هي أم المؤمنين السيدة صَفِيَّةُ بنت حُيَيِّ بن أخطب بن سعنة، أبوها سيد بني النضير وأحد زعماء اليهود، وأمها هي برة بنت سموأل، من بني قريظة.
كانت مع أبيها وابن عمها بالمدينة المنورة، فلما أجلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني النضير ساروا إلى خيبر، وقُتل أبوها مع من قُتل مِن بني قريظة.
تزوجها قبل إسلامها سلام بن مكشوح القرظي -وقيل: سلام بن مشكم- فارس قومها ومن كبار شعرائهم، ثم تزوّجها كنانة بن أبي الحقيق، وقتل كنانة يوم خيبر، وأُخذت هي مع الأسرى، فاصطفاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنفسه، وخيَّرها بين الإسلام والبقاء على دينها قائلاً لها: «اختاري، فإن اخترت الإسلام أمسكتك لنفسي -أي: تزوَّجتك-، وإن اخترت اليهودية فعسى أن أعتقك فتلحقي بقومك»، فقالت: يا رسول الله، لقد هويت الإسلام وصدقت بك قبل أن تدعوني؛ حيث صرت إلى رحلك وما لي في اليهودية أرب، وما لي فيها والد ولا أخ، وخيرتني الكفر والإسلام، فالله ورسوله أحب إليَّ من العتق وأن أرجع إلى قومي.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعتقها وتزوَّجها، وجعل عتقها صداقها، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ خَيْبَرَ، فَلَمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ الحِصْنَ ذُكِرَ لَهُ جَمَالُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَقَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا، وَكَانَتْ عَرُوسًا، فَاصْطَفَاهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ لِنَفْسِهِ، فَخَرَجَ بِهَا حَتَّى بَلَغْنَا سَدَّ الرَّوْحَاءِ حَلَّتْ فَبَنَى بِهَا، ثُمَّ صَنَعَ حَيْسًا فِي نِطَعٍ صَغِيرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «آذِنْ مَنْ حَوْلَكَ»، فَكَانَتْ تِلْكَ وَلِيمَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ عَلَى صَفِيَّةَ، ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى المَدِينَةِ قَالَ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ يُحَوِّي لَهَا وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ، ثُمَّ يَجْلِسُ عِنْدَ بَعِيرِهِ، فَيَضَعُ رُكْبَتَهُ فَتَضَعُ صَفِيَّةُ رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ حَتَّى تَرْكَبَ. رواه البخاري في "صحيحه" (3/ 84).
ووجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخدها لطمة فقال: «مَا هَذِه»، فقالت: إني رأيت كأن القمر أقبل من يثرب، فسقط في حجري، فقصصت المنام على ابن عمي ابن أبي حقيق فلطمني، وقال: تتمنين أن يتزوجك ملك يثرب، فهذه من لطمته.
وكان هدف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من زواجها إعزازها وإكرامها ورفع مكانتها، إلى جانب تعويضها خيرًا ممن فقدت من أهلها وقومها، ويُضَاف إلى ذلك إيجاد رابطة المصاهرة بينه وبين اليهود لعله يخفِّف عداءهم، ويمهد لقبولهم دعوة الحقِّ التي جاء بها.
وأدركت صفية رضي الله عنها ذلك الهدف العظيم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ووجدت الدلائل والقرائن عليه في بيت النبوة، فأحسَّت بالفرق العظيم بين الجاهلية اليهودية ونور الإسلام، وذاقت حلاوةَ الإيمان، وتأثَّرت بخلق سيد الأنام، حتى نافس حبُّه حبَّ أبيها وذويها والناس أجمعين، ولما مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تأثَّرت رضي الله عنها لمرضه، وتمنت أن لو كانت هي مكانه، فقد أورد ابن حجر في "الإصابة" وابن سعد في "الطبقات"، عن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه الذي توفى فيه، واجتمع إليه نساؤه، فقالت صفية بنت حيي: إني والله يا نبي الله لوددتُ أنَّ الذي بك بي، فتغامزت زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «وَاللهِ إِنَّهَا لَصَادِقَةٌ».
كانت رضي الله عنها امرأةً شريفةً، عاقلةً، ذاتِ حسبٍ أصيلٍ، وجمال ورثته من أسلافها، وكان من شأن هذا الجمال أن يؤجِّج مشاعر الغيرة في نفوس نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد عبَّرت السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها عن ذلك بقولها: ما أرى هذه الجارية إلا ستغلبنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي ضوء ذلك، يمكن أن نفهم التنافس الذي حصل بين صفية رضي الله عنها وبين بقيَّة أمهات المؤمنين، ومحاولاتهنَّ المتكرِّرة للتفوُّق عليها، ولم يَفُتْ ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكان يُسلِّيها ويهدئ ما بها، تقول صفيّة رضي الله عنها: دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد بلغني عن عائشة وحفصة كلام، فقلت له: بلغني أن عائشة وحفصة تقولان نحن خير من صفية، نحن بنات عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأزواجه، فقال: «أَلَا قُلْتِ: فَكَيْفَ تَكُونَانِ خَيْرًا مِنِّي، وَزَوْجِي مُحَمَّدٌ وَأَبِي هَارُونُ وَعَمِّي مُوسَى».
ومن مواقفها الدالة على حلمها وعقلها، ما ذكرته كُتب السير من أن جارية لها أتت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالت: إن صفية تحب السبت، وتصل اليهود، فبعث عمر يسألها، فقالت: أما السبت فلم أحبه منذ أبدلني الله به الجمعة، وأما اليهود فإنَّ لي فيهم رحمًا فأنا أصلها، ثم قالت للجارية: ما حملكِ على ما صنعت؟ قالت: الشيطان. قالت: اذهبي فأنت حرَّة.
ولم تكن رضي الله عنها تدَّخر جهدًا في النصح وهداية الناس، ووعظهم وتذكيرهم بالله عز وجل، ومن ذلك أن نفرًا اجتمعوا في حجرتها، يذكرون الله تعالى ويتلون القرآن، حتى تُليت آية كريمة فيها موضع سجدة، فسجدوا، فنادتهم من وراء حجاب قائلة: هذا السجود وتلاوة القرآن، فأين البكاء.
ولقد عايشت رضي الله عنها عهد الخلفاء الراشدين، حتى أدركت زمن معاوية رضي الله عنه، ثم كان موعدها مع الرفيق الأعلى سنة خمسين للهجرة، لتختم حياة قضتها في رحاب العبادة، دون أن تنسى معاني الأخوة والمحبة التي انعقدت بينها وبين رفيقاتها على الدرب، موصيةً بألف دينار لعائشة بنت الصدِّيق رضي الله عنهما، وقد دفنت بالبقيع. فرضي الله عنها وعن سائر أمهات المؤمنين.