اسمه ومولده:
هو الإمام العلامة سيف الدين أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الآمدي الحنبلي ثم الشافعي، ولد بمدينة "آمد" -وهي المعروفة بـ"ديار بكر" والواقعة بجنوب دولة تركيا الآن- بعد سنة 550هـ بقليل، ولعلها 551هـ كما ذكر أكثر من ترجم له.
حياته:
حفظ الإمام الآمدي القرآن ببلدته في سن مبكرة، ودرس بها شيئا من الفقه والعربية والقراءات، وبدأ بدراسة المذهب الحنبلي، فحفظ كتاب الهداية لأبي الخطاب الكلوذاني، ثم رحل إلى بغداد، فأخذ عن شيوخها وعلمائها في القراءات والفقه والحديث والخلاف وأصول الفقه، ثم تحول إلى المذهب الشافعي وحفظ الوسيط للغزالي، كما رحل إلى الشام فدخل حلب ودمشق وتفنن في علم النظر، وأحكم أصول الفقه وأصول الدين والفلسفة وسائر العقليات، وظل بالشام إلى سنة 592هـ، ثم غادرها إلى مصر، فنزل بمدرسة "منازل العز" بالفسطاط، ثم عين في المدرسة الناصرية لدراسة المذهب الأشعري، ثم انتقل للتدريس بمسجد الظافر -وهو المسمى بجامع الفاكهاني اليوم- فبرز واشتهر، ودرس علم الكلام والمنطق والعلوم العقلية، وكتب بمصر كثيرا من مؤلفاته، وتخرج به جماعة من العلماء، وعقد عدة مجالس للمناظرة، وحسده البعض على شهرته ونبوغه، فكادوا له، فخرج إلى الشام واستقر في حماة في رعاية الملك المنصور أميرها، فاشتغل بالكتابة والتأليف ودرَّس بالمدرسة المنصورية أكبر مدارسها إلى أن توفي الأمير سنة 617هـ، فغادرها الآمدي متوجها إلى دمشق، فأكرمه أميرها الملك المعظم، وفوض له أمر المدرسة العزيزية فظل قائما بأمرها قرابة عشر سنين، وألف فيها كتابه الإحكام، إلى أن عزل عنها فأقام ببيته إلى أن توفي بعدها بمدة يسيرة.
وأنشد الأديب العارف نجم الدين أبو المعالي محمد بن سوار بن إسرائيل بدمشق بعد عزل الإمام الآمدي:
قد عزل السيف وولى القراب | دهر قضى فينا بغير الصواب |
فاضحك على الدهر وأربابه | وابك على الفضل وفصل الخطاب |
شيوخه:
أخذ الإمام الآمدي عن جملة من الشيوخ أبرزهم:
- الشيخ الإمام العلامة أبو الفتح نصر بن فتيان بن مطر النهرواني الحنبلي والمعروف بابن المنِّي (501- 583هـ) شيخ المدرسة المأمونية ببغداد، أخذ عنه الفقه فقرأ عليه الهداية في مذهب أحمد وغيره من الكتب.
- الشيخ الإمام جمال الدين أبو القاسم يحيى بن علي بن الفضل بن هبة الله بن بركة المعروف بابن فضلان (517- 595هـ)، شيخ الشافعية ببغداد، وهو أكثر شيوخه البغداديين تأثيرا فيه، أخذ عنه الفقه والخلاف والمناظرة وأصول الفقه والكلام والمنطق، وربما كان صاحب الأثر في تحوله عن المذهب الحنبلي إلى الشافعي.
- الإمام أبو الفتح عبيد الله بن عبد الله بن محمد بن نجا بن شاتيل البغدادي الدباس (491- 581هـ) سمع منه الحديث وروى عنه "غريب الحديث" لأبي عبيد القاسم بن سلام.
صفاته:
كان -رحمه الله- أحد أذكياء العالم، وكان -كما قيل عنه- أذكى أهل زمانه، فكان يتحلى بالذكاء المفرط والفصاحة وجودة الذهن وحسن التدريس حتى قال عنه تلميذه العز بن عبد السلام: "ما سمعت أحدا يلقي الدرس أحسن منه"، إماما في العلوم العقلية من الكلام والجدل والفلسفة وأصول الفقه كذلك، فلم يكن له نظير فيها في زمانه حتى قال العز: "لو ورد على الإسلام متزندق يستشكل ما تعين لمناظرته غيره؛ لاجتماع آلات ذلك فيه"، كما كان -رحمه الله- بهي الطلعة جميل الصورة، متواضعا منصفا حتى من نفسه، ولا يستنكف أن يأخذ العلم والفائدة عن أي أحد حتى من تلامذته، وكان حسن الخلق رقيق الشمائل، مرهف الحس سريع الدمعة، رقيق القلب سليم الصدر، كبير القدر كثير البكاء، وكان سريع الحفظ، قوي الذاكرة حتى إنه ذكر لبعض تلاميذه أنه حفظ المستصفى للغزالي في مدة وجيزة، وكان يكرم تلاميذه غاية الإكرام، ولم يكن متعصبا لمذهب الشافعي، بل يجل تلامذته على اختلاف مذاهبهم، فكان يأخذ عنه الطلبة من أهل المذاهب الأربعة. قال قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان في بعض تعاليقه: "ما عسى أن يقال في أعجوبة الدهر وإمام العصر، وقد ملأت تصانيفه الأسماع، ووقع على تقدمه وفضله الإجماع. إمام علم الكلام، ومن أقر له فيه الخاص والعام، صاحب المصنفات المشهورة والتعاليق المذكورة، ومن أكبر جهابذة الإسلام، ومن يرجع إلى قوله في الحل والإبرام والحلال والحرام".
وقال تلميذه القاضي أبو الروح عيسى ابن القاضي أبي العباس أحمد بن داود الرشتي المعروف بابن قاضي تل باشر: "سمعت شيخنا الإمام سيف الدين يقول: رأيت في النوم كأن قائلا يقول لي: هذا البيت للإمام الغزالي، قال: فدخلت فوجدت تابوتا فكشفته فوجدت الغزالي فيه وعليه كفنه، وهو في القطن. قال: فكشفت عن وجهه وقبلته، فلما انتبهت قلت في نفسي: يليق أن أحفظ كلام الغزالي، فأخذت كتابه المستصفى في أصول الفقه فحفظته في مدة يسيرة".
قال عنه ابن تيمية: "لم يكن أحد في وقته أكثر تبحرا في العلوم الكلامية والفلسفية منه، وكان من أحسنهم إسلاما وأمثلهم اعتقادا".
مصنفاته:
خلف الإمام الآمدي لنا مؤلفات في غاية التحرير والقوة نذكر منها:
- الإحكام في أصول الأحكام: أهم كتبه الأصولية، قال الإمام جمال الدين أبو عمرو عثمان بن أبي بكر المالكي المعروف بابن الحاجب: "ما صنف في أصول الفقه مثل كتاب سيف الدين الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام". طبع محققا بدار المعارف بالقاهرة سنة 1914م في 4 مجلدات، ثم طبع بمطبعة الحلبي سنة 1956م، ثم بمطبعة صبيح سنة 1968م، ثم طبع محققا بالرياض في أربعة مجلدات وطبعات أخرى متعددة، كما حقق في عدة رسائل جامعية.
- منتهى السول في علم الأصول: كأنه مختصر لكتابه الإحكام السابق، وكان مقررا للتدريس بالأزهر وغيره من معاهد العلم قرونا، طبع على نفقة الجمعية العلمية الأزهرية المصرية المالاوية بالقاهرة بتصحيح الشيخ عيد الوصيف محمد سنة 1320هـ في ثلاثة أجزاء. وكان الجزء الأول منه مقررا على طلاب السنة الثانية بالقسم العالي بالأزهر، والجزء الثاني مقررا على طلاب السنة الثالثة بنفس القسم، كما ذكره مصححه في خاتمة الجزأين.
- أبكار الأفكار: في علم الكلام وهو أهم كتبه الكلامية، طبع بدار الكتب المصرية بالقاهرة محققا في خمسة مجلدات.
- غاية المرام في علم الكلام: طبع بتحقيق الأستاذ الدكتور حسن محمود عبد اللطيف الشافعي، ونشره المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة 1971م.
- المآخذ على المحصول: نقد لكتاب المحصول للرازي.
- شرح المقولات العشر: شرح على رجز ابن سينا في المقولات العشر، طبع محققا.
- منتهى السالك في رتب الممالك.
- المآخذ على المطالب العالية للرازي: منه نسخة مصورة بمعهد المخطوطات.
- خلاصة الإبريز تذكرة الملك عبد العزيز.
- منائح القرائح: مختصر لأبكار الأفكار.
- الترجيحات في الخلاف.
- شرح كتاب الجدل: وهو شرح لكتاب السيد شهاب الدين المعروف بالشريف المراغي في الجدل.
- غاية الأمل في علم الجدل: منه نسخة بالمكتبة الأهلية بباريس.
- المآخذ الجلية في المؤاخذات الجدلية.
- دقائق الحقائق: في الفلسفة، منه نسخة بمكتبة جامعة برنستون.
- رموز الكنوز.
- كشف التمويهات على الإشارات والتنبيهات: في بيان اعتراضات على الإشارات والتنبيهات لابن سينا، منه نسخة بالمتحف البريطاني ومنها صورة بمعهد المخطوطات.
- المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين: حقق على عدة نسخ خطية بتحقيق الأستاذ الدكتور حسن محمود عبد اللطيف الشافعي، وطبع بمكتبة وهبة عدة طبعات أولها سنة 1993م، كما حققه غيره أيضا.
- النور الباهر في الحكم الزواهر: منه نسخة بدار الكتب العمومية بإستانبول في خمسة مجلدات.
- الفريدة الشمسية: منه نسخة بمكتبة المدينة المنورة.
- التعليقة الصغيرة.
- التعليقة الكبيرة.
- دليل متحد الائتلاف وجار في جميع مسائل الاختلاف.
تلاميذه:
- الإمام العلامة سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام (ت: 660هـ)، قرأ عليه في الفقه الأصول والخلاف والمناظرة، وكان يمدح شيخه كثيرا حتى قال عن شرحه للوسيط للإمام الغزالي: "وإن غير لفظا من "الوسيط" كان لفظه أمس بالمعنى من لفظ صاحبه"، كما قال: "ما علمنا قواعد البحث إلا من سيف الدين الآمدي".
- الإمام العلامة عثمان بن عمر بن أبي بكر الشهير بابن الحاجب (ت: 646هـ) صاحب التصانيف، والذي اختصر كتاب شيخه "منتهى السول والأمل".
- ابن أبي أصيبعة (ت: 646هـ) قرأ عليه كتابه "رموز الحكمة".
- العماد بن سلماس، وقد تشفع له فخر القضاة أبو الفتح نصر الله بن هبة الله بن عبد الباقي بن أبي البركات المصري المعروف بابن بصاقة عند الآمدي؛ لكي يمكنه من القراءة عليه، وكتب له أبياتا رقيقة يرجوه فيها قبول تلمذته له قال فيها:
يا سيدًا جمل الله الوجود به وأهله من جميع العجم والعرب العبد يذكر مولاه بما سبقت وعوده لعماد الدين عن كثب ومثل مولاي من جاءت مواهبه من غير وعد وجدواه بلا طلب فأصف من بحرك الفياض مورده وأغنه من كنوز العلم لا الذهب واجعل له نسبًا يدلي إليك به فلحمة العلم تعلو لحمة النسب ولا تكله إلى كتب تنبئه فالسيف أصدق إنباء من الكتب - الإمام ابن أبي شامة صاحب "الروضتين" وغيره.
- الإمام شمس الدين أبو المظفر يوسف بن قزغلي بن عبد الله البغدادي الحنفي المعروف بسبط ابن الجوزي -لأن أمه رابعة هي بنت الإمام أبي الفرج ابن الجوزي- (581- 632هـ) حضر مجالس الآمدي.
- القاضي صدر الدين بن سني الدولة (ت: 658هـ).
- القاضي محيي الدين بن الزكي (ت: 668هـ).
وفاته:
توفي في يوم الإثنين أو الثلاثاء الثالث أو الرابع من شهر صفر سنة 631هـ الموافق لشهر نوفمبر سنة 1233م وعمره ثمانون سنة، وصلى عليه العز بن عبد السلام ودفن بسفح جبل قاسيون بدمشق.
وأمطرت السماء بعد موته مطرا عظيما، فقال أحد أصحابه يرثيه:
بكت السماء عليه عند وفاته | بمدامع كاللؤلؤ المنثور |
وأظنها فرحت بمصعد روحه | لما سمت وتعلقت بالنور |
أو ليس دمع الغيث يهمي باردا | وكذا تكون مدامع المسرور |
وذهب جماعة من أصحاب الإمام الآمدي إلى بستان له بأرض المزة بدمشق بعد موته، وفيهم نجم الدين بن إسرائيل، فكتب على سارية تحت عريش، كان كثيرًا ما يجلس الشيخ الآمدي رحمه الله إليها حين يقرأ عليه العلم:
يا مربعًا قلبي له مربع | جادك غيث أبدًا يهمع |
عهدي بمغناك وفي أفقه | شمس المعالي والحجى تطلع |
وكنت غمد السيف حتى قضى | والغمد بعد السيف لا يقطع |
وحكي عمن رآه في المنام بعد موته فقال له: "ما فعل الله بك؟ قال: أجلسني على كرسي، وقال: استدل على وحدانيتي بحضرة ملائكتي. فقلت: لما كان المخترَع لا بد له من صانع وكانت نسبة الثاني والثالث إلى الواحد نسبة الرابع والخامس وما وراء ذلك، ولم يقل به أحد ولا ادعاه مخلوق بطل الجميع وثبت الواحد جل جلاله وعز سلطانه، فقال لي: ادخل الجنة".
رحم الله الإمام الآمدي وجعل درجته في المقربين.
مصادر الترجمة:
- طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة (2/ 174).
- وفيات الأعيان (3/ 293- 240).
- الوافي بالوفيات (21/ 226- 230).
- إخبار العلماء بأخبار الحكماء (240).
- مرآة الزمان (ق2 ج8 ص691).
- لسان الميزان (3/ 134).
- حسن المحاضرة (1/ 233).
- تاريخ أبي الفدا (4/ 406).
- طبقات الشافعية الكبرى (8/ 306).
- عيون الأنباء في طبقات الأطباء (602).
- مرآة الجنان (4/ 59).
- سير أعلام النبلاء (22/ 364- 366).
- شذرات الذهب (5/ 144).
- الذيل على الروضتين (5/ 245).
- البداية والنهاية (13/ 143).
- طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 398).