كان عبد الله بن المبارك من كبار العلماء الصالحين الزُّهَّاد الذين ازْدَانَ بهم تاريخُ المسلمين، وكان أحدَ علاماته المضيئة، ولد سنة 118هـ، وتوفي سنة 181هـ، ومن سماته العظيمة أنه كان رضي الله عنه -مع علمه وورعه وزهده وتقواه- فارسًا شجاعًا، ومقاتلًا مغوارًا؛ فعن عبدة بن سليمان المروزي رضي الله عنه قال: "كنا سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدو، فلما التقى الصفَّان، خرج رجل من العدو، فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه رجل فقتله، ثم آخر فقتله، ثم آخر فقتله، ثم دعا إلى المبارزة، فخرج إليه رجل، فطارده ساعة فطعنه فقتله، فازدحم إليه الناس، فنظرتُ فإذا هو عبد الله بن المبارك، وإذا هو يكتم وجهه بكمه، فأخذت بطرف كمه فمددته، فإذا هو هو. فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنِّع علينا".
فمع ما كان فيه من قوة وفتوة، وانغماس في شؤون المعركة وقتالها، فإنه لم ينسَ أن يُخفي وجهه حتى لا يعرفه أحد، وذلك من شدة إخلاصه لله تعالى، فإنه رضي الله عنه لم يكن يريد أن يُنسب إليه أنه مقاتل جريء مغوار -مخافة الرياء-، وقد ورد تحذير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك فقال: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ» رواه مسلم.
فكان سيدنا عبد الله بن المبارك رضي الله عنه يطبق هذا الهدي النبوي، حتى إذا تعرَّف عليه راوي هذه القصة قال إنه يُشنِّع عليه، وكأنه افتضح أمره حين تم التعرف عليه بعد أن أبلى هذا البلاء العظيم.
وكان نصيب ابن المبارك في العلم وافرًا؛ قال الإمام أحمد بن حنبل: [لم يكن أحد في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه] اهـ. وعن شعبة قال: [ما قدم علينا أحد مثل ابن المبارك] اهـ.
قال الحسن بن عيسى بن ماسرجس مولى ابن المبارك: [اجتمع جماعة مثل الفضل بن موسى، ومخلد بن الحسين، فقالوا: تعالوا نعد خصال ابن المبارك من أبواب الخير، فقالوا: العلم، والفقه، والأدب، والنحو، واللغة، والزهد، والفصاحة، والشعر، وقيام الليل، والعبادة، والحج، والغزو، والشجاعة، والفروسية، والقوة، وترك الكلام فيما لا يعنيه، والإنصاف، وقلة الخلاف على أصحابه] اهـ.
رضي الله عن سيدنا عبد الله بن المبارك ونفعنا بعلومه وسيرته الزكيَّة ورفع قدره وذكره حتى يهتدي به الناس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
- "سير أعلام النبلاء" للذهبي.