يعد الاختلاف من سنن الله تعالى في الكون، فكل مظاهر الكون والحياة تُعبِّر عن هذه الحقيقة، فالكون كله في تنوع واختلاف وتباين، سماء وأرض ونجوم وكواكب وجبال وسهول وصحاري ووديان وبحار وأنهار وأنواع لا تعد ولا تُحصى من الأشجار والنباتات والثمار والكائنات الحية على اليابسة أو في المياه، والإنسان كذلك مختلفة أجناسه وأعراقه وألوانه ولغاته، وهو ذكر وأنثى، وينتقل في أطوار مختلفة، من الطفولة إلى المراهقة، إلى الشباب والفتوة، إلى الكهولة إلى الشيخوخة، وعلى مستوى التفكير والإدراك يشعر الإنسان في خاصة نفسه بتغير أطوار فكره ومعرفته وإدراكه لحقائق الأمور وتباين وجهة نظره إزاءها حينًا بعد آخر.
من هنا صار إدراك أهمية الاختلاف وطبيعته أمرًا مهمًّا لكل مسلم، فإذا وصل إلى هذه القناعة لم يعُدْ محلا للتعصب والتشدد والانغلاق على الذات، بل صار حرًّا في خاصة نفسه ويحرص في الوقت ذاته على حرية الآخرين ويُقَدِّرها.
ولقد أكَّد الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم على هذه الحقيقة في العديد من الآيات، قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۞ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118-119]، يعني: وللاختلاف خلقهم، وقال في بيان اختلاف مخلوقاته سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾ [فاطر: 27]، وقال في بيان اختلاف أجناس الناس ولغاتهم: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ [الروم: 22].
لكن هذا الاختلاف الذي هو سنة من سنن الله تعالى في خلقِه لا يعني الصراع والنزاع، فهذا الكون على ما فيه من تنوع يقول الله تعالى عنه: ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ [الملك: 3]، فهو اختلاف تنوع يتناسب وطبيعة هذا الكون وطبيعة رسالة الإسلام أيضًا القائمة على التعدد والتركيب، فالإسلام ليس فكرة مختزلة في عنصر واحد، بل هو فكرة مركَّبة من عدد من العناصر التي يجب أخذها جملة واحدة، وفي الحديث: «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» رواه البخاري، فضلًا عن مجموعة أخرى من الأوامر والنواهي التي لا يمكن الفصل بينها كمنظومة واحدة من عدة عناصر لا يمكن أن تُقَسَّمَ، فيعتقد المرءُ بعضًا منها دون غيره!
لذا، ينبغي على المرء أن يفهم لماذا تتفاوت العقول في إدراك الحقائق والمعاني وتفسير الكلام والظواهر، إنه أمر متسق جدًّا مع طبيعة خلق الله سبحانه وتعالى، غير أننا ينبغي أن نكون على وعي بفروق مهمة تتعلق بفكرة الاختلاف؛ حتى لا تتحول هذه الخلفية الكونية لها إلى أداة تمتهنها وتذهب بمقصودها؛ فالاختلاف الذي نقصده هنا هو ذلك الاختلاف المبنيُّ على اجتهاد وسعي وصدق في الوصول إلى الحقيقة، أو التعرُّف على مُرَاد الله في توجيهاته وأوامره، أو إلى حلِّ مشكلة أو أزمة أو مُعضلة بطريق يراعي العلم في الإدراك والإنصاف في التناول، إن الاختلاف على هذا الأساس هو الذي نقصده، وهو اختلاف يشحذ الأذهان ويُنَشطها، ويُثري الفكر ويُغنيه، ويُوَفِّر هذا الاختلاف العديد من الاحتمالات التي قد تُلائم شخصًا دون غيره أو بيئة دون أخرى أو زمنًا دون سواه.
وحين أدرك الصحابة رضي الله عنهم هذه الحقيقة فإنهم اختلفوا فيما بينهم على هذا الأساس، الذي يراعي الصدق والإخلاص في الوصول إلى الرأي الذي يعبر عن الحقيقة أو مراد الله، مع تقدير كل صاحب رأي لآراء غيره الملتزمة بهذه الضوابط في الاجتهاد، بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرشدنا إلى أنه أمر طبيعي حين رأى الصحابة يختلفون فيما بينهم فلم ينههم عن هذا الاختلاف؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنا لَمَّا رجع من الأحزاب: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ»، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلِّي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي؛ لم يُرَدْ منَّا ذلك. فذُكر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يُعنِّفْ واحدًا منهم. رواه البخاري.
وكان سيدنا أبو بكر رضي الله عنه يرى التسوية بين الناس في العطاء، وكان بعض الناس يقولون له : إنك قسمت هذا المال فسوَّيْت بين الناس، ومن الناس أُناس لهم فضل وسوابق وقِدَم؛ فلو فضلت أهل السوابق والقِدَم والفضل بفضلهم؟، فقال: "أمَّا ما ذكرتُم من السوابق والقِدَمِ والفضل فما أعرفني بذلك، وإنما ذلك شيء ثوابه على الله جل ثناؤه، وهذا معاش؛ فالأسوة فيه خير من الأثرة"، فلما كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وجاءت الفتوح، فَضَّل، وقال: "لا أجعل من قاتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كمن قاتل معه"؛ ففرض لأهل السوابق والقدم من المهاجرين والأنصار.
وعلى هذا الهدي سار الأئمة المتبوعون وأصحاب المذاهب الفقهية كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل، ثم تلاميذهم من بعدهم، ينظرون في الأدلة ويبحثون ويجتهدون ثم يعلن كل منهم ما انتهى إليه من رأي، قد يختلف كثيرًا مع آراء غيره، ولكن ما يجمع هذه الآراء جميعًا أنه تم استنباطها وفق قواعد وأسس علمية دقيقة تؤكد حرص هؤلاء الأئمة الأعلام على استجلاء الحقيقة والسعي الصادق في الوصول إلى مراد الله؛ إن الاختلاف الفقهي كنموذج للاختلاف الإيجابي الموضوعي هو نتيجة منطقية لإعمال العقل والاجتهاد العلمي المخلص في تفسير النصوص الدينية، ولم يكن هذا الاختلاف سببًا في ذاته لنزاع أو صراع بين المسلمين إلا ما كان من بعض المتشددين الذين لم يدركوا منهج الاختلاف في الإسلام، وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي: "ومن هنا يظهر وجه الموالاة والتحاب والتعاطف فيما بين المختلفين في مسائل الاجتهاد، حتى لم يصيروا شيعًا ولا تفرقوا فرقًا؛ لأنهم مجتمعون على طلب قصد الشارع، فاختلاف الطرق غير مؤثر، كما لا اختلاف بين المتعبدين لله بالعبادات المختلفة، كرجل تقرُّبُه الصلاة، وآخر تقرُّبُه الصيام، وآخر تقرُّبُه الصدقة إلى غير ذلك من العبادات، فهم مُتَّفقون في أصل التوجه لله المعبود وإن اختلفوا في أصناف التوجه".
هذا هو النموذج الصحي والإيجابي للاختلاف في الإسلام والذي يجب أن نحرص على ترسيخه وتوطيد أركانه في المجتمع عبر وسائل إعلامه ومؤسساته التربوية والتعليمية وفي الأسرة المسلمة؛ لحاجتنا الماسَّة إليه، ولعدم إمكان التخلُّص منه، وصونًا لعواقب عدم التمسك بآداب الاختلاف من صراع ونزاع يؤدي إلى تفرق شمل الأمة واختلاف كلمتها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
- "الخراج" لأبي يوسف (ص: 53).
- "الموافقات" للشاطبي (5/ 220).
- "تفسير الطبري" (15/ 535).
- "أدب الاختلاف في الفقه الإسلامي" للدكتور عبد الرحمن عزيز عبد اللطيف سمرة، ضمن "موسوعة التشريع الإسلامي" (ص: 15، ط. المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية).