اعتبار قول ما من أقوال الفقهاء من عدمه، شرطه أن يكون مأخذه قويًّا؛ ومعناه قوة دليله، فإن كان ضعيفًا فلا يؤبَهُ به، وأولى منه ما لا دليل عليه أصلًا.
وقد عبَّر عن هذا الشرط الإمام السيوطي في "الأشباه والنظائر" (ص: 137، ط. دار الكتب العلمية) فقال: [أن يقوى مُدرَكه بحيث لا يعد هَفْوة] اهـ.
ومن أسباب ضعف الـمُدرَك:
مخالفة النص الصريح أو الإجماع؛ لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء: 59]، وقوله تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ﴾ [المائدة: 49]، وقَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ﴾ [الشورى: 10]، وقال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ» متفق عليه.
ومن أسباب ضعف الْمُدْرَك أيضًا:
مخالفته للقياس الجلي، وهو ما كانت العلة فيه منصوصًا عليها، أو قطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع، ومثاله: إلحاق تحريم ضرب الوالدين بتحريم التأفيف لهما بعلة كف الأذى عنهما، وقياس ولاية النكاح على ولاية المال في ثبوت الولاية على الصغير بجامع الصغر في كل منهما.
وأكثر الأصوليين على أن مخالفة قول الفقيه للقياس الجلي من أمارات ضعفه، حتى إنه ينقض قول القاضي إذا قضى بخلاف هذا القياس، ولا ينخرق الإجماع بمخالفة هذا القول المخالِف.
وقد نقل الإمام الزركشي عن الإمام أبي إسحاق الإسفراييني أن هذا هو رأي جمهور أهل العلم -انظر: "البحر المحيط" (4/ 271، ط. دار الكتبي)-، وكذا ذكر الإمام أبو العباس القرطبي في "شرحه على صحيح مسلم" أن هذا قول جل الأصوليين والفقهاء -راجع: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (1/ 543، ط. دار ابن كثير ودار الكلم الطيب)-، وذلك في سياق كلامهما على مخالفة الظاهرية للإجماع وأنه لا يعتد بمخالفتهم، والسبب في عدم الاعتداد ما أغربوا فيه من أصول شذُّوا بها عن باقي العلماء، ومن أهمها القياس الجلي الذي أنكره الإمام ابن حزم وبالغ في إنكاره، وقد نصَّ على هذا السبب القاضي أبو بكر الباقلاني، والإمام أبو إسحاق الإسفراييني، والإمام الجويني وتلميذه حجة الإسلام الغزالي -انظر: "البرهان" (2/ 819، بتحقيق الدكتور عبد العظيم الديب)، و"البحر المحيط" (4/ 471-472)-، فيمكن القول إذًا بأن جمهور الأصوليين على عدم الاعتداد بمن قال قولًا خالف فيه القياس الجلي.
وما ذكره الإمام الإسفراييني والإمام القرطبي هو قول غير واحد من أهل العلم:
- فمن الشافعية: الأئمة: النووي، والزركشي، وابن دقيق العيد، وابن أبي هريرة، وأبو الحسين المَرْوَزي، وإمام الحرمين، وأبو حامد الغزالي، وابن الصلاح. انظر: "شرح النووي على صحيح مسلم" (1/ 142، ط. دار إحياء التراث العربي)، و"البحر المحيط" (4/ 472-474، و6/ 291)، و"شرح الإلمام" لابن دقيق العيد (1/ 413، ط. دار أطلس للنشر والتوزيع)، و"البرهان" (2/ 819)، و"فتاوى ابن الصلاح" (ص: 69، ط. مكتبة العلوم والحكم، ودار عالم الكتب).
- ومن المالكية: الأئمة: القاضي أبو بكر الباقلاني، وابن بطال، وابن العربي، والدردير -انظر: "المفهم" (1/ 543)، و"شرح صحيح البخاري" لابن بطال (1/ 352، ط. مكتبة الرشد)، و"عارضة الأحوذي" (10/ 111، ط. دار الكتب العلمية)، و"بلغة السالك" (2/ 389)-، وكلام الإمام الشوكاني يفيد ذلك -راجع: "إرشاد الفحول" (1/ 215، ط. دار الكتاب العربي)-.
أما القياس الخفي فمعظم من لم يعتدوا بالظاهرية فيما خالفوا فيه القياس الجلي، معظمهم لم يعتدوا بهم في خلافهم القياس الخفي أيضًا، وخالفهم في ذلك الإمام ابن الصلاح؛ حيث يقول في "فتاويه" (1/ 2079): [الذي اختاره الأستاذ أبو منصور في هذا وذكر أنه الصحيح من المذهب أنه يعتبر خلافه -أي أبي سليمان داود الأصبهاني- في الفقه الذي استقر عليه الأمر آخرًا فيما هو الأغلب الأعرف من صفوة الأئمة المتأخرين الذين أوردوا مذاهب داود في إثبات مصنفاتهم المشهورة في الفروع كالشيخ أبي حامد الإسفراييني وصاحبه المَحَامِلي وغيرهم رضي الله عنهم، فإنه لولا اعتدادهم بخلافه لما أوردوا مذاهبه في أمثال مصنفاتهم هذه لمنافاة موضوعها لذلك، وبهذا أجبت مستخيرًا الله تعالى مستعينًا مما بناه داود من مذهبه على أصله في نفي القياس الجلي وما اجتمع عليه القياسيون من أنواعه أو على غيره من أصوله التي قام الدليل القاطع على بطلانها، فاتفاق من عداه في مثله على خلافه إجماع منعقد، وقوله: "في مثله معدود" خارق للإجماع] اهـ.
وكلام الإمام ابن السبكي يفيد ما يقوله الإمام ابن الصلاح؛ حيث يقول في "طبقاته" (2/ 290، ط. دار هجر): [للظاهرية مسائل لا يعتد بخلافه -أي داود- فيها، لا من حيث إن داود غير أهل للنظر، بل لخرقه فيها إجماعًا تقدمه -وعذره أنه لم يبلغه-، أو دليلًا واضحًا جدًّا] اهـ.
والشاهد فيه قوله: "أو دليلًا واضحًا جدًّا"، وليس منه القياس الخفي بلا نزاع.
والشاهد من كلام الإمام ابن الصلاح قوله: "اجتمع عليه القياسيون من أنواعه"، والقياس الخفي ليس من هذا القبيل؛ لاختلاف الفقهاء في كل نوع من أنواع القياس الخفي في علة الأصل الذي بني عليه القياس، فقياس القتل بالمُثَقَّل على القتل بالمُحَدَّد مثلًا لم يُقْطَع فيه بإلغاء الفارق بينهما، حتى يقال بوجوب القصاص في كل منهما؛ ولذلك لم يَرَ الإمام أبو حنيفة القصاص في القتل بالمُثَقَّل. انظر: "بدائع الصنائع" (7/ 234، ط. دار الكتب العلمية).
وكلام الإمام ابن الصلاح أوجه مما ذكره الجمهور؛ لأن القياس مبناه على علة الأصل، فإذا لم ينص أو يجمع عليها خرجت من القطع إلى الظن، وما بني على ظني فهو ظني، فليس في مخالفة الظن ما يستدعي الإنكار، إذ ليس فيه معارضة للقواطع، ولذا يقول الإمام الشاطبي: الظني الذي لا يشهد له أصل قطعي ولا يعارض أصلًا قطعيًّا محل نظر -راجع: "الموافقات" (3/ 184)-، أي محل نظر في العمل به، فلم يطلق الرد كما في الظني المعارَض بقطعي.
ولا يصح أن يقال: إن القياس أصلًا لا يفيد إلا الظن؛ لأن فرض الكلام أن القياس الجلي من أنوع القياس، لا من فحوى الخطاب أو لحنه، فهو -أي القياس الجلي- يفيد القطع، بخلاف الخفي، فالظنية ثابتة له لا محالة.
وينبغي التنبيه على أن ذِكْر داود في كلام الإمام ابن الصلاح وابن السبكي جرى مجرى التمثيل فحسب، فلو أن فقيهًا آخر خالف ما ذكره الإمام ابن الصلاح والإمام ابن السبكي في عبارتيهما، فلا شك في رد قوله وعدم اعتباره؛ إذ لا دخل لشخص القائل في اعتبار قوله قويًّا أو ضعيفًا؛ فلا تقديس للرجال، ولا نظر إلى صفاتهم، بل إلى أقوالهم ومداركها، فمن قوي مدركه اعتد بخلافه وإن كانت مرتبته في الاجتهاد دون مرتبة مخالفه، ومن ضعف مدركه لم يعتد بخلافه وإن كانت مرتبته أرفع، وربما قوي مدرك لأحدهم في بعض المسائل دون بعض، بل هذا لا يخلو عنه مجتهد، فالقداسة للحق ولو مع أي شخص كان.
وتأسيسًا على ما سبق: فإن قول فقهاء الظاهرية وغيرهم إن اعتمد على مُدْرَكٍ قويٍّ صَحَّ ودخل في معادلة الترجيح بحسب ما يظهر من المرجِّحات، وإن ضعف مدركه لأيِّ سببٍ كان فلا يعد صحيحًا، وقد نبَّه العلماء على أن مجرد ضعف القول ليس مبررًا لعدم الأخذ به، ولذلك أجازوا العمل بالقول الضعيف لحدوث ضرورة، أو لجلب مصلحة راجحة، أو دفعًا لمفسدة؛ يقول العلامة ابن عابدين في "منظومة عقود رسم المفتي" (1/ 43، ط. مركز توعية الفقه الإسلامي بالهند):
ولا يجوز بالضعيف العمـــــــــــل إلا لعــــــــــــامل له ضـــــــرورة
ولا به يجـــــــاب من جا يسأل أو مـــــــن له معــــــــرفة مشهورة
وقد نقل العلامة ابن عابدين في "شرحه" لهذين البيتين أقوال الأئمة في العمل بالضعيف، والذي يستخلص أن الشرط في القول الضعيف ألَّا يكون شديد الضعف بحيث يعد متروكًا؛ ولذلك يُحَدُّ شارب النبيذ، ولا عبرة بخلاف أبي حنيفة؛ لأن أدلة عدم تحريم النبيذ واهية -راجع: "مغني المحتاج" (6/ 11، ط. دار الكتب العلمية)-، ولم يلتفت إلى قول عطاء بن أبي رباح في إباحة وطء الجواري بالعارية؛ لافتقار هذا الرأي لدليل صحيح معتبر، فيُحَدُّ من فعل هذا أيضًا.
وآراء الظاهرية في المسائل القياسية الجلية والتي جمدوا فيها على الظاهر من قبيل المتروك، وكثير من المسائل التي انفردوا بها عن فقهاء المذاهب الأربعة فيما يستند إلى القياسات الجلية ولم يتابعهم فيها أحد من قبيل تلك المسائل؛ كقولهم في جواز التغوط في الماء الراكد وصب البول فيه. ينظر: "المحملى" (11/ 124، و1/ 145، و7/ 401، ط. دار الفكر).
وقد يقع أيضًا أن ما خالفوا به بعض الفقهاء من المذاهب الأربعة قد وافقوا فيه غيرهم؛ فالأخذ بقولهم في هذه الحالة ليس ملحوظًا فيه أنه رأي الظاهرية فقط، بل منسوبًا لغيرهم كذلك.
أما ما خالفوا به قياسًا خفيًّا فيعتبر؛ لأن مبناه على الظن -كما سبق-.
يقول الإمام الذهبي الشافعي في "سير أعلام النبلاء" (13/ 106-107، ط. مؤسسة الرسالة) في ترجمة داود بن علي إمام الظاهرية: [لا ريب أن كل مسألة انفرد بها وقطع ببطلان قوله فيها فإنها هدر، وإنما نحكيها للتعجب، وكل مسألة له عضدها نص وسبقه إليها صاحب أو تابع فهي من مسائل الخلاف فلا تهدر.
وفي الجملة فداود بن علي بصير بالفقه، عالم بالقرآن، حافظ للأثر، رأس في معرفة الخلاف، من أوعية العلم، له ذكاء خارق، وفيه دين متين، وكذلك في فقهاء الظاهرية جماعة لهم علم باهر وذكاء قوي، فالكمال عزيز، والله الموفق. ونحن نحكي قول ابن عباس في المتعة وفي الصرف وفي إنكار العول، وقول طائفة من الصحابة في ترك الغسل من الإيلاج وأشباه ذلك، ولا نُجَوِّز لأحد تقليدهم في ذلك] اهـ، ويقول أيضًا: [بكل حال فلهم أشياء أحسنوا فيها، ولهم مسائل مستهجنة يشغب عليهم بها] اهـ.
وعليه: فإنه إن قَوِيَ مُدْرَكُ قول الظاهرية فإنه يجوز الأخذ به.
والله سبحانه وتعالى أعلم.