التورق المصرفي

تاريخ الفتوى:28 سبتمبر 2015 م

التورق في اللغة: مصدرٌ للفعل: (تَوَرَّق)، وصيغة (التَفَعُّل) التي هي وزان التَوَرُّقِ تأتي في اللغة ويراد بها الصيرورة، كتحجر الطين، وتأتي للتكلف فتستعمل فيما يكتسب من الأفعال، ويحصل بكلفة ومشقة. وعليه فيُفهم من كلمة (التورق): التوجه والسعي بما فيه كلفة وتَعَنٍّ للحصول على النقد. انظر: "معجم مقاييس اللغة" (6/ 101، 102، ط. دار الفكر)، و"تاج العروس" (26/ 458، 466، ط. الكويت)، و"القاموس المحيط" (3/ 280، ط. الأميرية).

ولم ترد التسمية بهذا المصطلح في كتب الفقه القديمة -بحسب ما وقفنا عليه منها- إلا عند فقهاء الحنابلة، ومفهومه عندهم: أنه ابتياع السلعة لأجَلٍ ثم بيعها حالًّا وأخذ ثمنها، بحيث يكون المقصود هو الدراهم، يقول المِرْدَاوي في "الإنصاف" (4/ 337، ط. دار إحياء التراث العربي): [فائدة: لو احتاج إلى نقد، فاشترى ما يساوي مائة بمائة وخمسين، فلا بأس. نص عليه -أي: الإمام أحمد- وهو المذهب، وعليه الأصحاب، وهي مسألة التورق]. اهـ.

ويقترب من مفهوم التورق الفقهي مسألة: (العِينَة) بالكسر، وهي في اللغة: السَّلَف، وفسَّرها الفقهاء بأن يبيع الرجل متاعه إلى أجل ثم يشتريه في المجلس بثمنٍ حالٍّ؛ ليسلم به من الربا، وقيل لهذا البيع: عينة؛ لأن مشتري السلعة إلى أجل يأخذ بدلها عينًا؛ أي: نقدًا حاضرًا. انظر: "المصباح المنير" (441، مادة: عين، ط. دار الفكر).

والفرق بين التورق والعِينَة: أنه في التورق يبيع المُشْتَرَى لغير البائع، أما في العِيْنَة فإنه يبيع للبائع نفسه.

والمصارف الإسلامية تجري نوعين من عقود التورق:
النوع الأول: التورق الحقيقي، وصورته: أن يشتري شخص سلعة من البنك بثمن مؤجل ثم يبيعها على جهة أخرى نقدًا، ليحصل بذلك على حاجته من النقود.

النوع الثاني: التورق المنظم، وتتم هذه المعاملة بشراء شخص سلعة من أحد المصارف الإسلامية بالأجل، ثم يوكل ذلك الشخص المصرف ببيعها قبل أن يقبضها قبضًا حقيقيًّا.

والفرق بين التورق المنظم والحقيقي: أن العميل في المنظم لا يقبض السلعة قبضًا حقيقيًّا ولا يتولى بيعها بنفسه، في حين أن العميل في الحقيقي بالخيار بين أن يحتفظ بالسلعة أو يبيعها بنفسه في السوق؛ لأن قبضه لها قبضًا حقيقيًّا يُمَكِّنُه من التصرف فيها كما يشاء. وقد تضع بعض البنوك خيارات متعددة للعميل في نماذج التورق المنظم؛ بأن تخيره بين قبض السلعة بنفسه أو يوكل البنك أو طرفًا ثالثًا له علاقة بالبنك ببيعها. انظر: "التورق حقيقته وأنواعه" للدكتور إبراهيم الدبو (ص: 2، بحث بالدورة التاسعة عشرة لمجمع الفقه الإسلامي الدولي المنعقدة بدولة الإمارات).

أما النوع الأول من أنواع التورق، وهو ما يسميه الباحثون المعاصرون بـ "التورق الفقهي"، فجمهور العلماء على جوازه؛ وبيان ذلك: أن المعتمد من مذهب الحنفية أن بيع العِينة مكروه. انظر: "الهداية" مع شرحها "فتح القدير" (7/ 211، ط. دار الفكر).

وقد حرَّر الإمام الكمال ابن الهمام المذهب في هذه المسألة؛ فقال في "فتح القدير" (7/ 212، 213) بعد ذكره لصورٍ من بيع العينة: [الذي يقع في قلبي أن ما يخرجه الدافع إن فُعِلَتْ صورةٌ يعود فيها إليه هو أو بعضه... فمكروه، وإلا فلا كراهة إلا خلاف الأولى على بعض الاحتمالات؛ كأن يحتاج المديون فيأبى المسئول أن يقرض، بل أن يبيع ما يساوي عشرة بخمسة عشر إلى أجل فيشتريه المديون ويبيعه في السوق بعشرة حالَّة، ولا بأس في هذا؛ فإن الأجل قَابَلَهُ قسطٌ من الثمن والقرض غير واجب عليه دائمًا، بل هو مندوب، فإن تركه بمجرد رغبة عنه إلى زيادة الدنيا فمكروه أو لعارض يعذر به فلا، وإنما يعرف ذلك في خصوصيات المواد، وما لم ترجع إليه العين التي خرجت منه لا يسمى بيع العينة؛ لأنه من العين المسترجعة لا العين مطلقًا وإلا فكلُّ بيعٍ بيعُ العينة]. اهـ.

أما المالكية فلم ينصوا صراحة على مسألة التورق، والذي يَقرُب من صورة التورق عندهم يندرج تحت بيوع الآجال؛ يقول الشيخ الدردير في "شرحه الكبير لمختصر خليل": [(فصل) في بيوع الآجال: وهي بيوع ظاهرها الجواز لكنها تؤدي إلى ممنوع، ولذا قال: (ومنع) عند مالك ومن تبعه (للتهمة) أي لأجل ظن قصد ما منع شرعًا؛ سدًّا للذريعة (ما) أي بيع جائز في الظاهر (كثر قصده) أي قصد الناس له للتوصل إلى الربا الممنوع وذلك (كبيع وسلف)، أي كبيع جائز في الظاهر يؤدي إلى بيع وسلف، فإنه يمنع للتهمة على أنهما قصد البيع والسلف الممنوع. ثم قال: ولما كان ما تقدم فاتحة لبيوع الآجال أتبعه بالكلام عليها، فما اشتمل على إحدى العلتين المتقدمتين منع وما لا فلا بقوله: (فمن باع) مُقوَّمًا أو مثليًّا (لأجل) كشهر (ثم اشتراه) أي اشترى البائع أو من تنزل منزلته من وكيله أو مأذونه عَيْنَ ما باعه من المشتري أو مَنْ تنزل منزلته (بجنس ثمنه) الذي باعه به وبينه بقوله: (منْ عَيْن)... (وطعام)... (وعَرَض) والواو فيهما بمعنى أو (فإما) أن يشتريه (نقدًا أو للأجلِ) الأولِ (أو) لأجلٍ (أقل) منه (أو أكثر)، فهذه أربعة أحوال بالنسبة للأجل وفي كل منها إما أن يشتريه (بمثل الثمن) الأول (أو أقل) منه (أو أكثر) يحصل اثنتا عشرة صورة (يمنع منها ثلاث وهي ما تعجل فيه الأقل)...وأما التسع صور الباقية فجائزة]. اهـ.

وعلَّق الشيخ الدسوقي في "حاشيته" قائلًا: [(قوله: فما اشتمل على إحدى العلتين المتقدمتين) أي وهما بيع وسلف، وسلف جر منفعة. (قوله: فمن باع لأجل... إلخ): أشار المصنف بهذا إلى أن شروط بيوع الآجال المتطرق إليها التهمة خمسة: أن تكون البيعة الأولى لأجل، فلو كانت نقدًا كانت الثانية نقدًا أو لأجل فليستا من هذا الباب، وأن يكون المشترى ثانيًا هو المبيع أولًا، وأن يكون البائع ثانيًا هو المشتري أولًا أو من تنزل منزلته، والبائع أولًا هو المشتري ثانيًا أو من تنزل منزلته، والمنزل منزلة كل واحد وكيله سواء علم الوكيل ببيع الآخر أو شرائه أو جهله، وأن يكون صنف ثمن الشراء الثاني من صنف ثمنه الأول الذي باع به أولًا]. اهـ. "الشرح الكبير بحاشية الدسوقي" (3/ 76، 77، ط. دار إحياء الكتب العربية).

ويرى الشافعية عدم حرمة بيع العِينَة، ويذكرونها في جملة البيوع المكروهة، فمن باب أولى صورة التورُّق؛ وذلك لأن بيع العينة يبيع فيه المشتري بالآجل للبائع نفسه عاجلًا، أما صورة التورق فإن المشتري يبيع فيها لغير البائع؛ فلأن يجوز البيع لغير البائع أولى من البيع للبائع نفسه.

يقول الإمام النووي في "الروضة" (3/ 416، 417، ط. المكتب الإسلامي): [فصل: ليس من المناهي بيع العِينة -بكسر العين المهملة وبعد الياء نون- وهو: أن يبيع غيره شيئًا بثمن مؤجل ويسلمه إليه، ثم يشتريه قبل قبض الثمن بأقل من ذلك الثمن نقدًا، وكذا يجوز أن يبيع بثمن نقدًا ويشتري بأكثر منه إلى أجل، سواء قبض الثمن الأول أم لا، وسواء صارت العينة عادةً له غالبة في البلد أم لا، هذا هو الصحيح المعروف في كتب الأصحاب]. اهـ.

وأما مذهب الحنابلة فالمعتمد عندهم في حكم التورق هو الجواز. انظر: "كشاف القناع" (3/ 186)، و"الإنصاف" (4/ 337)، و"شرح منتهى الإرادات" (2/ 26، ط. عالم الكتب).

ودليل هذا القول: قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275]، والبيع في الآية الكريمة لفظ مفرد محلى بالألف واللام، وهو يقتضي العموم واستغراق الجنس، ما لم يتحقق معه عهد ذهني أو ذِكْرِي، وهو كذلك في الآية، وعليه فهي دالة على إباحة كل ما يَصدُق عليه أنه بيع، ولا يستثنى من ذلك إلا ما استثناه الشرع.

يقول الإمام القرطبي في "تفسيره" (3/ 356، ط. دار الكتب المصرية) عند الكلام على هذه الآية الكريمة: [هذا من عموم القرآن، والألف واللام للجنس لا للعهد؛ إذ لم يتقدم بيع مذكور يرجع إليه... وإذا ثبت أن البيعَ عامٌّ فهو مخصَّص بما ذكرناه من الربا وغير ذلك مما نهي عنه ومنع العقد عليه؛ كالخمر والميتة وحبل الحبلة وغير ذلك مما هو ثابت في السنة وإجماع الأمة النهي عنه... وهذا مذهب أكثر الفقهاء]. اهـ.

والتورُّق لم يرد نصٌّ أو إجماع يمنع منه، وهو داخل في مسمى البيع؛ لأنه عبارة عن شراء السلعة دَيْنًا ثم بيعها حالًّا، وهو وإن كان الغالب فيه هو الخسارة عن الثمن الآجل، إلا أن هذه الخسارة معوضة بما حصل له فيها من تيسير أمره وقضاء حاجته، فعموم الآية الكريمة متناول له، والأصل في المعاملات الإذن حتى يدلَّ الدليلُ على خلافه؛ لأن الأصل فيها الالتفات إلى المعاني دون التعبد.

وقد روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استعمل رجلًا على خَيبَر فجاءه بتَمرٍ جَنيبٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَكُلَّ تَمر خَيبَرَ هكذا؟» قال: لا، والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاعَ من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لاَ تَفْعَلْ، بِعِ الجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعِ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا».

ووجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرشد الصحابيَّ إلى مخرج للابتعاد عن الربا، إلى وسيلة تحقق مقصود صاحب التمر الرديء من حصوله على تمرٍ جيد مع تفاضلٍ بينهما في المقدار، دون أن يكون وسيلةُ هذا القصد محرَّمة، وذلك بعقدَي بيع مستقلين بعيدين تمامًا عما يفسدهما، ولا يشبهان الربا في شيء، وإن كانت نتيجة هذا التعامل تئول في النهاية إلى نفسِ النتيجة التي كان التعامل يتم بها بالربا- الصاع بالصاعين- فدل ذلك على جواز البيوع التي يتوصل بها إلى تحقيق الغاية منها، إذا كانت بصيغ شرعية بعيدة عن كُنْهِ الصور المحرَّمة.

يقول الحافظ ابن حجر "فتح الباري" (12/ 326، ط. دار المعرفة): [الحيل هي ما يتوصل به إلى مقصود بطريق خفي، وهي عند العلماء على أقسام بحسب الحامل عليها... وفي الحيل مخارج من المضايق، ومنه مشروعية الاستثناء، فإن فيه تخليصًا من الحنث، وكذلك الشروط كلها فإن فيها سلامة من الوقوع في الحرج، ومنه حديث أبي هريرة وأبي سعيد في قصة بلال: «بِعِ الجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعِ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا»] اهـ.

فالتعامل بالتورق طلبًا للحصول على السيولة النقدية جائز، وكون النتيجة التي آلت إليها المعاملة مماثلة لنفس النتيجة التي كان التعامل يتمُّ بها من شراء الصاع بالصاعين، لا يكون مؤثِّرًا في جواز هذا وإباحته؛ لكون ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم حصل بعقدين مستقلين مشروعين لا علاقة لأحدهما بالآخر من حيث الاشتراط، فتبين أن مجرد مشابهة عقد مشروع لآخر ممنوع لا يكفي بالقول بتحريم المشروع.
يضاف إلى ذلك: أن بيع التورق شبيهٌ ونظير لكثير من البياعات غير المحرَّمة، ومن المعلوم أن التجارةَ قائمةٌ على دوران المال على سبيل الاسترباح؛ ولذا ترى للتاجر خيارات كثيرة في تقليب رأس ماله بيعًا وشراءً بالنقد والنسيئة، فقد يشتري نقدًا ويبيع نسيئة أو العكس، ولا فرق أن يكون مقصوده في ذلك الانتفاع بالمبيع، أو الربح منه، أو الحصول على السيولة المالية اللازمة لتدوير رأس ماله، وكل هذه مصالح معتبرة لا يلغيها الشرع الشريف ولا يَكِرُّ عليها بالبطلان.

وأما النوع الثاني من أنواع التورق وهو (التورق المنظم)، فهو جائز أيضًا، ودليل ذلك الآتي:
أولًا: الأدلة المتقدمة على جواز التورق الفقهي، فإذا كان البنك مالكًا السلعة ثم باعها لعميله، ثم قبضها العميل ثم باعها عن طريق البنك فلا إشكال، وإذا وكل البنكَ ليقبض له فلا حرج أيضًا بناءً على الصحيح من مذهب الحنابلة؛ من أنه يجوز توكيل المشتري البائعَ في قبض المبيع. انظر: "الإنصاف" (4/ 469).

بل إنه يجوز للبنك بيعها عن العميل بعد أن يوكله العميل في قبض السلعة عنه، وقد قرر فقهاء الشافعية جواز اتحاد الموجب والقابل في مثل هذه الصورة.

يقول الإمام الزركشي في "المنثور" (1/ 88، 89، ط. وزارة الأوقاف الكويتية): [اتحاد الموجب والقابل يمتنع إلا في مسألتين... (الثانية) إذا وكله في البيع وأذن له في البيع من نفسه وقَدَّر الثمن ونهاه عن الزيادة، ففي «المطلب» أنه ينبغي أن يجوز؛ إذ اتحاد الموجب والقابل إنما يمنع لأجل التهمة، بدليل الجواز في حق الأب والجد]. اهـ، بل إنه يجوز أن يبيعها البنك عن العميل ولو إلى نفسه أو إلى هيئة تابعة له، بناء على إحدى الروايتين عن الإمام أحمد في جواز بيع الوكيل لنفسه، واختارها من الحنابلة: ابن عبدوس في "تذكرته"، وقدَّمه ابن قاضي الجبل في "الفائق". انظر: "الأشباه والنظائر" (280، ط. دار الكتب العلمية)، و"الفروع" (4/ 354)، و"الإنصاف" (5/ 375، 376).

فإن قيل: هذا يئُول إلى العِينة، وهي محرَّمة شرعًا؛ لما رواه ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ الله عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ». رواه أحمد وأبو داود واللفظ له. قلنا: لا نسلِّم أنها محرمة شرعًا، والدليل على جوازها حديثُ الصحابي الذي جاء بتمر جنيب من خيبر السابق ذكره، وفيه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم له: «لاَ تَفْعَلْ، بِعِ الجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعِ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا»، وهذا الحديث مطلق؛ لم يفرق فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين صورة دخول شخص ثالث في الصفقة، وصورة أن يتم البيع والشراء بين اثنين دون توسط ثالث، والقاعدة أن المطلق يجري على إطلاقه حتى يرد ما يقيده.

يقول الإمام النووي في "شرح مسلم" (11/ 21، ط. دار إحياء التراث العربي): [واحتج بهذا الحديث أصحابنا وموافقوهم في أن مسألة العِينة ليست بحرام، وهي الحيلة التي يعملها بعض الناس توصلًا إلى مقصود الربا بأن يريد أن يعطيه مائة درهم بمائتين، فيبيعه ثوبًا بمائتين ثم يشتريه منه بمائة. وموضع الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: بِيعُوا هذا واشتروا بثمنه من هذا، ولم يفرق بين أن يشتري من المشتري أو من غيره، فدلَّ على أنه لا فرق، وهذا كله ليس بحرام عند الشافعي وآخرين]. اهـ.

والحديث المستدل به على التحريم لا يثبت؛ ففي إسناده أبو عبد الرحمن الخراساني إسحاق بن أسيد، قال فيه أبو حاتم: شيخ ليس بالمشهور ولا يشغل به، وقال ابن عدي: مجهول، وقال ابن حبان: يخطئ، وذكر النباتي في ذيل الكامل أن الأزدي قال فيه: منكر الحديث تركوه. انظر: "تهذيب التهذيب" (1/ 198، ط. مطبعة دائرة المعارف النظامية بالهند).

وقد عَدَّ الذهبي في "الميزان" هذا الحديث من مناكيره. انظر: "ميزان الاعتدال" (4/ 547، ط. دار المعرفة). وأشار التقي السبكي لتضعيفه في "تكملته للمجموع" (10/ 145).

ثانيًا: أن التورق المصرفي عقد اشتمل على الأركان والشروط الظاهرية المعتبرة في عقد البيع، مما يلزم منه صحته، فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ...» الحديث، يصح الاستدلال به على أن الأصل في العقود هو تحقيق صورتها الشرعية، بعيدًا عن نية المتعاقدين، وأن الأصل أن العبرة في العقود للألفاظ دون المعاني، وعليه فالمعتد به في ذلك هو صيغة العقد وصورته، وليس النيات والقصود، وإذا ثبتت صحة العقد فالأصل أنه يَلزم مِن الصحة الجواز؛ لأن الصِّحَّة هي: موافقة وقوع الفعل ذي الوجهين الشرعَ، وكون الشيء يوافق الشرع يقتضي أنه مأذون فيه، والإذن ينافي المنع الذي هو مُقتَضَى التحريم.

ثالثًا: عقد التورق عقد تدعو إليه الحاجة الآن، وهي حاجة معتبرة، فهو كغيره أحدُ صيغ التمويل الإسلامي والذي يُعد بديلًا عن كثير من المعاملات غير الشرعية في البنك التقليدي، كما أن الحكومات بتطبيق هذا النظام في مصارفها يكون لها قدرة على سدِّ ما يسمى بـ"العجز التجاري"، بدلًا من سده بطرق محرمة شرعًا كأذونات الخزينة مثلًا. وتعليل الجواز بدعوى الحاجة تعليل معتبر؛ يقول الإمام السرخسي في "المبسوط" (15/ 75): [وحاجة الناس أصلٌ في شرع العقود، فيشرع على وجه ترتفع به الحاجة، ويكون موافقًا لأصول الشرع]. اهـ.

بل إن هذه الحاجة لا تنفي التحريمَ فحسب، بل تنفي الكراهة أيضًا التي نص عليها المتأخرون من الشافعية في بيع العينة؛ لأن الكراهة تزول بالحاجة، كما نص على ذلك العلامة السَّفَّاريني في "غذاء الألباب" (1/ 323، 1/ 420، 2/ 18، ط. مؤسسة قرطبة بمصر).

ولا يقال: إن هذا التورق المصرفي المُنَظَّم فيه شبهة التحايل على الحرام، حيث تتضمن تواطؤًا بين الممول والمستورق صراحةً أو ضمنًا أو عرفًا يهدف إلى التحايل لتحصيل النقد الحاضر بأكثر منه في الذمة، وهو ربا، فالسلعة في التورق غيرُ مقصودة البتة، وإنما دخلت لتحليل أخذ نقود عاجلة بنقود آجلة أكثر، فهو حيلة للوصول إلى محرَّم، فلا يجوز.

وجوابه ما سبق أن قررناه من أن العبرة في العقود بالظاهر وبالألفاظ، فالنوايا والقصود أمور باطنة؛ لذا فاللفظ هو المعتبر؛ لأنه هو الظاهر المنضبط.

يقول الإمام الماوردي في "الحاوي" (5/ 642، ط. دار الفكر) في معرض الرد على من حرَّم العِينة: [وأما الجواب عن قولهم: إنه ذريعة إلى الربا الحرام، فغلط، بل هو سبب يمنع من الربا الحرام، وما منع من الحرام كان ندبًا]. اهـ.

ولا يقال أيضًا: إن هذا التورق فيه بيع قبل قبض، وهو غير جائز شرعًا؛ لأننا لا نسلم أن القبض لم يحصل، بل هو قد حصل حكمًا بمجرد استلام المشتري للعقد الذي يتيح له مطلق التصرف في المبيع، والمنصوص فيه على الأوصاف التي تعيِّن السلعة؛ إذ القبض في كل شيء بحسبه كما نص عليه فقهاء الشافعية. انظر: "حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج" (5/ 290، ط. دار الفكر). والقول بأنه لا بد له من القبض الحقيقي بمعنى الحيازة وإلا لم يصح قبضُه- لا يعدو إلا أن يكون ضربًا من الخيال وبعيدًا كل البعد عن معاني الشريعة. على أن هذا البيع قد يُكَيَّف على أنه من قبيل بيع العين الغائبة، وهو جائز إذا علم جنسها ونوعها وصفتها؛ لانتفاء الغرر حينئذ.

وعليه: فإن عقد البيع الأول يتم بين البنك وبين المستورق، ثم يقوم البنك بالوكالة عن المستورق في قبض العين الغائبة ثم في بيعها، فالقبض هنا يحصل فعليًّا عن طريق الوكيل، فلا يكون البيع الثاني بيعًا قبل القبض، ثم إن صعوبة استلام المشتري للسلعة بنفسه أو استحالته أحيانًا لا تقتضي عدم وجودها؛ لإمكان حصول الاستلام بواسطة وكيله، فقد تتوفر في الوكيل أمور وصلاحيات تجعل تعامله مع جهات البيع والشراء أيسر من تعامل موكله المباشر، ومثال ذلك الأعمى يوكل بصيرًا لشراء سلعة واستلامها وبيعها.

فظهر بهذا أن التورق بصورتيه الفقهي والمصرفي جائز، ولكن مع مراعاة الضوابط الآتية:
أولًا: أن يمتلك البائع الأول- المصرف- السلعة قبل أن يبيعها على المستورق -المشتري- للنهي عن بيع ما ليس عند الإنسان؛ فعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يأتيني الرجل يسألني من البيع ما ليس عندي أبتاع له من السوق ثم أبيعه؟ قال: «لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ». رواه الأربعة.

ثانيًا: أن لا يبيع المستورق -المشتري- السلعةَ إلا بعد قبضها حقيقة أو حكمًا؛ لأنه إذا لم يقبضها لم يكن ملكه مستقرًّا عليها، وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أبو داود أن تُبَاع السلع حيث تُبتاع حتى يحوزَها التجارُ إلى رحالهم، وقال لحكيم بن حزام -عندما قال له: يا رسول الله إني أشتري بيوعًا فما يحل لي منها وما يحرم علي؟-: «إِذَا اشْتَرَيْتَ بَيْعًا، فَلَا تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ». رواه أحمد، ويجوز في ذلك أن يوكِّل المستورق- كما سبق تقريره.

ثالثًا: أن تكون السلعة المباعة حالَّة غير مؤجلة، لئلا يلزم بيع الكالئ بالكالئ. وقد روى ابن عمر رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ". رواه الدارقطني بإسناده ضعيف، لكنْ قال الإمام أحمد: ليس في هذا حديث يصحُّ لكنَّ إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين. انظر: "المطالب العالية" (7/ 305)، وقد فُسِّر بيع الكالئ بالكالئ بأنه بيع الدَّين بالدَّين. والله سبحانه وتعالى أعلم.

مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 29 أبريل 2025 م
الفجر
4 :39
الشروق
6 :14
الظهر
12 : 52
العصر
4:29
المغرب
7 : 31
العشاء
8 :55