مِن المُقَرَّر شرعًا أنه يَصِح البيع الذي يحوز فيه المشتري المبيعَ المُعَيَّنَ ويؤجل أداءَ كُلِّ ثمنه أو بعضه على أقساط معلومة لأَجَلٍ معلوم، ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ﴾ [البقرة: 275]، وقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اشترى طعامًا مِن يهوديٍّ إلى أَجَلٍ، ورهنه درعًا مِن حَديد".
وقال العلامة ابنُ بَطَّال في "شرح البخاري" (6/ 208، ط. مكتبة الرشد بالرياض): [العلماء مُجْمِعون على جواز البيع بالنسيئة] اهـ.
ولو زاد البائعُ في ثمن المبيع المُعَيَّن نظير الأجل المعلوم فإن ذلك جائز شرعًا أيضًا؛ لأنه مِن قبيل المرابحة، وهي نوع من أنواع البيوع الجائزة شرعًا التي يجوز فيها اشتراط الزيادة في الثمن في مقابلة الأجل؛ لأن الأجل وإن لم يكن مالًا حقيقة إلا أنه في باب (المرابحة) يُزاد في الثمن لأجله إذا ذُكِر الأجل المعلوم في مقابلة زيادة الثمن؛ قصدًا لحصول التراضي بين الطَّرَفين على ذلك، ولعدم وجود موجب للمنع، ولحاجة الناس الماسَّة إليه، بائعينَ كانوا أو مشترين. ولا يُعَد ذلك مِن قبيل الربا؛ لأنه بَيعٌ حصل فيه إيجابٌ وقَبولٌ، وتَوَفَّر فيه الثَّمَن والمُثمَن (المبيع)، وهذه هي أركان البيع، غاية أمره أنه قد تأجل فيه قبض الثمن إلى أجل أو إلى آجال، فدخل تحت عموم قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ﴾ [البقرة: 275]، وكذلك فإنه من المقرر فقهًا أنه "إذا توسطت السلعة فلا ربا".
والقول بجواز الزيادة في الثمن نظير الأجل هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء؛ من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
قال الإمام الكاساني في "بدائع الصنائع" من كتب الحنفية (5/ 224، ط. دار الكتب العلمية): [للأَجَل شُبهة المبيع، وإن لم يكن مبيعًا حقيقة؛ لأنه مرغوب فيه، ألا ترى أن الثمن قد يزاد لمكان الأجل، فكان له شُبهَة أن يُقابله شيءٌ مِنَ الثمن، فيصير كأنه اشترى شيئين، ثم باع أحدَهما مُرابَحة على ثَمَن الكُل] اهـ.
وقال الشيخ أحمد الدردير في "الشرح الكبير على مختصر سيدي خليل" في مذهب الإمام مالك مع "حاشية الدسوقي" (3/ 58 ، ط. دار إحياء الكتب العربية): [فإن وقع -أي: البيع بعشرة نقدًا أو أكثر لأَجَل- لا على الإلزام، وقال المشتري: اشتريتُ بكذا، فلا مَنع] اهـ.
وقال الإمام أبو إسحاق الشيرازي الشافعي في "المهذب" (1/ 289، ط. دار الفكر بيروت): [الأَجَل يأخذ جُزءًا من الثمن] اهـ.
وقال العلامة ابن مُفلِح الحنبلي في "المُبدِع شرح المُقنِع" (4/ 310-311، ط. دار الكتب العلمية): [(وله -أي: ولي الصبي والمجنون- دفعه -أي: مال الصبي والمجنون- مضاربةً بجزء من الربح)؛ لأن عائشة رضي الله عنها أبضعت مال محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما؛ إذ الولي نائب عنه فيما فيه مصلحته، وهذا مصلحة؛ لما فيه من استبقاء ماله... (وبيعه نَساء)؛ أي: إلى أجل، إذا كان الحظ فيه...؛ لأنه قد يكون الثمن فيه أكثر؛ لأن الأجل يأخذ قسطًا من الثمن] اهـ.
وذلك هو المنقول عن طاوس، والحَكَم، وحَمَّاد، والأَوزاعي من فقهاء السلف. انظر: "معالم السُّنَن" لأبي سليمان الخَطَّابي (3/ 123، ط. المطبعة العلمية بحلب).
وقد أفرد القاضي الشوكاني هذه المسألة بالتصنيف في جُزءٍ مُفرَدٍ انتصر فيه لمذهب الجمهور، وسماه: "شفاء العِلَل في حُكم زيادة الثمن لمجرد الأجل". ذكره في "نيل الأوطار" (5/ 181، ط. دار الحديث).
وهذا هو ما ذهب إليه مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة في جلسته المنعقدة في دورة المؤتمر السادس من 17 إلى 23 شعبان 1410هـ الموافق تاريخ: 14 إلى 20 مارس 1990م؛ حيث جاء في القرار رقم: (53/ 2/ 6) ما نصه: [تجوز الزيادة في الثمن المؤجل عن الثمن الحالِّ، كما يجوز ذكر ثمن المبيع نقدًا وثمنه بالأقساط لمُدَدٍ معلومة، ولا يصح البيع إلا إذا جزم العاقدان بالنقد أو التأجيل، فإنْ وقع البيع مع التردد بين النقد والتأجيل؛ بأن لم يحصل الاتفاق الجازم على ثَمَنٍ واحدٍ مُحَدَّدٍ فهو غير جائز شرعًا] اهـ.
أما بخصوص نسبة الربح، فإن النصوص الشرعية لم ترد بتحديد نسبة ربح محددة؛ وقد يشتري الإنسان السلعة برخص، ثم يرتفع سعرها بعد ذلك، فيربح المشتري فيها ربحًا كثيرًا، وقد يحدث العكس، فيشتري السلعة بثمن كبير، ثم يهبط سعرها، فيخسر فيها خسارة كبيرة لو أراد بيعها، والأمر في ذلك يدور على التراضي بين طرفي العقد، فمتى حصل التراضي صحت المعاملة؛ وقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29].
قال الإمام البيضاوي في تفسيره "أنوار التنزيل" (2/ 70، ط. دار إحياء التراث العربي): [﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ﴾: استثناء منقطع؛ أي: ولكن كون تجارة عن تراض غير منهي عنه، أو اقصدوا كون تجارة. و﴿عَنْ تَراضٍ﴾ صفة لتجارة؛ أي: تجارة صادرة عن تراضي المتعاقدين. وتخصيص التجارة من الوجوه التي بها يحل تناول مال الغير؛ لأنها أغلب وأرفق لذوي المروءات، ويجوز أن يراد بها الانتقال مطلقًا] اهـ.
وروى ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ»، وروى البخاري في "صحيحه" أن الزبير بن العوام رضي الله عنه اشترى الغابة بسبعين ومائة ألف، ثم باعها لابنه عبد الله رضي الله عنه بألف ألف وست مائة ألف، فربحه فيها قد جاوز التسعة أضعاف.
وحتى الصورة التي قد تكلم عنها الفقهاء، وسَمَّوْ صاحبها بـ (المسترسل)، فإن البيع فيها يعتبر صحيحًا وإن كان مكروهًا، ولا يثبت الخيار فيها. والمسترسل: هو من لا يعرف القيمة. انظر: "أسنى المطالب" (2/ 42، ط. دار الكتاب الإسلامي).
وقال الإمام أحمد: [المسترسل: الذي لا يحسن أن يماكس. وفي لفظ: الذي لا يماكس. قال ابن قدامة: فكأنه استرسل إلى البائع, فأخذ ما أعطاه من غير مماكسة، ولا معرفة بغبنه] اهـ. انظر: "المغني" (4/ 18، ط. دار إحياء التراث العربي).
والمماكسة: هي المساومة، التي هي المجاذبة بين البائع والمشتري على السلعة وفصل ثمنها. انظر: "لسان العرب" 12/ 310، ط. دار صادر).
ودليل صحة هذا البيع: ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما "أن رجلًا ذكر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ يُخْدَعُ في البُيوعِ، فقالَ: «إذا بايَعْتَ فقُلْ: لا خِلابَةَ». ورواه ابن ماجه عن محمد بن يحيى بن حبان، قال: هو جدي منقذ بن عمرو، وكان رجلًا قد أصابته آمة في رأسه فكسرت لسانه، وكان لا يدع على ذلك التجارة، وكان لا يزال يغبن، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فذكر ذلك له فقال له: «إذا بايَعْتَ فقُلْ: لا خِلابَةَ». ثم أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال، فإن رضيت فأمسك، وإن سخطت فارددها على صاحبها». ومعنى «لا خِلابَةَ»: لا غبن ولا خديعة. وجعلها الشرع لإثبات الخيار، إذا قالها ثبت الخيار، صرح باشتراطه أم لا.
قال الإمام تقي الدين السبكي في "تكملة المجموع" (11/ 570، ط. المنيرية): [ووجه الدلالة منه -أي: الحديث المذكور- ظاهر؛ لأنه لو كان يثبت الخيار بالغبن لبَيَّنَه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يحتج أن يعد اشتراط خيار الثلاث، أو أن يجعل له الخيار ثلاثًا؛ بقوله: «لا خِلابَةَ»] اهـ.
وكذلك فإن المبيع -في ذلك النوع من البيوع- سليم، ولم يوجد من جهة البائع تدليس, وإنما فرط المشتري في ترك التحري والسؤال، فالتقصير منه، فانتفى موجب الخيار بذلك، ولم يجز له الرد. انظر "المهذب" للشيرازي (2/ 54، ط. دار الكتب العلمية).
وهذا هو مذهب الشافعية، قال الإمام السبكي في "التكملة" (11/ 572): [قال أصحابنا: يُكره غبن المسترسل. وإطلاق الكراهة في ذلك محمول على ما إذا لم يستنصحه المسترسل, أما إذا استنصحه فيجب نصحه, ويصير غبنه إذ ذاك خديعة محرمة, هكذا أعتقده من غير نقل. والمنقول عن مذهبنا ومذهب أبي حنيفة من القول بلزوم العقد لعله لا ينافي التحريم, أو محمول على ما إذا لم يستنصحه كما تقدم] اهـ.
وحتى فقهاء الحنابلة الذين أثبتوا الخيار للمسترسل؛ لوقوعه في الغبن، لم يجعلوا ذلك على إطلاقه، بل قالوا: إن البصير بالغبن يعتبر كالعالم بالعيب. وكذا لو استعجل، فجهل ما لو تَثَبَّت لعَلِمه، لم يكن له خيار؛ لأنه انبنى على تقصيره وتفريطه.
قال في "الإقناع" للحجاوي وشرحه "كشاف القناع" للبُهوتي من كتب الحنابلة (3/ 212، ط. دار الكتب العلمية): [وأما من له خبرة بسعر المبيع، ويدخل على بصيرة بالغبن، ومن غبن لاستعجاله في البيع، ولو توقف فيه ولم يستعجل لم يغبن، فلا خيار لهما؛ لعدم التغرير] اهـ.
وعليه: فإن البيع المسئول عنه صحيح ما دام قد استوفى الأركان والشروط الشرعية، ولا يمكن القول فيه بأكثر من الكراهة للبائع؛ للحاجة الملحة للشراء لدى الفقير. ولكننا مع ذلك نرشد التجار من الناحية الأخلاقية أن يعاملوا إخوانهم بما يحبون أن يعاملوا هم به لو كانوا مكانهم، وقد روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ».
وروى أبو داود عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ».
ولا ينبغي أن نقف عند هذا الحد من الأحكام المتقررة، بل لا بد من البحث عن حلول عملية تساعد المشتري الفقير على تخطي مثل هذه المشكلة، ولا يكون لها أعراض جانبية تضر بالاقتصاد، أو دورة المال في السوق. ومن ذلك على سبيل المثال:
1. إنشاء جمعيات تقوم بتمويل شراء هذه السلع، على أن يكون الربح فيها قليلًا.
2. إنشاء أسواق تختص بسلع العروس، وتخفض عليها الضرائب إذا كانت نسبة الأرباح فيها قليلة.
3. أن تجعل الجمعيات والأسواق المقترحة الأولويةَ فيها لليتيمات والفقيرات، حتى لا يزاحمهن فيها من غلب على نفوسهم الجشع، ويكون ذلك بقيام رقابة أمينة عليها.
ومما تقدم يعلم الجواب عن السؤال.
والله سبحانه وتعالى أعلم.