عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ».
قال في "فيض القدير" (2/ 321): [المراد أنه لما بدأ في أول وهلة نهض بإقامته والذَّبِّ عنه ناسٌ قليلون من أشياع الرسول، ونزاع القبائل فشرَّدوهم عن البلاد ونفورهم عن عقر الديار، يصبح أحدهم معتزلًا مهجورًا ويبيت منبوذًا كالغرباء ثم يعود إلى ما كان عليه لا يكاد يوجد من القائمين به إلا الأفراد.
ويحتمل أن المماثلة بين الحالة الأولى والأخيرة قلَّةُ ما كانوا يتدينون به في الأوَّل وقلة من يعملون به في الآخِر.
ثم إنه أكد ذلك بقوله: «كَمَا بَدَأ» ولم يكتف بقوله: «وَسَيَعُودُ غَرِيبًا» لما في الموصول من ملاحظة التَّهويل، وأراد بــ«الْإِسْلَامُ» أهله؛ لدلالة ذكر الغرباء بعده. ذكره جَمعٌ] اهـ.
وقال الطيبي في "الكاشف" (2/ 626): [إما أن يستعار الإسلام للمسلمين؛ فالغربة هي القرينة، فيرجع معنى الوحدة والوحشة إلى نفس المسلمين.
وإما أن يجري الإسلام على الحقيقة؛ فالكلام فيه تشبيهٌ والوحدة والوحشة باعتبار ضعف الإسلام وقلَّته.
فعليه: «غَرِيبًا» إما حال. أي: بدأ الإسلام مشابها للغريب، أو مفعولًا مطلقًا. أي: ظهر ظهور الغريب حين بدأ فريدًا وحيدًا ثم أتمَّ الله نورَه فأنبت في الآفاق، فبلغ مشارق الأرض ومغاربها، ثم يعود في آخر الأمر فريدًا وحيدًا شريدًا إلى طيبةَ".
ومن المدينة ينطلق من جديد فيملأ مشارق الأرض ومغاربها؛ كما جاء في الحديث في "سنن أبي داود": «وَيُلْقِي الْإِسْلَامُ بِجِرَانِهِ فِي الْأَرْضِ»] اهـ.
ويبين أبو طالب المكِّيُّ الصفات الجامعة للغرباء الذين سيعود الإسلام بهم من جديدٍ فيملأُ مشارقَ الأرضِ ومغاربَها؛ فيقول في "قوت القلوب" (1/ 248): [من كان من علماء الآخرة فعقله يستضيء من أنوار قلبه، وفهمه ينبئ عن استنباط علمه، ومشاهدته وأخلاقه على معاني يقينه وقوته، وطريقه وسلوكه في منهاج سنته وسبيله، فهو من إخوانه، وإخوان النبيين، الذين اشتاق إلى رؤيتهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ، وهم الغرباء بين الملأِ، الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»، قيل: وَمَنِ الغُرَباء؟ قال: «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ»، وفي لفظ آخر: «الَّذيِنَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَهُ النَّاسُ مِنْ سُنَّتِي» و «الَّذِينَ يُحْيُونَ مَا أَمَاتَ النَّاسُ مِنْ سُنَّتِي» يعني: أنهم يظهرون طريقته التي تركها الناس وجهلوها.
وفي خبرٍ آخر: «هُمُ المُتَمَسِّكُونَ بِسُنَّتِي وَمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ اليَوْمَ»، وفي حديثٍ آخرَ: «الغُرَبَاءُ نَاسٌ قَلِيْلُونَ صَالِحُونَ بَيْنَ نَاسِ سُوءٍ كَثِيْريِنَ، مَنْ يَبْغَضُهُمْ أًكْثَر مِمَّنْ يُحِبُّهُمْ»، فهؤلاء الغرباء الذين قد أنعم الله عليهم بمرافقة النَّبيين في أعلى عليين؛ فقال عزَّ مِن قائلٍ: ﴿مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ﴾ إلى قوله: ﴿رَفِيقًا﴾] اهـ.
وعن سِرِّ الغُربة يحدِّثنا الحافظ ابن رجب الحنبلي فيقول: [المؤمنُ يُستضعفُ فيعادِيه عمومُ النَّاسِ؛ لأنَّ الإسلامَ بدأَ غريبًا ويعودُ غريبًا كما بدأ فطوبَى للغرباءِ.
فعمومُ الخلقِ يستضعفُه ويستغربُه ويؤذيه لغربتهِ بينَهم.
وأمَّا الكافرُ والمنافقُ أو الفاجر الذين كالصنوبرِ، فإنَّه لا يُطمعُ فيه، فلا الرياحُ تزعزعُ بدنَه ولا يُطمعُ في تناوله ثمرتهِ لامتناعِها] اهـ.
المصادر:
- "فيض القدير" للإمام المناوي.
- "قوت القلوب" للإمام أبي طالب المكي.
- "روائع التفسير" (الجامع لتفسير الإمام ابن رجب الحنبلي).
- "شرح الطيبي على مشكاة المصابيح" المسمى بـ"الكاشف عن حقائق السنن".