480، ط دار المنهاج.


مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 10 أبريل 2025 م
الفجر
4 :4
الشروق
5 :34
الظهر
11 : 56
العصر
3:30
المغرب
6 : 19
العشاء
7 :39