يُعَرَّف علم المنطق بأنه: آلةٌ قانونيـةٌ تعصم مراعاتُـها الذهنَ عن الخطأِ في الفكر. -ينظر: "تحرير القواعد المنطقية في شرح الرسالة الشمسية" (12، ط. الأزهرية المصرية)-، ويُطْلَق على عِلْم المنطق تسميات عدة، منها: فن النظر، وميزان العقول، ومعيار العلم. فهو في الحقيقة مجموعة من القوانين العقلية التي إِنْ راعاها الإنسان في التفكير استطاع أن يصل إلى النتائج الصحيحة الخالية من الخطأ، وهو بهذا الاعتبار علم لا يُذم؛ فالعلوم لا تذم من حيث هي علوم، إنما تذم باعتبار استعمالاتها واستخداماتها، وليست كل قواعد وقوانين المنطق بديهية، بل منها ما هو ضروري لا يحتاج إلى نظر وتأمل، ومنها ما هو نظري يحتاج إلى تأمل وتنبيه.
والتَّحْقيق أن ما نقل من ذم تعلم المنطق والتحذير منه، إنَّمَا هو خاص بالمنطق المختلط بكلام الفلاسفة الباطل، فالمنطق المختلط بكلام الفلاسفة قد وقع فيه الخلاف على ثلاثة أقوال، أشار إليها الشيخ الأخضري بقوله:
والـخلف في جواز الاشـتـغـال بــــــــــــــــه عـــلى ثــــلاثـــــــة أقـــوال
فابن الصلاح والنواوي حرما وقال قوم: ينبغي أن يعلما
والقولة المشهورة الصحيحة جـــوازه لـــكـــــامــل الـــقــريـحـة
مـمـــارسِ الـسـنة والـكــــتـــاب لــيهتدي به إلى الـصــواب
قال شارحه الشيخ الدمنهوري في "إيضاح المبهم من معاني السلَّم" (ص: 5، ط. مصطفى الحلبي): [واعلم أن هذا الخلاف إنما هو بالنسبة للمنطق المشوب بكلام الفلاسفة؛ كالذي في طوالع البيضاوي، وأما الخالص منها؛ كمختصر السنوسي، والشمسية، والسلَّم فلا خلاف في جواز الاشتغال به، بل لا يبعد أن يكون الاشتغال به فرض كفاية؛ لتوقف معرفة الشبه عليه، ومن المعلوم أن القـيام به فرض كفاية]. اهـ.
والقول الأول: وهو التحريم، وهو اختيار الإمام ابن الصلاح، والنووي، وابن تيمية، وحكاه السيوطي عن كثير من العلماء. ينظر: "الحاوي للفتاوي" (1/ 300، ط. دار الفكر).
وقيل: إن السبب في تحريم المنطق عند الإمام ابن الصلاح أنه يؤدي إلى الكبر، فإن مَن عرفه قويت حُجته على غيره فاستطال عليه بلسانه، ويؤدي ذلك إلى كبره وعجبه، والكبر والعجب كلاهما من أمراض القلوب وأمراض القلوب حرام، فيحرم على الإنسان السعي في تحصيلها. ينظر: "فتاوى السبكي" (2/ 644، ط. دار المعارف).
وهذ التعليل لا يقتصر فقط على تعلم المنطق بل إن ذلك يكون أيضًا في الحديث والنحو والصرف وفي كل العلوم، فكل هذه العلوم مَن أخذها دون تربية ودون عناية واهتمام بالإخلاص في تعلمه إياها أدى به هذا العلم إلى الكبر والعجب.
وقيل: إن السبب في حرمة علم المنطق عند الإمام النووي أنه يثير كثيرًا من الشُّبَهِ العَقْلِيَّة، ويجهد العقول ويشغلها عما هو أهم، ومذهبه أن كل ما هو عبث فهو حرام.
ومحل هذا التعليل هو المنطق المختلط بكلام الفلاسفة الباطل، ففيه من الشُّبَهِ التي تُؤَدِّي بصاحبها إلى الضلال إن لم يكن ممارسًا للكتاب والسنة، ومُمْتَلِئًا بالعقيدة الصحيحة، أما المشتغل والممارس للسنة والكتاب مع دقة فهمه لهما ذو العقيدة السليمة فله أن يتعلم المنطق المختلط بكلام الفلاسفة الفاسد؛ لِيَرُدَّ حجج الْمُبْطِلين بِجِنْسِ ما استدلوا به، ولإفحامهم بنفس أدلتهم، وما دام تعلمه لغرض دفع الشبه عن الدين انتفى كونه من العبث، فتزول حرمته، بل قد يصير واجبا في حقه.
وما ألفه الشيخ ابن تيمية في الرد على المنطقيين، فهو لم يرد عليهم إلا بعد أن تعلم المنطق وعرف قواعده؛ لأنه أراد نقضه من خلال قواعده، والذي توصَّل إليه بعد ذلك هو مجرد وجود بدائل منطقية رجَّحها لأن تكون بدائل عن القواعد التي وضعها المناطقة قبله، فما توصل إليه مجرد منطق لكن من وجهة نظر أخرى.
والقول الثاني: أنه ينبغي أن يُعلم، وهو المحكي عن الإمام الغزالي؛ فقد قال في مقدمة "المستصفى" (10، ط. دار الكتب العلمية): [وليست هذه المقدمة من جملة علم الأصول ولا من مقدماته الخاصة به، بل هي مقدمة العلوم كلها، ومَن لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلًا]. اهـ.
وما قاله الإمام الغزالي قال به عدد من المتأخرين بعده؛ كالآمدي، والبيضاوي، وابن الحاجب، وعدد من أئمة الإسلام.
وقوله في "السلم": "ينبغي"؛ ذكر الشيخ الملوي في "شرحه" (ص: 40، ط. مصطفى البابي الحلبي) أنه: [يحتمل أن يكون بمعنى يجب كفاية، ويحتمل أن يكون بمعنى يستحب]. اهـ.
القول الثالث: وفيه التفصيل، فيجوز تعلمه لكامل القريحة المزاول والممارس للسنة والكتاب بحيث يعرف العقائد الحقَّة من الباطلة، أما من لم تكمل قريحته ولم يمارس الكتاب والسنة فلا يجوز له الاشتغال به.
ومحل هذه الأقوال كما ذكرنا في السابق في المنطق المختلط بكلام الفلاسفة، أما المنطق الذي قد اعتنى العلماء المسلمون به واستخدموه في كتبهم وهو الخالي عن كلام الفلاسفة فالمختار في حكم تعلمه أنه فرض كفاية على مَن تصدى للدفاع عن الإسلام؛ لأن القدرة على رد الشبه لا تحصل إلا به، وردها فرض كفاية، وما يتوقف على الواجب فهو واجب.
وهو مستحب للمشتغلين بالعلوم الشرعية؛ لأن مَن لا يعرفه لا يستطيع أن يفرِّق بين صحيح العلوم وفاسدها، ولا يدركها كمال الإدراك، كما أنه يساعد على فهم المصطلحات المنطقية التي استعملها العلماء في كتبهم، فقد انتشرت المؤلفات متأثرة بهذا العلم في أصول الفقه، والفقه، وعلم الحديث، وفي علوم اللغة؛ كالنحو والصرف والبلاغة، ولا يمكن استيعاب هذه العلوم المختلفة، ولا إدراك بناء بعضها على بعض إلا بمعرفة الاصطلاحات المنطقية.
وقد نقل الشهاب ابن حجر الهيتمي في "فتاويه" عن القرافي المالكي جعله علم المنطق شرطًا من شرائط الاجتهاد، وأن المجتهد متى جهله سلب عنه اسم الاجتهاد. ينظر: "الفتاوى الفقهية الكبرى" (1/ 51، ط. المكتبة الإسلامية).
وبناءً على ما سبق: فإن تعلم علم المنطق الذي يساعد الإنسان في التفكير ويجعله يستطيع أن يصل إلى النتائج الصحيحة الخالية من الخطأ جائزٌ شرعًا، أما تعلم المنطق المختلط بكلام الفلاسفة الباطل فقد وقع فيه الخلاف بين العلماء على ثلاثة أقوال كما بينا.
والله سبحانه وتعالى أعلم.