مبدأ إنزال الناس منازلهم يحتوي على أقصى درجات الحكمة في التعامل مع الناس، وهو طريق إلى كسبهم في صف الحقِّ والحقيقة، وكما يكون تحقيق هذا المبدأ بالكلام يكون تحقيقه بالفعل، وإليك هذا الشاهد النبوي العظيم في إنزال الناس منازلهم قولًا وفعلًا، والذي كان سببًا في إسلام عدي بن حاتم.
قال ابن هشام رحمه الله: قال عدي بن حاتم: [فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، فدخلت عليه وهو في مسجده فسلمت عليه، فقال: «مَنِ الرجل؟» فقلت: عدي بن حاتم، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامدٌ بي إليه إذ لقيَته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته فوقف لها طويلًا تكلمه في حاجتها، قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بملِكٍ، قال: ثم مضى بي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا دخل في بيته تناول وسادةً في أدم محشوة ليفًا فقذفها إليَّ، فقال: «اجلس على هذه»، قال: قلت: بل أنت فاجلس عليها، فقال: «بل أنت»، فجلست عليها، وجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالأرض.
قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك، ثم قال: «إيه يا عدي بن حاتم، ألم تك ركوسيًّا؟» -من الركوسيَّة، وهم قوم لَهُم دين بَين دين النَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ- قال: قلت: بلى، قال: «أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع؟» قال: قلت: بلى، قال: «فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك»، قال: قلت: أجل والله، وقال: وعرفت أنه نبيٌّ مرسل يعلم ما يُجْهَل، ثم قال: «لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم! فوالله ليوشكنَّ المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه.
ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوِّهم وقلة عددهم؛ فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف.
ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايْمُ الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم»، قال: فأسلمت] اهـ. "سيرة ابن هشام" (5/ 277).
هنا نجد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنزله منزلته؛ بأن أخذه إلى بيته، وأجلسه على الوسادة وجلس -بأبي هو وأمي- على الأرض، وأخذ يعدد ما قد يكون مانعًا من إسلامه، ويرد على تلك الموانع بما هو ملائمٌ لمكانته، بل من حكمته صلى الله عليه وآله وسلم -التي كانت سببًا في إسلام حاتمٍ أن أكرم أخته من قَبْلُ، وأنزلها منزلتها، ومنَّ عليها، وأطلق سراحها، وأكرمها؛ بأن كساها، وأعطاها نفقةً، وما يحملها مع قومٍ تثق بهم، وعند وصولها إلى أخيها قالت له: "أرى والله أن تلحق به سريعًا، فإن يكن الرجل نبيًّا فللسابق إليه فضلُه، وإن يكن ملكًا فلن تذل في عز اليمن، وأنت أنت"، قال: "قلت: والله إن هذا الرأي". "سيرة ابن هشام" (5/ 277).