عن كعب بن مالك رضي الله عنه: أنه كان يحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أخرجه مالك في "الموطأ"، والنسائي وابن ماجه في "سننيهما".
الذي دلَّت عليه الأخبار أنَّ مستقرَّ الأرواحِ بعد المفارقة مختلفٌ؛ فمستقرُّ أرواحِ الأنبياء عليهم السلام في أعلى عِليِّين، وصحَّ أنَّ آخر كلمةٍ تَكلَّمَ بها صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم الرفيق الأعلى، وهو يؤيِّدُ ما ذكر.
ومستقرُّ أرواحِ الشهداء في الجنَّة تَرِدُ من أنهارها وتأكل من ثمارها وتأوِي إلى قناديل معلقة بالعرش، ورُويَ في أرواح أطفال المؤمنين ما هو قريبٌ من ذلك.
وروى ابن المبارك رضي الله عنه عن كعبٍ رضي الله عنه قال: "جنَّةُ المأوى جنَّةٌ فيها طيرٌ خُضر ترعى فيها أرواح الشهداء على بارق نهرٍ ببابِ الجنَّةِ في قُبَّةٍ خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنَّةِ بُكرَةً وعشيًّا".
وأما مستقرُّ أرواحِ سائر المؤمنين، فقيل: في الجنَّةِ أيضًا وهو نصُّ الإمامِ الشَّافِعِي، ويؤيده الحديث الذي بين أيدينا.
وروى ابن منده من حديث أمِّ بشرٍ رضي الله عنهما مرفوعًا ما هو نصٌّ في أنَّ مستقرَّ أرواحِ المؤمنينَ نحوَ مستقرِّ أرواح الشُّهداءِ، وقال وهب بن مُنَبِّهٍ رضي الله عنه: "إن لله تعالى في السماء السابعة دارًا يقال لها: "البيضاء"، يجتمع فيها أرواحُ المؤمنين، ومستقرُّ أرواح الكفَّار في سجِّين".
وفي حديث أمِّ بشرٍ رضي الله عنها: أن أرواح الكفار في حواصل طيرٍ سُود، تأكُلُ من النَّار وتشرب من النَّار، وتأوِي إلى جُحرٍ في النَّار، يقولون: ربنا لا تُلحق بنا إخواننا ولا تؤتِنا ما وعدتنا.
وقيل: مستقرُّ أرواحِ الموتَى أفنيةُ قبورِهم، وحكى هذا الإمام ابن حزم عن عامَّة أهلِ الحديث، واستدلَّ له بعضُهم بحديثِ ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ»، وبأنه صلى الله عليه وآله وسلم حين زار الموتى قال «السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤمِنينَ» رواه مسلم.
ورجَّحَ الإمامُ ابنُ عبد البرِّ أنَّ مُستقرَّ أرواح ما عدا الشهداء بأفنية القبور.
ويجمع هذه الأقوال ما ذكره الإمام العارف ابن برجمان في "شرح أسماء الله الحسنى"؛ حيث قال: "والنفس مبرأةٌ من باطن ما خلق منه الجسم، وهي روح الجسم، وأوجد تبارك وتعالى الروح من باطن ما برأ منه النفس، وهي للنفس بمنزلة النفس للجسم، والنفس حجابه، والروح توصف بالحياة وبإحياء الله عزَّ وجلَّ له وموته، أي الروح خمودٌ إلا ما شاء الله يوم خمود الأرواح، والجسم يوصف بالموت حتى يجيء بالروح، وموته مفارقة الروح إياه، وإذا فارق هذا العبد الروحاني الجسم صعد به:
- فإن كان مؤمنًا فتحت له أبواب السماء حتى يصعد إلى ربِّه عزَّ وجلَّ، فيؤمر بالسجود فيسجد، ثم يجعل حقيقته النفسانيَّة تعمر السفل من قبره إلى حيث شاء الله من الجو، وحقيقته الرُّوحانية تعمر العلو من السماء الدنيا إلى السابعة في سرورٍ ونعيمٍ؛ ولذلك لقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موسى عليه السلام قائمًا في قبره يصلي، وإبراهيم عليه السلام تحت الشجرة قبل صعوده إلى السماء الدنيا، ولقيهما في السماوات العُلَى، فتلك أرواحهما وهذه نفوسهما وأجسادهما في قبورهما.
- وإن كان شقيًّا لم يفتح له فيرمى من علوٍّ إلى الأرض.
والذي ينبغي أن يُعَوَّلَ عليه مع ما ذُكِر أنَّ الأرواح -وإن اختلف مستقرها بمعنى محلها الذي أعطيته بفضل الله تعالى جزاء عملها- لها جَوَلَانًا في مُلك الله تعالى حيث شاء جلَّ جلاله، ولا يكون إلا بعد الإذن، وهي متفاوتة في ذلك حسب تفاوتها في القرب والزُّلفَى من الله تعالى، حتى إنَّ بعضَ الأرواح الطَّاهرة لتظهر فيراها من شاء الله تعالى من الأحياء يقظةً، وأنَّ أرواحَ الموتى تتلاقَى وتتزاوَر وتتذاكَر، وقد تتلاقى أرواح الأموات والأحياء منامًا، ولا يُنكر ذلك إلا من يجعل الرؤيا خيالاتٍ لا أصل لها، وذلك لا يُلتفت إليه، لكن لا ينبغي أن يبنى على ذلك حكم شرعي؛ لاحتمال عدم الصِّحَّةِ وإن قامت قرينةٌ عليها.
هذا بالنسبةِ للموت. أما بالنسبة للنوم -والذي يعد الموت الأصغر-؛ فقد قال بعضهم: إذا نام الإنسان تخرج منه روحه؛ كما رُوي في الخبر: «الأَرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَة؛ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» رواه البخاري.
يعني: الأرواح إذا تعارفت وقعت الألفة بين الأبدان، وإذا لم تتعارف الأرواح تناكرت الأبدان.
وقال: إن الروح إذا خرجت في المنام من البدن يبقى فيه الحياة، فلهذا تكون فيه الحركة والنفس، وإذا انقضى عمره خرجت روحه وتنقطع حياته، وصار ميتًا لا يتحرك ولا يتنفس.
فإن قيل: لو خرجت روحه فكيف لا يتوجع لخروجه إذا نام؟
قيل: لأنه يخرج بطيبة نفسه، ويعلم أنه يعود، وأما إذا انقطع عمره خرج بالكُرْهِ، فتوجع له.
وقال بعضهم: لا تخرج منه الروح، ولكن يخرج منه الذهن، وهو الذي يسمى بالفارسية "روان".
وقال بعضهم: إنما هو ثقل يدخل في نفسه، وهو سبب لراحة البدن وغذائه؛ كقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتًا﴾ [النبأ: 9] أي: راحة.
ويقال: هذا أمر لا يعرف حقيقته إلا الله تعالى، وهذا أصحُّ الأقاويل".
المصادر:
- "تفسير الآلوسي".
- "تفسير السمرقندي".