21 مارس 2019 م

وقف أسبلة المياه حفظًا للحياة

وقف أسبلة المياه حفظًا للحياة

 شكلت المياه في مسيرة الإنسانية عاملًا مهما من عوامل قيام الحضارات وازدهارها، كما كان في فقد الماء أو سوء استخدامه تأثير بالغ في انهيار الحضارات واختفائها.
وقد وقف القرآن موقفا صريحًا كشف فيه عن أهمية الماء في حياة المخلوقات؛ حيث قال المولى عز وجل: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: 30]، كما جاء في سياق بيان طلاقة القدرة والامتنان على العباد بخلق الماء قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ۞ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 10-11]، وغير ذلك من آيات تكرر فيها ذكر الماء وأنواعه ومصادره ووظائفه وغيرها.
وجاءت السنة النبوية بما يدل على عظم أجر من أحيا النفس -ولو لحيوان- بِشَرْبَة ماء، فأخرج البخاري في "صحيحه" في (كتاب الأدب - باب رحمة الناس والبهائم) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ، اشْتَدَّ عَلَيْهِ العَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا، فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الكَلْبَ مِنَ العَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ بِي، فَنَزَلَ البِئْرَ فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، فَسَقَى الكَلْبَ فَشَكَرَ اللهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ» قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ فقال: «نَعَمْ، فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ».
وتمثلت الإرهاصات الأولى للارتباط بين الماء ونظام الوقف الإسلامي فيما سجله لنا التاريخ من حرص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على توفير الماء العذب لأهل المدينة المنورة به صلى الله عليه وآله وسلم، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير "بئر رومة" فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ فَيَجْعَلَ دَلْوَهُ مَعَ دِلَاءِ المُسْلِمِينَ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ»؟ فاشتراها سيدنا عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه من صلب ماله، وقد بارك الله تعالى فيها، ولا تزال تضخ مياهها حتى الآن.
وقد وعى المسلمون هذا الأمر عبر العصور، فأولوا الماء عناية خاصة نتلمس مظاهرها فيما اشتهر به المسلمون من توفير المياه من خلال وقف مصادرها المتمثلة في الآبار والعيون، وكذلك إنشاء السقايات العمومية أو الأسبلة ووقفها للانتفاع العام. فنجد التاريخ قد سجل لنا انتشار الأسبلة في البلدان الإسلامية ممثلة لاهتمام المسلمين برفع مشقة البحث عن الماء وتحقيق مقصد حفظ النفس، وذلك بالنسبة للإنسان والحيوان على السواء، حيث شيد الأمراء والعلماء وأهل البر أسبلة خاصة بالإنسان، وأسبلة خاصة بالحيوان، وتنوعت بين أسبلة مفردة وأسبلة ملحقة بالمدارس أو المساجد، وعرف التاريخ أيضا الأسبلة الملحقة بالمنازل، وقد عرف بها في مصر أهل رشيد بخاصة.
ولما كانت الأسبلة من المنشآت الاجتماعية المهمة التي تحتاج إلى مصدر دائم للإنفاق عليها وعلى تشغيلها حتى تستمر في تأدية مهامها بشكل دائم ومستقر حرص مُنشؤوها على توفير هذا المصدر من خلال الوقف، فوقفت الأطيان الزراعية والربوع والمصابغ والمحلات والمنازل وغيرها، وصرف ريعها من أجل مصلحة الأسبلة وتسيير عملها، بالإضافة إلى تعيين من يقوم عليها بالصيانة والنظافة والسقي والملء والإشراف، مع كون الإنفاق عليهم من تلك الأوقاف المرصودة للسبيل.
وقد اشتهر وقف مصادر المياه في مصر وحواضر العالم الإسلامي منذ وقت مبكر؛ ففي عام 355هـ/ 965م شيّد الوزير جعفر بن الفرات السبع سقايات؛ لتزويد سكان الفسطاط بالماء اللازم، وذلك عندما انحسر ماء النيل عن تلك المنطقة مما أدى إلى لحوق المشقة بالناس وقتها كما حكاه المقريزي في "الخطط"، وشاع في معظم العمائر الدينية في القاهرة خلال العصرين المملوكي والعثماني الأسبلة الملحقة بهذه العمائر، وقد بلغ عدد الأسبلة التي تعود إلى العصر العثماني في القاهرة وحدها 70 سبيلًا لا زالت مشاهدها باقية حتى الآن تشرف على أكثرها الدولة.
وعن سقايات مكة يحدثنا الفاكهي المتوفى سنة (272هـ) فيقول: "وبمكة في فجاجها وشعابها من باب المسجد إلى منى ونواحيها ومسجد التنعيم نحوٌ مِن مائة سقاية ".
ويصف لنا ابن جبير -المتوفى سنة (614هـ) صاحب الرحلة المشهورة- سقايات مدينة دمشق وجامعها المكرم، فيقول: "ويستدير بهذا الجامع المكرم أربع سقايات، في كل جانب سقاية، كل واحدة منها كالدار الكبيرة محدقة بالبيوت الخلائية، والماء يجري في كل بيت منها. والبلد كله سقايات، قلما تخلو سكة من سككه أو سوق من أسواقه، من سقاية، والمرافق به أكثر من أن توصف، والله يبقيه دار إسلام بقدرته".
ومن المظاهر الحضارية المتعلقة بهذا الأمر ما نلاحظه من عناية الفقه الإسلامي بضبط الأحكام المتعلقة بالتعامل مع الماء الموقوف وتوجيهها التوجيه الذي يحفظ المقصد من إنشائها ويحفظ حق الانتفاع لمن وقفت له، ونكتفي هنا ببعض الأمثلة؛ فمن الأحكام المتعلقة بالأسبلة ما نص عليه الفقهاء من أن الماء المسبل للشرب لا يجوز استخدامه في رفع حدث ولا إزالة نجس، وأن المحدث لو لم يجد غيره ينتقل من الوضوء إلى التيمم. كما هو مقرر عند الفقهاء.
ومن الأحكام أيضًا أن الأدوات الموقوفة في السبيل للاستعمال لا يجوز استعمالها في أغراض أخرى، فلو تلفت يضمنها المتلف من ماله. حتى قال الخطيب الشربيني من الشافعية: "الكيزان المسبلة على أحواض الماء.. لا ضمان على من تلف في يده شيء منها بلا تعد، وإن تعدى ضمن، ومن التعدي استعماله في غير ما وقف له"، وهو مقرر عند غير الشافعية كذلك.
المراجع:
- "أخبار مكة" للفاكهي.
- "الأسبلة العثمانية بمدينة القاهرة" لمحمود حسين.
- "الجوهرة النيرة على مختصر القدوري" لأبي بكر العبادي الزبيدي.
- "حاشية العدوي على شرح مختصر خليل" للخرشي.
- "رحلة ابن جبير".
- "سنن الإمام الترمذي".
- "صحيح الإمام البخاري".
- "فقه العمران" للدكتور خالد عزب.
- "المجموع شرح المهذب".
- "مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج".

الحضارة مشتقة من (الحضر) وهو المكان الذي يكون فيه عمران واستقرار لأهله من ساكني المدن، بخلاف أهل البداوة الذين يعيشون على التنقل في الصحراء وبواديها بحسب الظروف المعيشية المتوفرة لهم. ومفهوم الحضارة واسع يشمل مختلف أنواع وعوامل التقدم والرقي، سواء كانت ثقافية أو اجتماعية أو اقتصادية أو متعلقة بنظم الإدارة وممارسات الحياة العامة بأشكالها المتنوعة. ومن المظاهر الحضارية التي اعتنى بها المسلمون الاهتمام بالطب والتداوي، فلم يكن المسلمون في ميادين الطب والصيدلة مجرد ناقلين ومقلدين لخبرات الأمم الأخرى في هذا المجال، بل ترجموا ونقلوا وجربوا وهذبوا وابتكروا


بُعث رسول صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين، وليس من المتصور عقلًا أن يدخل الناس جميعًا في الإسلام، بل جرت سنة الله في خلقه أن يكون فيهم المؤمن والكافر، والمسلِّمُ والناقد، والباحث عن الحق بجدٍّ وإخلاص، والباحث المغرض من أجل الطعن والتشكيك... إلى غير ذلك من أنواع المدارك والأفكار والفلسفات الإنسانية التي يجزم فيها كل معتقد أنه على الحق وغيره على الباطل، لكنَّ هذا كله لا يخرجهم عن إطار الرحمة المحمدية التي هي للناس عامة،


من المعالم الحضارية في الإسلام التكافل الاجتماعي الذي يوفر الحماية والرعاية والأمن والأمان النفسي للفرد في هذا المجتمع. والتكافل في الإسلام مظلة طمأنينة تشمل المجتمع كله؛ ذلك أن الإنسان كائن مدني بطبعه، لا يستطيع أن يحيا فردًا ولا تستقيم له حياة إلا في جماعة متعاونة متكافلة تحافظ على كرامة هذا الإنسان أيًّا ما كان دينه أو انتماؤه.


العدل من القيم الرفيعة السامية التي اتسمت بها الحضارة الإسلامية، والعدل هو ميزان الكون وأساس الملك، وقد فرضه الله تعالى في كل الكتب المنزلة، واتفقت البشرية في قوانينها الوضعية على وجوب تحقيقه والتزامه وبناء الأحكام عليه، وكلما تحققت الأمم بالعدل ارتقت حضاريًّا، وكلما فشا الجور والظلم في أمة تخلفت وسقطت في درك الشقاوة والفقر والتخلف والجهل،


ليس من قبيل المصادفة البحتة أن يكون ذكر القلم والكتابة في أول أيات تنزل من القرآن الكريم على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال الله تعالى:﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ • الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ [العلق: 3، 4] وأقسم سبحانه وتعالى بالقلم فقال: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ [القلم: 1]، وأقسم بالكتاب ﴿وَالطُّورِ • وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ﴾ [الطور: 1، 2] وفي محكم التنزيل آية كبيرة تسمى بآية الدَّين؛ وهي آية تحث


مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 10 أبريل 2025 م
الفجر
4 :4
الشروق
5 :34
الظهر
11 : 56
العصر
3:30
المغرب
6 : 19
العشاء
7 :39