عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ: «مِنْ أَقَالَ مُسْلِمًا، أَقَالَ اللهُ عَثْرَتَهُ».
لمّا كانت المواساة لا تقتصر على مشاركة المسلم لأخيه في المال والجاه أو الخدمة والنّصيحة.. أو غير ذلك، فإنَّ من المواساة مشاركةُ المسلم في مشاعره خاصَّةً في أوقات حزنه، وعند تعرُّضه لما يعكِّر صفوَه، وهنا فإنَّ إدخال السّرور عليه، وتطييبَ خاطره بالكلمة الطَّيِّبَةِ، أو المساعدةِ الممكنةِ بالمال أو الجاهِ، أو المشاركة الوجدانيَّة هو من أعظم المواساة وأجلِّ أنواعها، وقد كان صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يواسي بالقليل والكثير، وقد علَّمنا أنَّ من أقال مسلمًا من عثرته أقال الله عثرتَه، وأنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يزال في حاجة العبد مادام العبد في حاجة أخيه.
إنَّ حاجةَ المسلم تتنوَّع وتختلف من موقفٍ إلى آخر؛ فهناك من تكون حاجته إلى المال، وهناك من تكون حاجته إلى عمل أو وظيفة، وهناك من تكون حاجته إلى كلمة طيِّبة، وهناك من تكون حاجته إلى دفع الظُّلم عنه، وهناك من تكون حاجته إلى مشاركة النَّاس له في أتراحه أو أفراحه، وهناك من تكون حاجته في وضع الدَّين عنه أو إرجائه، إلى غير ذلك من الحاجات وكلُّ ذلك يدخل في إطار القاعدة العامَّة للمواساة، وهي أن يكون المسلم في حاجة أخيه، وعلى المسلم أن يعرف أنَّ فائدة هذه المواساة لا ترجع إلى صاحب الحاجة (المُوَاسَى) فقط، وإنّما تشمل أيضًا (المُوَاسِي)؛ لأنَّ الله عزَّ وجلَّ يقف إلى جانبه ويكون في حاجته، هذا في الدُّنيا، ويجازيه عليها أفضل جزاء يوم القيامة، وقد أخبر الصَّادق المصدوق صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنَّ من لقي أخاه بما يحبُّ ليسرَّه بذلك سرَّه الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة.
لقد حفلت سير أعلام النُّبلاء بنماذج مشرِّفة من المواساة، ومن تأمَّل هذه الصّفحات المشرقة التي حفلت بها سِيَرُ هؤلاء يتَّضح أنَّ مجالسة المساكين والتَّحدُّث معهم فيه جبر خاطرهم وإدخال السرور عليهم، وإذا كان الإنسان واجدًا فإنّه كان يتكفَّل بنفقة هؤلاء وإعالتهم مع المحافظة على كرامتهم وتقديم المعونة لهم سرّا.
ولقد ذكر الإمام الغزالي في "إحيائه" أنَّ من المراتب التي تنال بها رتبة الإحسان في المعاملة: "أَنْ يُقِيلَ مَنْ يَسْتَقِيلُهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيلُ إِلَّا مُتَنَدِّمٌ مُسْتَضِرٌّ بِالْبَيْعِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ سَبَبَ اسْتِضْرَارِ أخيه؛ ثم ذكر قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ أَقَالَ نَادِمًا صَفْقَتَهُ، أَقَالَ اللهُ عَثْرَتَهُ يوم القيامة».
فما هي الإقالة؟ وما تعريفها من الوجهة الشرعية؟
هي في اصطلاح الفقهاء: توافق المتعاقدين على رفع العقد القابل للفسخ بخيار؛ فمن التعريف نعلم أن الإقالة إنما تكون في العقود اللازمة، أي التي إذا تمَّت -بتحقق شروطها وكمال أركانها- لم يكن للمتعاقد فسخها إلا بموافقة الطرف الآخر.
أما العقود الجائزة -وهي التي لكلٍّ من العاقدين فسخها متى شاء، ولو لم يرض الطرف الآخر- فلا داعي فيها للإقالة.
وكذلك نعلم من التعريف أنَّ الإقالة إنما تكون في العقود التي تقبل الفسخ؛ كالبيع والإجارة ونحو ذلك، أما العقود التي لا تقبل الفسخ -كالنكاح- فلا إقالة فيها.
والإقالة مشروعة، بل هي مندوبة إذا طلبها أحد المتعاقدين، لما فيها من التيسير على الناس، وتخليصهم مما يظنون أنه ورطة يندمون على الوقوع فيها؛ فقد يعقد أحدهم عقدًا ثم يرى أنه مغبون فيه، أو أنه ليس بحاجة إليه، فيبقى في غمٍّ وكربٍ، ويكون في إقالته منه تنفيس لكربه وتفريج لغمِّه وفي ذلك من الأجر ما فيه.
وللإقالة شروط يجب استيفاؤها حتى تتم وتصح، وهما شرطان أساسيان:
- الشرط الأول: رضا المتقايلَيْن بها، كما عُلم من قولنا في التعريف: (بخيار). فلو كان أحدهما مكَرهًا لم تصح؛ لأنها فسخ للعقد، فيلزم لها ما يلزم له من الرضا والاختيار.
- الشرط الثاني: ألَّا يكون فيها زيادة ولا نقصان عن أصل العقد، فلا يُزاد في أحد البدلين ولا يُنقص منه؛ لأنها -كما قلنا-فسخ، أي رفع للعقد الذي جرى، وعودة بالمتعاقدين إلى ما كانا عليه قبل العقد.
ولذا لو كانت الإقالة في البيع، وزاد المبيع زيادة منفصلة متولِّدة من الأصل، كأن يكون المبيع شاة فَتَلِد، امتنعت الإقالة.
وبناءً على ذلك تصحُّ على الزِّيادةِ والنُّقصانِ.
وهذا ما يجري عليه أكثرُ النَّاس في أيامنا هذه؛ إذ إنهم لا يرضَوْن بالإقالة، ما لم يكن من طالبها تنازل عن شيء من حقِّه، أو أن يعطي الطرف الثاني ما يرضيه ليرجع عن العقد ويقبل برفعه.
المصادر:
- "إحياء علوم الدين" لأبي حامد لغزالي.
- "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" للكاساني.
- "نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم".