ما حكم نقلُ الوديعة بسبب سفر المودع عنده؟ فهناك رجلٌ أودع أمانةً عند أحدِ الأشخاص ليحفظها له دون أجرٍ وسافَر، وطرأ للمودَع عنده سفرٌ عاجِل، فهل يجوز له أن ينقل هذه الأمانة إلى مَن يثق بهِ في حفظ ماله حتى عودتِه مِن سفرِه؟
لا يجوز للمودَع عنده نقلُ الوديعة دون إذنٍ مِن المودِع، ونقلُها موجِبٌ للضمان، إلا إن أودَعَها عند مَن يثق بهِ في حفظِ ماله، أو كان في حالةِ عذرٍ وضرورةٍ كالسَّفر، فيجوز له حينئذٍ أن ينقلها إلى مَن يثق بهِ في حفظِ ماله حتى يعود مِن سفره، ولا ضمان عليه في تلك الحالةِ، مع التأكيدِ على عدمِ التساهل في حفظ الأمانة، ومراعاة تسليمها لصاحبها عند طلبها دون نقصٍ أو تلفٍ.
المحتويات
أَمَرَت الشريعَةُ الإسلاميَّةُ بأداءِ الأماناتِ، وعدمِ تضييعِها أو التقصيرِ في حفظِها، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء: 58]، وقال جَلَّ وَعَلَا: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 27].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» أخرجه الإمامان: أبو داود والترمذي في "السنن".
قال الإمام زين الدين المُنَاوِي في "التيسير بشرح الجامع الصغير" (1/ 52، ط. مكتبة الإمام الشافعي): [(الأمانة) هي كل حقٍّ لزمك أَدَاؤُهُ (إلى مَن ائتمنك) عليها] اهـ.
والوديعةُ مِن عقود الأمانات، وهي مِن الوَدعِ بمعنى التَّرك، كما في "المصباح المنير" للعلامة الفَيُّومِي (2/ 653، ط. المكتبة العلمية)، والمراد بها: ما يَدفَعهُ الإنسان مِن المال لغيرِه ليحفظَه له ويَرُدَّه بعَيْنِه، وعلى هذا تعاوَرَت نصوصُ الفقهاء. كما في "رد المحتار" للإمام ابن عَابِدِين الحنفي (5/ 662، ط. دار الفكر)، و"شرح الإمام الخَرَشِي المالكي على مختصر خليل" (6/ 108، ط. دار الفكر)، و"روضة الطالبين" للإمام النَّوَوِي الشافعي (6/ 324، ط. المكتب الإسلامي)، و"الإنصاف" للإمام علاء الدين المَرْدَاوِي الحنبلي (6/ 316، ط. دار إحياء التراث العربي).
الوديعة إما أن تكون بأجرٍ أو بغير أجرٍ، فإن كانت بغير أجرٍ -كما هي مسألتنا- فهي عقدٌ لا ضمان فيهِ إلا بالتَّفريطِ والتَّعدِّي؛ لأنَّها "مَعرُوفٌ وَإِحسَانٌ، فَلو ضُمِنَت مِن غَيرِ عُدوَانٍ زَهَدَ النَّاسُ فِي قَبُولِهَا فَيُؤدِّي إِلَى قَطعِ المَعرُوفِ"، كما قال الإمام الشِّيرَازِي في "المهذَّب" (2/ 181، ط. دار الكتب العلمية).
ويُؤيِّد ذلك قولُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ أُودِعَ وَدِيعَةً فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ» أخرجه الأئمة: ابن ماجه والدارقطني والبيهقي في "السنن".
والفقهاء متفقون على أنَّ الضمانَ في الوديعةِ لا يَثبُت إلا بالتقصير والتعدي، كما في "بداية المجتهد" للإمام ابن رُشْدٍ الحفيد (4/ 94، ط. دار الحديث)، وحكى الإمامُ شهاب الدين القَرَافِي الإجماعَ عليه في "الذخيرة" (9/ 105، ط. دار الغرب الإسلامي).
والوديعة عقدٌ يُراعَى فيه الاعتبارُ الشَّخصِي، حيث يُقصَد منه حِفظُ المال، ولولا ثِقةُ المودِع في أمانة مَن أَودَع مالَه عندَه بخصوصِهِ ولشخصِهِ، وتعلَّقَت إرادتُه بإبقاءِ مالِه تحتَ يدِه، مَا دَفعَه إليه وديعةً.
ومِن هذا المُنطلق اتَّفق الفقهاءُ على عدم جواز نَقلِ المودَع عنده الوديعةَ إلى غيره دون إذنٍ مِن المودِع إلا في حالةِ العُذرِ والضرورةِ الملجئةِ، كما في "تبيين الحقائق" للإمام فخر الدين الزَّيْلَعِي الحنفي (5/ 77، ط. الأميرية)، و"الذخيرة" للإمام شهاب الدين القَرَافِي المالكي (9/ 163)، و"منهاج الطالبين" للإمام النَّوَوِي الشافعي (ص: 195، ط. دار الفكر)، و"المغني" للإمام مُوَفَّقِ الدِّين ابن قُدَامَة الحنبلي (6/ 439، ط. مكتبة القاهرة)، وهو ما جَرَى عليه القانون المدني رقم (131) لسنة 1948م في مادته رقم (721).
إلا أنهم اختلفوا في اعتبار إرادةِ السَّفر عذرًا مِن تلك الأعذار والضرورات الملجئة، والتي تُسَوِّغُ للمودَع عِندَه نقلَ الوديعة لأمينٍ دون إذنٍ مِن المودِع مِن غير أن يَضمنها.
فذهب الحنفية إلى أنَّ إرادة السَّفرِ ليست مِن جملة هذه الأعذار.
قال الإمام علاء الدين الكَاسَانِي في "بدائع الصنائع" (6/ 208، ط. دار الكتب العلمية): [فلو أراد السفرَ، فليس له أن يُودِعَ؛ لأنَّ السَّفَرَ ليس بعذرٍ] اهـ.
إلا أنَّه لما كانت الغَايَة عندَهم في الودائِع أن يَحفظها المودَع عنده كما يحفظ مالَه، فقد نصَّ الإمام محمد بن الحَسَن الشَّيْبَانِي في روايةٍ بأنَّ حِفظَ الوديعةِ يتحقَّق بحِفظ المودَع عنده لها بنَفْسه، أو بعيالِه، أو بمَن يَثِقُ بهِ في حِفظِ مالهِ، فلو نَقَلَ الأمانَةَ إليهِ لا يَضمن، وقد نُقِل عن شمس الأئمة الحَلْوَانِي بأنَّ هذه الرواية هي المُفتى بها في المذهب.
قال الإمام فخر الدين الزَّيْلَعِي في "تبيين الحقائق" (5/ 77): [وعن محمدٍ: أنَّ المودَع إذا دفع الوديعة إلى وكيله وليس في عياله، أو دفع إلى أمينٍ مِن أمنائِهِ ممن يثق به في ماله وليس في عياله -لا يَضمن؛ لأنه حَفِظَه مثلَ ما يَحفظ مالَه وجعله مثله، ولا يجب عليه أكثر مِن ذلك، ذكره في "النهاية" ثم قال: وعليه الفتوى، وعزاه إلى التُّمُرْتَاشِي، وهو إلى الحَلْوَانِي] اهـ.
بينما ذهب المالكيَّة إلى أنَّ السَّفر الطارِئ عذرٌ يَجُوز بهِ للمودَع عندَه نقلُ الوديعة مِن غير ضمانٍ إذا لم يستطع تسليم الوديعة لصاحبها عند سفره؛ لأنه يكون حافظًا لها في تلك الحالة.
والأصل فيه فِعلُ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما استخلَف سيدَنا عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه ليؤدِّيَ الودائعَ إلى أهلها، تقول أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها: «وَأَمَرَ -تعني رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ بِمَكَّةَ حَتَّى يُؤَدِّيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الْوَدَائِعَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ لِلنَّاسِ» أخرجه الإمام البيهقي في "السنن الكبرى"، وذكره الإمام ابن الأثير في "الكامل في التاريخ" (1/ 695، ط. دار الكتاب العربي).
قال الإمام ابن الحَاجِب في "جامع الأمهات" (ص: 404، ط. دار اليمامة): [وَيضمن بالإيداع وَالنَّقْل.. فَإِن أودع لعذرٍ كعورةِ منزلِه، أَو لسفرِه عِنْد عجزِ الرَّد، لم يضمن وَلَو لم يُشْهد] اهـ.
وقال الإمام أبو البَرَكَاتِ الدَّرْدِير في "الشرح الكبير" (3/ 423، ط. دار الفكر): [(و) ضَمِنَ (بإيداعها) عند أمينٍ.. (إلا) أن يودِع (لعورةٍ حدثت) للمودَع بالفتح، والمراد بالعورة: العُذر كهدم الدَّار وجارِ السُّوءِ (أو لسفرٍ) أي لإرادة سفر طرأ عليه (عند عجز الرَّدِ) لربِّها غائبًا أو مسجونًا مثلًا، فيجوز له إيداعها، ولا ضمان عليه إن تلفت أو ضاعت] اهـ.
وأمَّا الشافعية والحنابلة فقد وافقوا المالكية في اعتبارهم أنَّ السَّفر مِن جملة الأعذار التي لا يطالَب معها المودَع بالضمان إن نَقَل الوديعة، إلا أنهم اشترطوا في النقل ترتيبًا خاصًّا، فينقلها أولًا إلى الحاكم أو القاضي، فإن تعذَّر النقل لهم فله نقلها حينئذٍ إلى مَن يأمنه عليها، وإن خالف الترتيب دون عذرٍ ضَمِن، كما في "أسنى المطالب" لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي (3/ 76-77، ط. دار الكتاب الإسلامي)، و"شرح منتهى الإرادات" للإمام أبي السَّعَادَاتِ البُهُوتِي الحنبلي (2/ 356، ط. عالم الكتب).
إلا أنه قد نَصَّ بعض فقهاء الشافعية والحنابلة على أنَّ الترتيب المشروط خاصٌّ بالزَّمان الأول، ولم يَعُد معمولًا به في زمانهم؛ لفساد الزَّمان، كما أنَّ الأمِين قد يكون أحفظَ للوديعة وأحبَّ إلى صاحبها مِن غيره، فلا يضمن إن أودعها عند أمينٍ مع وجود الأسبق له في الترتيب، كما نقله شيخ الإسلام زكريا الأنصاري عن الإمام الفَارِقِي في "أسنى المطالب" (3/ 77)، ونصَّ عليه الإمام مُوفَّقُ الدين ابن قُدَامَة في "المغني" (6/ 439).
فإن كان الترتيب غير معمولٍ به في زمانهم، فإنَّ هذا الزَّمان أولى؛ لكثرةِ النَّاسِ، واختلاف عاداتِهم وأعرافِهم، وتغيُّرِ نمط الحياةِ عامَّةً عمَّا كان عليه عندهم.
هذا ولم يشترط القانون المدني المصري حال نقل الوديعة للضَّرُورَةِ -والتي منها السَّفر عند جمهور الفقهاء- أن يكون الترتيب على نحوٍ محدَّدٍ أو لأشخاصٍ معيَّنِين، حيث نصَّت مادتُه رقم (721) على أنَّه: [ليس للمودَع عنده أن يحل غيره محله في حفظ الوديعة دون إذنٍ صريحٍ مِن المودِع، إلا أن يكون مضطرًّا إلى ذلك بسبب ضرورةٍ ملجئةٍ عاجلةٍ] اهـ.
وحيث تقرَّر أنَّ السفر مِن جملة الضرورات، وأنه عاجلٌ -كما ورد في السؤال- فيترك الأمر فيه على المشروعيَّة والسَّعةِ، للمودَع عنده في نقل الوديعة لمن يثق فيه إن كان ذلك هو الأصلح في تقديره لحفظ الوديعةِ؛ إذ يختلف الحفظ في كلِّ شيءٍ بحسبه، على أن تكون مشروعية التصرف في الوديعة بالنقل إلى الأمين دون ضمانٍ، بالقدر المُحتاج إليه ولا تتعداه؛ "لِأَنَّ مَا ثَبَتَ لِلضَّرُورَةِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا"، كما في "قواعد الأحكام" لسلطان العلماء عِزِّ الدين بن عبد السلام (1/ 107، ط. مكتبة الكليات الأزهرية).
بناءً على ذلك: فإنَّه لا يجوز للمودَع عنده نقلُ الوديعة دون إذنٍ مِن المودِع، ونقلُها موجِبٌ للضمان، إلا إن أودَعَها عند مَن يثق بهِ في حفظِ ماله على ما ذهب إليه الإمام محمدٌ مِن الحنفية في روايةٍ، أو كان في حالةِ عذرٍ وضرورةٍ كالسَّفر، على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء مِن المالكية، والشافعية، والحنابلة، وجَرَى عليه القانون المدني المصري، كما سبق بيانه.
وفي واقعة السؤال: المودَعُ عنده المذكورُ الذي يريد أن يسافر بعد أن تحمَّل حفظ الوديعة المذكورة -له أن ينقلها إلى مَن يثق بهِ في حفظِ ماله حتى يعود مِن سفره، ولا ضمان عليه في تلك الحالةِ، مع التأكيدِ على عدمِ التساهل في حفظ الأمانة، ومراعاة تسليمها لصاحبها عند طلبها دون نقصٍ أو تلفٍ.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
ما مدى جواز اعتبار ما يُقَدَّم من تبرعات عينية ومادية لإرسالها إلى إخواننا في فلسطين من مصارف الزكاة؟
ما حكم ترك رخصة الإفطار للمسافر في رمضان؟ وذلك بأن يتمّ صيامه؛ لعدم وجود تعبٍ. وعلى أيّ توقيت يفطر عند الوصول للبلد الْمُسافَر إليها؟
ما حكم إخفاء أغراض الآخرين بقصد المزاح؟ حيث يقوم بعض الأصدقاء أحيانًا بإخفاء أغراض زملائهم بغرض المزاح وعمل ما يُسمَّى بـ (المقالب). فما حكم ذلك شرعًا؟
ماحكم سفر المرأة لمنحة علمية بدون محرم؟ فهناك امرأة متزوجة تعمل في مركز بحثي كبير، تيسَّر لها الحصولُ على منحة علمية خارج البلاد تستمر مدة ثلاثة أشهر، فهل يجوز لها السفر من غير زوج أو محرم لحضور هذه المنحة؟
سائل يسأل عن حكم الاستماع إلى الأغاني والموسيقى، وهل هو مباح مطلقًا؟
كيف حذرت الشريعة الإسلامية من التلاعب بقصد أكل أموال الناس بالباطل؟ نرجو منكم بيان ذلك.