يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا» رواه أحمد.
حرص الإسلام على دفع الإنسان دفعًا متواصلًا وحثيثًا لتحقيق عمارة الأرض التي استُخْلِفَ فيها، والاستفادة مما سخَّره الله فيها لينفع نفسه وغيره في تحقيق حاجاته وإشباعها؛ قال تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾ [هود: 61]، فــقوله: ﴿اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ أي: جعلكم عُمَّارها وسكَّانها؛ قال الإمام الضحاك: [أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن وغرس أشجار] اهـ، وقال الإمام ابن العربي: [قال بعض علماء الشافعية: الاستعمار طلب العمارة، والطلب المطلق من الله تعالى على الوجوب] اهـ. فالآية تؤكد وجوب عمارة الأرض.
قال الإمام الجصاص في "أحكام القرآن": [وقوله: ﴿اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ يَعْنِي: أَمَدّكم مِنْ عِمَارَتِهَا بِمَا تَحْتَاجُونَ إلَيْهِ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ عِمَارَةِ الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ، وَالْغِرَاسِ، وَالْأَبْنِيَةِ] اهـ.
ولقد استخدم الإمام على كرّم الله وجهه لفظ العمارة للدلالة على التنمية في خطابه لواليه في مصر مالك بن الحارث الأشتر رضي الله عنه، جاء فيه: "وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب خراجها؛ لأن ذلك لا يُدْرَك إلا بالعمارة".
وعمارة الأرض لا تقوم إلا بالعمل؛ لأن العمل هو شرط الملكية، وكل عمل ابن آدم محاسب عليه، قال تعالى: ﴿وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 129].
ولِعِظَمِ مكانة العمل ذكره القرآن الكريم مقرونًا بالإيمان في أكثر من سبعين آية من آياته، وقد حثَّ الإسلام على العمل، وأعلى من شأنه وبيَّن أهميَّتَهُ، فحياةُ الإيمان بدون عملٍ هي عقيمٌ؛ كحياة شجرٍ بلا ثمرٍ، ودائمًا ما كان يحثُّ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم على العمل والبناء، وحرِصَ الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على الحثِّ على العملِ؛ فهذا سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان يهتم بالعمل والترغيب فيه، فيقول: "ما من موضع يأتيني الموت فيه أحب إلىَّ من موطنٍ أتسوَّقُ فيه لأهلي أبيع وأشتري"، وعن عائشة رضى الله عنها قالت: "كان أبو بكر رضى الله عنه اتجر مع قريش حتى دخل في الإمارة".
ولقد خلق الله الإنسان وأوجده في هذه الحياة لأجل تحقيق أمور ثلاثة هي جوهر وجوده ووظيفته على الأرض، وهي عبادة الله، وعمارة الأرض، وتزكية النفس.
فعبادة الله هي الغاية التي خلق الله تعالى الخلق لأجلها؛ فقال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].
وبعث الله الرسل للخلق؛ لأجل تحقيق هذه الغاية من خلق الإنسان؛ فقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25]، وما إن تتحقق هذه المهمة- شريطة أن تكون خالصة لله تعالى- إلا وتبدو آثارها على الخلق ظاهرة، متمثلة في صلاح الفرد والمجتمع، بل الكون كله، فالعبادة الحق هي الضمانة للإنسان من أن تنحرف نفسه البشرية إلى مهاوي الضلال والتطرف.
أما تزكية النفس فهي من مقاصد القرآن الكريم؛ قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۞ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۞ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ۞ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 7-10]؛ لذا نجد أن النصر والتوفيق مرتبط بهذه التزكية، وأيضًا الهزيمة مرتبطة بالتقصير والإهمال في حقِّها، وبما أن التزكية سببٌ للوصول إلى الجنة في الآخرة، فهي أيضًا سببٌ للوصول إلى جنة الدنيا وزهرتها؛ لأنها تهذب سلوك الإنسان بعد أن هذبت أخلاقه، فكان انعكاس صلاحها على جميع أفعال المرء المسلم في حياته أمرًا واقعًا لا محالة، وأصبحت أفعالًا تساهم في البناء والعمران.
أما المهمة الثالثة، فهي عمارة الأرض التي اعتنى بها الإسلام عناية شديدة؛ لأن العمل مطلوب في الإسلام لعمارة الأرض، قال تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾، فالمتأمل في فقه البناء والعمارة في الإسلام يجد أن الإسلام اهتم بالإنسان أولًا، وبإعمار نفسه وتزكيتها ثانيًا حتى يصل إلى إعمار الكون حوله، فإعمار النفوس هو الأساس الذى يُبنى عليه إعمار الأرض؛ لأنه لا يمكن التأسيس لأية حضارة راقية إلا بإعمار وتزكية الجانب الخُلقي للإنسان؛ قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [الروم: 30].
ولقد أشاع الإسلام ثقافة الإحياء، وحثَّ عليها؛ فقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32]؛ لأجل تحقيق السِّلمِ الاجتماعي، ولم يكن هذا مقصورًا على الإسلام فحسب؛ بل إن كلَّ الأديان جاءت لتحقيق السلم الاجتماعي في مجمل رسالاتها، ووقفت ضد كل ما يهدد هذا السلم، سواء جاءه التهديد من الداخل أو الخارج، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة المنورة من إشاعة مبدأ تعزيز السلم، ومحاربة كل ما يهدده، حتى لو تستر هذا التهديد بستار الدين، أو اتخذه قناعًا يخفى خلفه مآربه السيئة، بل إن الإسلام اعتبر المشاركة أو الدعوة إلى تكدير السلم، وإشاعة الإرهاب والفوضى، والإفساد في الأرض من الذنوب الكبائر، بل من الآثام التي لا تلحق بالجناة فقط، إنما كل من أيد وارتضى هذه الخطايا فهو كمن شهدها أو شارك فيها.
وكما حضَّ الإسلام على إحياء النفس، حضَّ على إحياء الأرض إلى آخر لحظة من لحظات معيشة الإنسان على وجه الأرض؛ كصورة من صور الإعمار واستدامة هذا الإعمار إلى آخر مداه الذي يمكن فيه وبه تحقيق هذه الاستدامة، فكان الحديث الذي بين أيدينا: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا».
يقول الشيخ الشعراوي: [بعض الناس يقول: نعبد الله ولا نعمل. نقول لهم: العبادة هي طاعة عابد لأمر معبود، ولا تفهموا العبارة على أساس أنها الشعائر فقط، فالشعائر هي إعلان استدامة الولاء لله، وتعطي شحنة لنستقبل أحداث الحياة، ولكن الشعائر وحدها ليست كل العبادة، فالمعاملات عبادة، والمفهوم الحقيقي للعبادة أنها تشمل عمارة الأرض؛ فالحق سبحانه وتعالى قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ [الجمعة: 9]] اهـ.
ويقول صاحب "فيض القدير" في بيان مغزى الحديث: [الحاصل: أنه مبالغة في الحث على غرس الأشجار، وحفر الأنهار؛ لتبقى هذه الدار عامرة إلى آخر أمدها المحدود المعدود المعلوم عند خالقها، فكما غرس لك غيرك فانتفعت به فاغرس لمن يجيءُ بعدك؛ لينتفع وإن لم يبق من الدنيا إلا صبابة، وذلك بهذا القصد لا ينافي الزهد والتقلل من الدنيا] اهـ.
ويصبُّ حديث «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلَ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ» رواه أحمد، في نفس مجرى حديث "الفَسِيْلَة" فيؤيِّدُهُ ويبين الجزاءَ الأُخروي على هذا العمل الجليل.
ويقول صاحب "فيض القدير" في بيان مغزى هذا الحديث: [هذا الحديث -كما ترى- مَدْحٌ لعمارة الأرض، ويوافقه قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ وقوله: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا﴾، وورد في أخبار وآيات أخر ذم عمارتها كخبر: "الْدُّنْيَا قِنْطَرَة فَاعْبُرُوْهَا وَلَا تَعْمُرُوهَا".
وفي الحقيقة لا تَعَارُض ولا تَخَالُف؛ فإن ما جاء في ذم الدنيا وعمارتها فباعتبار من رضيها حقًا لنفسه، وجعلها قاضيةَ مراده؛ كما قال تعالى: ﴿وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا﴾ [يونس: 7].
وما جاء في مدحها فباعتبار تناولها واتفاق ما يحصل من الغلَّات على ما يحمد؛ ولذلك قال علي كرم الله وجهه: "إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا، وَدَارُ غِنًى لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا"] اهـ.
المصادر:
- "أحكام القرآن" لابن العربي.
- "أحكام القرآن" للجصَّاص.
- "خطاب الإمام علي بن أبي طالب لمالك بن الحارث الأشتر".
- "فيض القدير" للمناوي.
- "تفسير الشيخ الشعراوي".